رياض المسائل في تحقيق الأحكام بالدّلائل - المقدمة

مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم

رياض المسائل في تحقيق الأحكام بالدّلائل - المقدمة

المؤلف:

مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم


المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-089-7
الصفحات: ٥١٩

١
٢

٣
٤

بسم اللّه الرحمن الرحيم

الحمد للّه بجميع محامده كلّها على جميع نعمه كلّها ، ثمَّ الصلاة والسلام على أشرف أنبيائه وخاتم رسله وخير بريّته محمّد المصطفى وآله الأطياب الأطهار.

أمّا بعد ، فإنّ اللّه قد شرّف الفقه وجعله أفضل العلوم ، وأمر بتعلّمه وتعليمه بنصّ القرآن الكريم وعلى لسان نبيّه الأمين وعترته الميامين.

ولقد استطاعت المؤسّسة الفقهيّة الشيعيّة ـ وبفضل ديمومة عطائها ، وعظم حيويتها ، وتكريسها لحركة الفكر والعقل ـ أن تكون الرائد الذي لا يجارى في هذا المضمار ، ابتداءً بمدرستي المدينة المنوّرة والكوفة وما ثبّته أمير المؤمنين والصادقين عليهم‌السلام من الأسس المتينة ، ومروراً بمدرسة الريّ ، ثمَّ بغداد والنجف والحلّة وجبل عامل وأصفهان والبحرين وكربلاء ، وانتهاءً بقم في عصرنا الحاضر.

٥

والملاحظ أنّ حركة الفقه والاجتهاد قد انبثق منها محوران أساسيان خلال مسيرتها المباركة ، كلّ واحد منهما يمثّل مصداقا بارزاً وعنواناً مضيئاً لهذه المؤسّسة ، بما له من الميزة والاختصاص ، من دون أن يكون منافيا للآخر ، فهما صنوان لا يفترقان.

أحدهما : الفقه الفتوائي.

وهو الذي يعتني ببيان الأحكام والفتاوى الشرعيّة من دون التعرّض إلى أدلّتها بالنقض والإبرام ويعرف من خلاله ـ وعند ذوي الاختصاص ـ مدى دقّة مصنّفه وقوة مبانية وبراعته في إرجاع الفرع إلى الأصل.

ومصاديقه كثيرة ، منها : المقنعة للشيخ المفيد ، والنهاية والمبسوط لشيخ الطائفة الطوسي ، والمهذّب لابن البرّاج ، والمختصر النافع للمحقّق الحلّي ، والقواعد والتبصرة للعلّامة الحلّي ، واللمعة للشهيد الأوّل .. وغيرها ، مضافا إلى الرسائل العملية لفقهائنا المعاصرين.

وقد يكون الغرض في بعض تلك المصنّفات صيرورتها دستوراً عمليّاً للعوامّ من المؤمنين الذين لا بدّ لهم من الرجوع إلى فتاوى الفقهاء ، وذلك مثل : الرسائل العمليّة للفقهاء المعاصرين.

وفي بعضها الآخر ـ ولأجل أنّ عباراتها كانت مضغوطة معقّدة ، لم تكن ملائمة لعوامّ الناس ـ صيرورتها متوناً دراسيّة لطلّاب الفقه ، وذلك مثل : قواعد الأحكام وتبصرة المتعلّمين.

الآخر : الفقه الاستدلالي.

وهو الذي يهتمّ بالتفصيل في عرض الأحكام الشرعيّة مع أدلّتها ، بالقبول أو الردّ ، بالترجيح أو التضعيف ، بالإبرام أو النقض ، على نحو من التوسّع في البيان ، والإحاطة بالأسانيد والأقوال ، وكثرة الفروع وتشعّبها ،

٦

ملحوظا فيه جانب البحث والمناقشة والعرض العلميّ بشكل جلي.

ومن أمثلته : منتهى المطلب للعلّامة الحلّي ، والذكرى للشهيد الأوّل ، والمسالك والروضة للشهيد الثاني ، وجامع المقاصد للمحقّق الكركي ، ومجمع الفائدة للأردبيليّ ، والمدارك للسيّد السند ، وكشف اللثام للفاضل الهندي ، ورياض المسائل للطباطبائي ، والمستند للنراقي ، والجواهر للشيخ محمّد حسن النجفي ، وغيرها.

ولقد مرّ الفقه الشيعي بعدّة أدوار ، يعتقد البعض أنّها سبعة : التشريع ، التدوين ، التطوّر ، الجمود والتقليد ، النهوض ، الرشد والنمو ، التكامل وهذا الأخير استطاع فيه الفقه الشيعي أن يبلغ ذروته من حيث المتانة ، والمرتبة الرفيعة من الدقّة ، والضبط ، وتقوية الأصول ، وتفريع الفروع ، ورقيّ الاستنباط.

ولعلّ هذه الدرجة السامية ، والمقام الشامخ ، والنضوج التام ، هي حصيلة النزاع الذي كان دائرا آنذاك بين المدرسة الأخباريّة ومدرسة الفقه والاجتهاد ، فقد كانت الاولى سائدة ومزدهرة في كربلاء بعد أن تركّزت وانتشرت في البحرين.

ولا يبعد أن يقال : إنّ فكرة الأخباريّة في الإماميّة قد نشأت منذ عهد قديم في قبال فكرة الاجتهاد.

فالاتّجاه الأخباري يعتمد الجمود على ظواهر النصوص ، بينما يعتمد الاتجاه الاجتهادي ـ بالإضافة إلى ظواهر النصوص ـ الإدراك العقلي ، ويقيس ظواهر النصوص على أمور خارجة عن نطاقها من المدركات العقليّة والأصول المسلّمة.

وهذان الاتّجاهان قد شكّلا في الفقه العامّي والإمامي مدرستين‏

٧

متقابلتين ، فنشأت في الأوّل مدرسة الرأي والقياس ، وعلى رأسها أبو حنيفة وفي قبالها مدرسة الظاهريّة ، وعلى رأسها داود الظاهري وأحمد بن حنبل.

ونشأت في الثاني مدرسة الاجتهاد والاستنباط ، وعلى رأسها أمثال : زرارة بن أعين ويونس بن عبدالرحمن والفضل بن شاذان ، وفي قبالها مدرسة كان يعبّر عن أهلها بأصحاب الحديث أو الحشويّة.

ولا نعني بهذه المقارنة إثبات وحدة المسلكين ـ الظاهري والأخباري أو القياسي والاجتهادي ـ كلّا ، فإنّ بينهما فوارق أساسيّة ، فإنّ مثل زرارة ويونس برئ من القول بالقياس الذي تبنّاه أبو حنيفة وأصحابه (١).

وإنّما عنينا بهذه المقارنة اشتراك المدرسة الظاهريّة في الفقه العامّي والأخباريّة في الفقه الإمامي في نقطة ، هي شجب الإدراك العقلي والجمود على محتوى الحديث ، وتقترن هذه الفكرة في الغالب بتسرّع في تصديق الأخبار ، وحسن ظنّ بالرواة ، وقلّة التدبّر في مضمون الروايات ، مع ما كان يمتلكه أصحابها من شموخ في الفضيلة وعلوّ في المرتبة.

وقد أشار الشيخ المفيد رحمه‌الله إلى جماعة منهم بقوله : لكنّ أصحابنا المتعلّقين بالأخبار أصحاب سلامة وبعد ذهن وقلّة فطنة ، يمرّون على وجوههم فيما سمعوه من الأحاديث .. (٢).

وقد شكاهم شيخ الطائفة في مقدّمة المبسوط بقوله : وتضعف نيّتي‏

__________________

١ ـ وإن كانوا قد نسبوا ٍٍ الي القول باقياس ، فإنّ له معني آخر لا مجال لذكره هنا .. وهذه النسبة هي من الشواهد على وجود اتّجاه عقليّ في الأشخاص المنسوب إليهم يشابه القياس في بعض الجهات

٢ ـ حكاه عنه كشف القناع : ٢٠٣.

٨

أيضا فيه ـ أي في عمل كتاب يشتمل على مسائل الفروع ـ قلّة رغبة هذه الطائفة فيه ، وترك عنايتهم به لأنّهم ألفوا الأخبار وما رووه من صريح الألفاظ ، حتّى أنّ مسألة لو غيّر لفظها وعبّر عن معناها بغير اللفظ المعتاد لهم لعجبوا منها وقصر فهمهم عنها (١).

وأشار إليهم المحقّق في أوّل المعتبر ، وعبّر عنهم بالحشويّة (٢).

وعن نهاية الأصول للعلّامة قدس‌سره في مقام إثبات حجّية خبر الواحد : أمّا الإماميّة ، فالأخباريون منهم لم يعوّلوا في أصول الدين وفروعه إلّا على أخبار الآحاد المرويّة عن الأئمّة عليهم‌السلام ، والأصوليون منهم ـ كأبي جعفر الطوسي وغيره ـ وافقوا على خبر الواحد ، ولم ينكره سوى المرتضى وأتباعه (٣).

ثمَّ إنّ الاتّجاه الأخباري وإن كان موجوداً بين الإمامية منذ عصر قديم ، ولكن الفكرة السائدة بينهم هي فكرة الاجتهاد والأصول ، التي كانت متمثّلة في كتب المفيد والمرتضى والطوسي والحلّي والمحقّق والعلّامة والشهيد الأوّل والكركي والشهيد الثاني والأردبيلي وتلميذيه صاحبي المدارك والمعالم وغيرهم ، ومع اختلافهم في الآراء الأصوليّة وطريقة الاستنباط ، لكنهم متّفقون على شجب فكرة الأخباريّة.

وفي أوائل القرن الحادي عشر تحوّلت الفكرة الأخبارية إلى حركة في ساحة التدوين والتأليف ووضع أسسها الميرزا محمد أمين الأسترآبادي قدس‌سره ( ١٠٣٢ ه‍ ) فألّف لهذه الغاية كتابه « الفوائد المدنيّة ».

__________________

١ ـ المبسوط ١ : ٢.

٢ ـ المعتبر : ٢٩.

٣ ـ حكاه عنه في كشف القناع : ٢٠٣.

٩

قال المحدّث البحراني قدس‌سره في المقدّمة الثانية عشرة من الحدائق : ولم يرتفع صيت هذا الخلاف ولا وقوع هذا الاعتساف إلّا من زمن صاحب الفوائد المدنيّة سامحه اللّه تعالى برحمته المرضيّة ، فإنّه قد جرّد لسان التشنيع على الأصحاب ، وأسهب في ذلك أيّ إسهاب ، وأكثر من التعصّبات التي لا تليق بمثله من العلماء الأطياب (١).

وقد تأثّرت بأفكاره من بعده جماعة من أجلّة علمائنا المحدّثين ، من قبيل : المحدّث الفيض الكاشاني والمحدّث الحرّ العاملي قدّس سرّهما ، فصنّف الفيض كتابه « الأصول الأصلية » والذي هو كالتلخيص للفوائد المدنيّة ، وإن خالفها في بعض المواضيع.

وفي تلك الفترة ـ أي القرن الحادي عشر حتى أواسط القرن الثاني عشر ـ نشأت في مدرسة الإماميّة حركة نشيطة همّها جمع الأحاديث أو شرحها ، وهي حركة مباركة أمدّت العلوم الإسلاميّة بشتى أشکالها ، فالّفت موسوعات حديثيّة من قبيل : وسائل الشيعة وبحار الأنوار والوافي ، وشروح وتعليقات على كتب الحديث ، مثل : روضة المتّقين ، مرآة العقول ، ملاذ الأخيار.

وقد أصاب الفقه الاجتهادي في ذلك العصر شيء من الفتور ، ولكن ذلك لم يقف حائلا أمام ديمومة حركته ، فقد صنّفت في تلك الفترة ـ وعلى مبنى الاجتهاد ـ مؤلّفات.

منها : كشف اللثام في شرح قواعد العلّامة ، لمحمّد بن الحسن الأصبهاني المعروف بالفاضل الهندي ( ١١٣٥ هـ ) الذي يعتمد عليه في الجواهر على حدّ كبير ، وحكي أنّه لا يكتب شيئا من الجواهر لو لم يحضره‏

__________________

١ ـ الحدائق الناظرة ١ : ١٧٠.

١٠

ذلك الكتاب (١).

ومنها : مشارق الشموس في شرح الدروس ، للمحقّق الكبير السيّد حسين الخوانساري ( ١٠٩٨ هـ ) فإنّه وإن لم يبرز منه إلّا كتاب الطهارة ، لكنّه مشحون بتحقيقات أصوليّة يحكيها عنه المتأخّرون ، مثل الشيخ الأعظم الأنصاري. وذكر المحقّق التستري : أنّ الوحيد البهبهاني قد يعبّر عن الخوانساري بأستاذ الكلّ في الكلّ (٢).

ثمَّ في أواخر القرن الثاني عشر وجد المسلك الأخباري نفسه وجهاً لوجه أمام بطل الاجتهاد العملاق وفذّه المقدام ، طود العلم الشامخ ، الأستاذ الأكبر ، وحيد الدهر وفريد العصر ، مولانا العلّامة محمّد باقر البهبهاني ( ١٢٠٦ هـ ) الذي كرّس غاية جهوده لأجل عزل هذا المسلك وإضماره ، فكان أن نال من التوفيق ذروته ، ومن النصر أعزّه وأبهاه.

وقد وصفه المحقّق التستري بقوله : شيخنا العظيم الشأن ، الساطع البرهان ، كشّاف قواعد الإسلام ، حلّال معاقد الأحكام ، مهذّب قوانين الشريعة ببدائع أفكاره الباهرة ، مقرّب أفانين الملّة المنيعة بفرائد إنظاره الزاهرة ، مبيّن طوائف العلوم الدينيّة بعوالي تحقيقاته الرائقة ، مزيّن صحائف الرسوم الشرعيّة بلئالي تدقيقاته الفائقة ، فريد الخلائق ، واحد الآفاق في محاسن الفضائل ومكارم الأخلاق ، مبيد شبهات اولي الزيغ واللجاج والشقاق على الإطلاق بمقاليد تبيانه الفاتحة للأغلاق الخالية عن الإغلاق ، الفائز بالسباق الفائت عن اللحاق .. (٣).

__________________

١ ـ انظر الكني والألقاب ٣ : ٨.

٢ ـ انظر مقابس الأنوار : ١٧.

٣ ـ مقابس لأنوار : ١٨.

١١

وهو ـ رحمه اللّه ـ كان جامعا للعلوم الإسلاميّة ، فكان متضلّعا بعلم الحديث بشعبه ، والقواعد الأصولية الرصينة ، خبيرا جدّا بالمباني الفقهيّة ، وشرحه الكبير على المفاتيح وحواشيه على المدارك أصدق شاهد على ذلك.

وقد عاد ـ وبفضل ما قام به المولى الوحيد نوّر اللّه مرقده من دور عظيم ـ إلى مدرسة الفقه والاجتهاد ـ بل إلى مدرسة أهل البيت عليهم‌السلام عموما ـ مجدها وانسجامها ، وتطوّرت وازدهرت ، وتخرّج من حوزته الكبرى رحمه اللّه جمّ غفير من أعاظم الفقهاء وفطاحل العلماء ، لكلّ منهم ميزة فائقة ، وشدّ بعضهم الرحال إلى النجف الأشرف ، مثل : السيّد بحر العلوم ، والشيخ جعفر الكبير كاشف الغطاء وبعضهم إلى قم المقدّسة ، مثل : الميرزا القميّ وبقي بعضهم بكربلاء المقدّسة ـ موطن الوحيد ـ كالسيّد صاحب الرياض والميرزا الشهرستاني.

وبقيت كربلاء محافظة على دورها العلمي الريادي حتى وفاة المربّي العظيم محمّد بن حسن علي الآملي الحائري المشهور بشريف العلماء سنة ١٢٤٥ ه‍ ، الذي تلمّذ على صاحب الرياض.

وتكميلا للفائدة ، فلا بأس بالإشارة إلى المحاور المهمّة التي صارت محلا للخلاف بين الأخباريين والأصوليين ، وهي كالتالي :

١ ـ استقلاليّة علم الأصول ووضعه أساسا للفقه.

قال الشيخ حسين الكركي قدس‌سره أحد علماء الأخباريين بهذا الصدد : إنّ علم الأصول ملفّق من علوم عدّة ومسائل متفرّقة ، بعضها حقّ وبعضها باطل ، وضعه العامّة لقلّة السنن الدالّة على الأحكام عندهم وبنوا عليه‏

١٢

استنباط المسائل الشرعيّة النظرية (١).

ونقل عنهم الوحيد بقوله : وشبهتهم الأخرى هي : أن رواه الحديث منّا والتالين لهم لم يكونوا عالمين به قطعا ، مع علمهم بهذه الأحاديث الموجودة ، ولم ينقل عن أحد من الأئمّة عليهم‌السلام إنكارهم ، بل المعلوم تقريرهم لهم ، وكان هذا الحال مستمرّا إلى عصر ابن أبي عقيل وابن الجنيد رحمهما اللّه ثمَّ حدث هذا العلم بين الشيعة ، فلا حاجة إليه.

وأجاب عنه المجتهدون ب‍ : أنّ كثيرا من المسائل الأصوليّة كانت موجودة لدى فقهاء أصحاب الأئمّة منذ أيّام الصادقين عليهما‌السلام ، ووردت فيها روايات عنهم عليهم‌السلام من قبيل : حجّية الخبر ، وحجّية ظواهر الكتاب ، وأصالة البراءة ، والبحث عن القياس ، وعلاج التعارض.

ونرى في كلام الفضل بن شاذان (٢) صورة جليّة عن التفكير الأصولي ، أشار فيه إلى مسألة اجتماع الأمر والنهي وقال بجوازه ، وإلى الفرق بين النهي المولوي والإرشادي ، وأنّ الثاني يقتضي الفساد في المعاملات دون الأول.

مضافا إلى أنّ استغناء أصحابهم عليهم‌السلام عن الأصول ـ لمعاصرتهم إياهم عليهم‌السلام ـ لا يدلّ على استغناء الفقهاء البعيدين عن عصرهم عليهم‌السلام وقد خفي عليهم أكثر القرائن والملابسات التي كانت تكتنف بالنصوص ممّا يؤدّي إلى وضوح معناها.

٢ ـ اعتماد المجتهدين في إثبات الأحكام الشرعيّة على الظنون.

وهذا ما نسبه الأخباريّون إلى المجتهدين ، وهم قد برّءوا أنفسهم عن‏

__________________

١ ـ هداية الأبرار : ٢٣٤ :

٢ ـ المحكي في الكافي ٦ : ٩٢ ـ ٩٣.

١٣

العمل بالظن ، وقالوا : نحن نعمل بالأخبار دون الظنون وجماعة منهم ادّعوا قطعيّتها.

وأجاب عنه المجتهدون فيما يرجع إلى الدعوى الأولى ـ أي عمل المجتهدين بالظنون ـ بأنّه إن كان المراد بالظّن : الظنّ الذي لم يقم على حجّيته دليل قطعي ، فالعمل به ممنوع عند الأُصوليين بتاتا وإن كان المراد منه : الظنّ الذي قام على حجّيته دليل قطعي ، فهو مسلّم ولا ضير فيه ، كالظنّ الحاصل من ظهورات الكلام أو أخبار الثقات .. وقد توسّعوا في البحث عنه في محلّه في علم الأصول.

وأمّا بالنسبة إلى الدعوى الثانية ـ أي العمل بالأخبار ـ فهي أمر وافق عليه المجتهدون مع توفّر شرائط الحجّية ، فإنّ الأخبار هي العمدة في استنباط الأحكام عند المجتهدين كما هو واضح ، ولكنّها في الأغلب تكون ظنّة صدورا أو دلالة ، والشواهد التي أقيمت على إثبات قطعيّة الأخبار غير وافية (١).

٣ ـ قد يعتمد المجتهدون في إثبات الحكم الشرعي على مقدّمات عقليّة ، بينما أنّ دين اللّه لا يصاب بالعقول ، والعمل بالرأي والقياس ممنوع في مدرسة أهل البيت عليهم‌السلام.

وأجاب عنه المجتهدون بما أوضحوه في بحث القطع من الأصول بـ : أنّ المقدّمات العقليّة إذا لم تنتج إلّا الظنّ فهي ليست بحجّة ، وتدخل في باب القياس والاستحسان والمصالح المرسلة.

وأمّا الملازمات العقليّة التي بها يستفاد الحكم من النصوص‏

__________________

١ ـ انظر معجم الرجال الحديث ١ : ٢٢ ـ ٣٦.

١٤

الشرعيّة ، فهي حجّة ذاتيّة لا يعقل الردع عنها ، بل أمضاها الشارع وأرشد إليها ، من قبيل : استلزام الأمر بالشي‏ء الأمر بمقدّمته ، وغير ذلك فمتى سلّم هذا الاستلزام لا معنى لطرح حجّيته ، فإنّه من قبيل لوازم الكلام ، ولا يرتبط بالقياس والرأي الممنوعين.

٤ ـ يعتمد المجتهدون على ظواهر الكتاب ولو لم يرد فيه تفسير عن أئمّة أهل البيت عليهم‌السلام ، وهو عند الأخباريين مصداق التفسير بالرأي الممنوع عنه في الروايات .. وهذا ما ذهب إليه معظمهم ، وشذّ عنه بعضهم (١).

وقد بحث المجتهدون عنه في الأصول موسّعاً ، وأثبتوا حجّية ظاهر الكتاب بحسب الروايات وشهادة نفس الكتاب ، ودفعوا الإشكال عنها.

٥ ـ عدم التزام الأصوليين بحجّية الرواية بمجرّد وجودها في إحدى الكتب الروائيّة ، وإنّما يرون لحجّيتها شروطاً بلحاظ الرواة ، أو بلحاظ عمل المشهور وعدم إعراضهم عنها.

وفي قبالهم يعتقد الأخباريّون حجّية كلّ الروايات الموجودة في الكتب الأربعة وما يماثلها ، وبعضهم ادّعى قطعيّتها واستشهدوا على دعواهم بأمور زيّفها المجتهدون (٢).

٦ ـ يعتني المجتهدون بعلم الرجال باعتباره متصدّيا لتمييز آحاد السند من الجرح والتعديل ، والذي هو دخيل في اعتبار الرواية وعدمه.

وأمّا الأخباريّون ، فلاعتقادهم صحّة كلّ الروايات الموجودة في‏

__________________

١ ـ كالفيض الكاشاني في الاصول الأصيلة : ٣٦ ـ ٣٧.

٢ ـ راجع الفصل الثامن من كتاب اجتهاد الأخبار للوحيد البهبهاني ، رجال السّيد بحر العلوم ٤ : ٧٣ الفائدة الرابعة الحقّ المبين لكاشف الغطاء : ٣٤ ، معجم رجال الحيديث ١ : ١٩.

١٥

الجوامع الحديثيّة ، وجدوا أنفسهم في غنى عن علم الرجال وعلم الدراية الذي يبحث عن أحوال الحديث.

وهذا المحور من الخلاف متفرّع عن المحور السابق.

٧ ـ المشهور بين المجتهدين جريان البراءة في الشبهات التحريميّة.

وخالفهم الأخباريّون وقالوا بوجوب الاحتياط فيها أخذا بظاهر الأدلّة الآمرة بالتوقّف والاحتياط في الشبهات.

وأجاب عنهم المجتهدون ب‍ : أنّ التأمّل الوافي في الروايات المشار إليها يعطي أنّ الأمر بالتوقّف فيها إرشاديّ لا مولوي ، ومقتضى حديث الرفع وغيره هو البراءة.

هذا ، وهناك خلافات أخر لعلّها لا تكون إلّا بين الأخباريين وجمع من الأصوليين لا جميعهم ، وذلك مثل : حجّية الإجماع المنقول.

كما أنّه قد تذكر نماذج من مسائل فقهيّة بعنوان الخلاف بين الفريقين وهي أيضا متفرّعة عن بعض الخلافات المتقدّمة في المسائل الأصوليّة.

نحن والكتاب :

ثمَّ إن الجهود التي كرّسها الوحيد ـ نوّر اللّه مرقده ـ قد أينعت وأتت بالثمر العظيم وعلى مختلف المجالات ، سيّما مجال التصنيف ، الذي عاش ـ ولا زال ـ عصرا باهرا يمتاز بالتكامليّة ، المقرونة بالدقّة الفائقة ، والضبط الرفيع ، والقواعد المحكمة ، وكثرة الفروع وتشعّبها ، ومتانة الاستنباط.

ويعدّ كتابنا « رياض المسائل » خير نموذج وأوضح مصداق يجمع ـ وبشكل شامل ـ بين مباني الوحيد وخصائص مرحلة التكامل ، فإنّ مصنّفه‏

١٦

« السيّد علي الطباطبائي » المشتهر بتبحّره في علم الأصول ، قد أبدى مهارة فائقة وبراعة قلّ نظيرها في إرجاع الفروع إلى الأصول ، الأصول التي اعتمدها أستاذه الوحيد ودحر بها الأخباريين ، فلقّنها إيّاه خير تلقين ، وأجاد استثمارها وأبدع فيها خير إبداع ، سالكا في الاستدلال بها مسلكا استحال على غيره ، بل عسر ، متعرّضا لكلّ ما توصّل إليه من الأدلّة والأقوال.

فهو غرّة ناصعة على جبهة الفقه الشيعي ـ بل الإسلامي ـ ونجم ساطع في سماء الفقه الاستدلالي ، وآية باهرة لكيفيّة الاجتهاد والاستنباط ، حسن الترتيب ، كثير الفوائد جدّا ، يضمّ ـ بالإضافة إلى دقّته في الاستدلال ـ الإحاطة بشتّى جوانب البحث ، مشفوع بنقل الروايات والكلمات بعبارات موجزة بليغة ، اقتصر فيه على أمّهات الفروع الفقهيّة ، مع غاية في الاختصار في أداء المقاصد وإيراد المطالب ، بحيث يصعب ـ بل لعلّه يتعذّر ـ الوقوف على جملة بل كلمة زائدة لا يضرّ إسقاطها بالمطلب ، وذلك في جميع فصوله ، فمنهجه في الإصرار على الاختصار منهج كتاب « الروضة البهيّة » و « زبدة الأصول ».

ويدلّك على عظمته أنّه اشتهر به كاتبه ، فيعرف به غالبا ، كما هو الحال في « كشف الغطاء » و « جواهر الكلام ».

وهو ـ فيما بأيدينا من تراث فقهائنا ـ أوّل كتاب فقهيّ استدلاليّ مبسوط حاو لجميع الأبواب الفقهيّة ، إلّا ما شذّ (١).

شرح مزجيّ على المختصر النافع للمحقّق الحلّي ، وقد يعبّر عنه بالشرح الكبير في قبال شرحه الصغير عليه المطبوع حديثا .. وهذا النوع‏

__________________

١ ـ أي كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وكتاب المفلّس.

١٧

من الشرح له تأثير خاص في انسجام مطالب الكتاب واتّصالها ، بحيث يعدّ المتن والشرح كتابا واحدا ، يحثّ الطبع على ملاحظته والنظر فيه.

ولعلّ أوّل شرح مزجيّ معروف لفقهاء الإماميّة هو « الروضة البهيّة » التي متنها كتاب « اللمعة الدمشقية ».

ولم يوجد قبل الرياض شرح مزجيّ لمتن فقهيّ على هذا النهج ، فما صنّف على هذا المنوال ممّن تقدّم عليه إمّا ناقص كمّا نقصا فاحشا ، كما هو الحال في كتاب « كشف اللثام » للفاضل الهندي ، الفاقد لعدّة من الكتب الفقهيّة أو كيفا ، كما في كتاب « الروضة البهيّة » للشهيد الثاني ، القاصر عن الاستدلال التامّ المشتمل على النقض والإبرام في غالب الفروع الفقهيّة.

ويمتاز أيضا عمّا تقدّم عليه من الموسوعات الفقهيّة الاستدلاليّة بأنّه على نسق واحد وأسلوب فارد ، وبنفس السعة التي ابتدأ بها انتهى إليها ، فإنّ كتاب « المسالك » ـ مثلا ـ وإن كان جامعا لأبواب الفقه ، إلّا أنّ فصل العبادات منها في غاية الاختصار ، بخلاف المعاملات.

ومن أبرز خصائصه كذلك ، أسلوب تعامله مع النصوص الروائية ، حيث تراه يورد محلّ الشاهد على نحو من الاختصار والدقّة الرفيعة ، مكتفياً بذكر كونها صحيحة أو موثّقة أو مرسلة أو .. وهذا ممّا يدعو إلى البحث والتحقيق لتشخيص المراد ، الذي يعسر في كثير من الأحيان حصره أو تعيينه.

كما وأنّه ليس كتابا فقهيّا فحسب ، بل كأنّه بمنزلة الأستاذ الخبير الذي يرشد الطالب إلى كيفيّة النقاش العلمي ، وتنقيح المسائل الفقهيّة ، وسبل الورود والخروج منها. وأنت ترى بين غصون الكتاب ـ من روعة البيان ، وقوة الحجّة ، وسلاسة التعبير ، وحسن التخلّص إلى المقصد ـ ما ينمّ عن‏

١٨

بلاغة مؤلّفه البارعة ، وإحاطته بفنون الأدب أيضا.

ويمكن أن يتعرّف على مدى أهمّيّة الكتاب وعناية الفضلاء والباحثين والمحقّقين به ، من أنّه في سالف الأيام ـ حيث ربوع العلم كانت مزدهرة عامرة ـ قد صار محورا دراسيّا في الحوزات العلميّة ، وتناولته أيدي المشتغلين ببالغ الاهتمام والتقييم ، فكانوا يباحثون حول مسائله تشحيذا لأذهانهم وتقوية لملكة الاستنباط عندهم ، وكم كان جديرا إحياء تلك السنّة الحسنة بين أهل العلم وطلبته في زماننا هذا.

ثمَّ إنّه قد يعثر المتتبّع في هذا الأثر النفيس على موارد وافرة من العبارات المشابهة ـ بل المتّحدة ـ لعبارات من تقدّم عليه من الفقهاء ، كالذخيرة والكفاية والمسالك والروضة وكشف اللثام ، الموجبة للاطمئنان بكونها مأخوذة منها ، من دون إشارة إلى هذا الاقتباس ، ممّا يقضى منه العجب.

ولكنّه هيّن عند المطّلع على طريقة أهل الفن ، فإنّ نقل العبارات من دون ذكر المصدر كان سيرة مألوفة مستمرّة عندهم فإنّهم لمّا رأوا عبارات السابقين وافية بالمراد ، وكان الغرض الأهمّ عند السابق واللاحق أداء المطلب الصحيح ، وفهم المقصد ، من دون ملاحظة القائل ـ فانظر إلى ما قيل ولا تنظر إلى من قال ـ استراحوا في أداء مقاصدهم إلى نقل عبارة مرضيّة عندهم من الأقدمين ، من دون تصرّف فيها ، أو تغييرها إلى صورة أخرى.

وهذا لا مساس له بانتحال نظريّة وإسنادها إلى نفسه ، فإنّه القبيح المذموم المنزّه عنه فقهاؤنا الأمجاد.

ولعلّه لذا تقف على عدّة موارد من هذا القبيل في الكتب الفقهيّة ،

١٩

سيّما « الروضة البهيّة » و « مسالك الأفهام » بالإضافة إلى جامع المقاصد ، وكذا « الجواهر » بالنسبة إلى « الرياض » وغيره.

ويشهد على ما ذكرناه ـ من أنّه كان غرضه تحقيق الحقّ بأيّ نحو اتّفق ـ ما أفاده في آخر كتابه من أنّ المرجو ممّن يقف على هذا التعليق ويرى فيه خطأ أو خللا أن يصلحه وينبّه عليه ، ويوضحه ويشير إليه ، حائزاً بذلك منّي شكراً جميلاً ، ومن اللّه أجراً عظيماً جزيلاً ، إلى آخر ما قال.

ويرى الباحث المدقّق مدى العناية الخاصّة التي أولاها العلّامة الفقيه الملّا أحمد النراقي في موسوعته الفقهيّة المرموقة « مستند الشيعة » ـ التي قامت مؤسستنا بتحقيقها وطبعها ـ إلى ما في « رياض المسائل » من المباني والأقوال. ثمَّ الملاحظ غالبا أنّه في حال الموافقة له يعبّر عنه ب‍ : بعض مشايخنا المعاصرين ، أو : بعض مشايخنا وبنحو : قيل ، في حال المخالفة له.

كما ويشاهد أنّ الشيخ محمّد حسن النجفي قد تعرّض في موارد كثيرة جدّاً من مجموعته الفقهيّة الشهيرة « جواهر الكلام » إلى عبارات « رياض المسائل » بالنصّ والتفصيل ، خائضاً فيها خوض النقض أو الإبرام.

ثمَّ إنّه لم يظهر لنا زمان الشروع في تأليفه ولا زمان الاختتام .. إلّا أنّه صرّح في آخر كتاب الصلاة منه : تمَّ المجلّد الأوّل والثاني من « رياض المسائل في تحقيق الأحكام بالدلائل » على يد مؤلّفه المفتقر إلى اللّه الغني عليّ بن محمّد الطباطبائي ، في أواخر العشر الثاني من الشهر الثاني من السنة الرابعة من العشر الآخر من المائة الثانية من الألف الثاني من الهجرة النبويّة على صاحبها ألف سلام وثناء وتحيّة. انتهى.

والمشاهد أنّه قد فرغ من كتاب الديات في ٢٧ صفر سنة ١١٩٢ هـ ،

٢٠