السيد جعفر مرتضى العاملي
الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار الحديث للطباعة والنشر
المطبعة: دار الحديث
الطبعة: ١
ISBN: 964-493-186-6
ISBN الدورة:
الصفحات: ٣٥٦
وأين وأنّى؟!.
٦ ـ سرية زيد إلى العيص :
وفي جمادى الأولى من سنة ست كانت سرية زيد بن حارثة إلى العيص (موضع على أربعة ليال من المدينة) (١) ، ومعه سبعون راكبا ، أو في سبعين ومائة راكب (٢) ، لما بلغه «صلىاللهعليهوآله» : أن عيرا لقريش قد أقبلت من الشام. فتعرضوا لها ، فأخذوها وما فيها ، فأخذوا يومئذ فضة كثيرة لصفوان بن أمية ، وأسروا منهم أناسا ، منهم أبو العاص بن الربيع زوج زينب ابنة (والصحيح : ربيبة (٣)) رسول الله «صلىاللهعليهوآله» (٤).
__________________
(١) الإمتاع للمقريزي ص ٢٦٥ والطبقات الكبرى ج ٢ ص ٨٧ وعيون الأثر ج ٢ ص ٩٩ وتاريخ مدينة دمشق ج ٦٧ ص ١٥ والبحار ج ٢٠ هامش ص ٢٩٢ عن الإمتاع ، وسبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ٣٠ والبداية والنهاية ج ٤ ص ٢٠٣ وعن عيون الأثر ج ٢ ص ٩٩.
(٢) السيرة الحلبية ج ٣ ص ١٧٧ وتاريخ مدينة دمشق ج ٥٥ ص ٢٩٦ وج ٦٧ ص ١٥ والطبقات الكبرى ج ٢ ص ٨٥ و ٨٧ وج ٨ ص ٣٣ وسبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ٨٣ وج ١١ ص ٣١ والبحار ج ٢٠ ص ٢٩٢ وعن عيون الأثر ج ٢ ص ٩٩ وسير أعلام النبلاء ج ٢ ص ٢٤٩ وعن الإصابة ج ٨ ص ١٥٢.
(٣) راجع : أسد الغابة ج ٥ ص ٤٦٩ وكتابنا «بنات النبي «صلىاللهعليهوآله» أم ربائبه» ، وكتابنا «القول الصائب في إثبات الربائب».
(٤) الثقات ج ١ ص ٢٨٤ والطبقات الكبرى ج ٢ ص ٨٧ وتاريخ مدينة دمشق ج ٦٧ ص ١٢ وراجع : أسد الغابة ج ٥ ص ٢٣٧ وسبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ٨٢ وذخائر العقبى ص ١٥٨ والمنتخب من ذيل المذيل ص ٧ وراجع : تحف العقول ص ٤٥٥.
فنادت زينب في الناس ، حين صلى النبي «صلىاللهعليهوآله» الفجر : إني قد أجرت أبا العاص.
فقال رسول الله «صلىاللهعليهوآله» : ما علمت بشيء من هذا. وقد أجرنا من أجرت. ورد عليه ما أخذ (١).
وقد ذكر ابن عقبة : أن أسره كان على يد أبي بصير وأبي جندل بعد الحديبية.
وكانت هاجرت قبله ، وتركته على شركه ..
وردها النبي «صلىاللهعليهوآله» عليه بالنكاح الأول.
قيل : بعد سنتين ، وقيل : بعد ست سنين ، وقيل : قبل انقضاء العدة.
وفي حديث عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده : ردها بنكاح جديد سنة سبع (٢).
__________________
(١) تاريخ الخميس ج ٢ ص ٩ والسيرة الحلبية ج ٣ ص ١٧٧ وسبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ٨٣ والمستدرك للحاكم ج ٤ ص ٤٥ والطبقات الكبرى ج ٢ ص ٨٧ وج ٨ ص ٣٣ وتاريخ مدينة دمشق ج ٦٧ ص ١٦ وعن عيون الأثر ج ٢ ص ٩٩ وعن الإصابة ج ٨ ص ١٥٢ والآحاد والمثاني ج ١ ص ٣٩٨ وسير أعلام النبلاء ج ٢ ص ٢٤٨.
(٢) تاريخ الخميس ج ٢ ص ٩ والسيرة الحلبية ج ٣ ص ١٧٧ و ١٧٨ وسبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ٨٤ وجواهر العقود للأسيوطي ج ٢ ص ٢٧ ونصب الراية ج ٣ ص ٣٩٩ والفصول في الأصول للجصاص ج ٣ ص ١٦٣ والعلل لأحمد بن حنبل ص ٣١٣ وسير أعلام النبلاء ج ٢ ص ٢٤٩ والطبقات الكبرى ج ٨ ص ٣٣ وحلية الأبرار ج ١ ص ٨٤ والبحار ج ١٩ ص ٣٥٤ وراجع سنن ابن ماجة ج ١ ـ
ولنا هنا وقفات ، هي التالية :
فضة صفوان :
قد ذكرنا في أول الجزء السادس من هذا الكتاب : أنهم يدّعون أنه قد كانت هناك سرية إلى ماء يقال له : القردة ، وأن أميرها زيد بن حارثة أيضا ، وقد أرسله «صلىاللهعليهوآله» إلى قافلة لقريش فيها صفوان بن أمية ، وأبو سفيان ، وكان أكثرها من الفضة ، فأصاب العير وما فيها ، وأعجزه الرجال ، ورجع بالغنيمة إلى رسول الله «صلىاللهعليهوآله» ، فخمّسها ، فبلغ الخمس عشرين ألفا.
وقد لا حظنا : أن ثمة تشابها عجيبا بين تلك السرية وبين هذه التي نحن بصدد الحديث عنها ، فإن هذه السرية أيضا : أميرها زيد بن حارثة ، وكانت إلى ماء يقال له : القردة ، وأخذ المسلمون منها فضة كثيرة ، وكانت الفضة أيضا لصفوان بن أمية ..
فهل تراهما سرية واحدة؟ اختلف الرواة في تاريخها ، وفي بعض خصوصياتها ، كما يختلفون في غيرها ، فظنهما البعض سريتين. فدوّنهما مرتين؟!
__________________
ص ٦٤٧ والمستدرك للحاكم ج ٣ ص ٦٣٩ والمصنف للصنعاني ج ٧ ص ١٧١ وراجع : شرح معاني الأخبار ج ٣ ص ٢٥٦ والمعجم الكبير ج ١٩ ص ٢٠٢ وسنن الدار قطني ج ٣ ص ١٧٧ وأسد الغابة ج ٤ ص ٢٦٦ وج ٥ ص ٢٣٧ و ٤٦٨ وتاريخ مدينة دمشق ج ٦٧ ص ١٩ والبداية والنهاية ج ٦ ص ٣٩٠ والشفا بتعريف حقوق المصطفى ج ١ ص ١٢٧ والجوهر النقي ج ٧ ص ١٨٩ وإرواء الغليل ج ٦ ص ٣٤١.
على نفسها جنت براقش :
وفي سياق آخر نقول :
إن قريشا هي التي جنت على نفسها حين واجهت المسلمين بالبغي ، والعدوان ، والاضطهاد ، والاستيلاء على أملاكهم ، وإخراجهم من أوطانهم وديارهم ، بغير جرم أتوه. إلا أن يقولوا : ربنا الله ، ويريدون أن يكونوا أحرارا فيما يفكرون ، وفيما يعتقدون ..
فكان لا بد من أن تواجه عاقبة ذلك ، حين يريد المظلومون أن يسترجعوا بعض ما أخذ منهم ، ولو كان نزرا يسيرا .. وسوف يكون استرداد هذا القليل عظيم الأثر على روح أولئك الطغاة الجبارين ، الذين يرون الحياة الدنيا كل شيء بالنسبة إليهم ، ويرون في ارتفاع آهات المظلومين والمعذبين فضلا عن مطالباتهم ، وسعيهم للتخلص من الظلم والبغي ، مساسا بكبريائهم ، وانتقاصا من جبروتهم ، فإذا تمكن أولئك المستضعفون من استرجاع شيء من حقوقهم ، فسيكون في ذلك أعظم الخزي لأولئك الطغاة ، وأبلغ الخذلان ، وتلك هي أعظم مصائبهم ، وفيها أشد آلامهم.
وأما إذا بلغ الأمر حد إرباك هؤلاء الطغاة ، وإشغالهم بالحفاظ على لقمة عيشهم ، وسلامة تجارتهم ، فإن ذلك يكون غاية ذلهم ، وصغارهم وهوانهم ..
مدائح لأبي العاص بن الربيع :
وعن دعواهم : أن النبي «صلىاللهعليهوآله» أثنى على صهره أبي العاص بن الربيع ، نقول :
إن ذلك لا يصح : فقد روي عن أبي جعفر «عليهالسلام» ، أن رسول الله «صلىاللهعليهوآله» زوج أبا العاص بن الربيع مع كونه منافقا (١).
كما أننا لم نجد له موقفا جهاديا مميزا ، ولا عرف عنه شيء من الزهد والتقوى ، والبذل في سبيل الله ، ونحو ذلك.
النبي صلىاللهعليهوآله لا يتصرف بما ليس له :
وقالوا : «إن زينب دخلت على رسول الله «صلىاللهعليهوآله» ، فسألته أن يرد على أبي العاص ما أخذ منه ، فأجابها إلى ذلك» (٢).
ونقول :
إننا نشك في صحة ذلك : لأن ما أخذه المسلمون إنما هو غنائم حرب وهي ملك لهم .. فإن كان قد وعدها النبي «صلىاللهعليهوآله» بشيء ، فلا بد أن يكون ذلك بأن يطلب من المسلمين التنازل له عن شيء من حقهم ، فإن رضوا أعاد إليه ما يرضون بإعادته ..
ويدل على ذلك : أنهم يذكرون : أنه «صلىاللهعليهوآله» بعث للسرية ، فقال لهم : «إن هذا الرجل منا حيث قد علمتم. وقد أصبتم له مالا ، فإن تحسنوا وتردوا عليه الذي له ، فإنا نحب ذلك ، وإن أبيتم فهو فيء الله الذي
__________________
(١) راجع : البحار ج ٢٢ ص ١٥٩ والسرائر ص ٤٧١ والوسائل (ط دار الإسلامية) ج ١٤ ص ٤٣٥ ومستطرفات السرائر ص ٥٦٥.
(٢) السيرة الحلبية ج ٣ ص ١٧٧ وسبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ٨٣ وج ١١ ص ٣١ والطبقات الكبرى ج ٨ ص ٣٣ وتاريخ مدينة دمشق ج ٦٧ ص ١٦ وموسوعة التاريخ الإسلامي ج ٢ ص ٥٧٠.
أفاء عليكم ، فأنتم أحق به» (١).
لا يخلص إليك :
وزعموا : أن النبي «صلىاللهعليهوآله» قال لزينب عن أبي العاص : «لا يخلص إليك ، فإنك لا تحلين له» (٢).
والظاهر : أن ذلك كان قبل أن يسلم أبو العاص ..
رد زينب على أبي العاص :
ويقولون : إن النبي «صلىاللهعليهوآله» قد رد زينب على زوجها
__________________
(١) السيرة الحلبية ج ٣ ص ١٧٧ وسبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ٨٣ وذخائر العقبى ص ١٥٩ والمعجم الكبير ج ٢٢ ص ٤٣٠ وتاريخ مدينة دمشق ج ٦٧ ص ١٢ وعن السيرة النبوية لابن هشام ج ٢ ص ٤٨٣ ومجمع الزوائد ج ٩ ص ٢١٦ وتاريخ الأمم والملوك ج ٢ ص ١٦٦ وشرح النهج للمعتزلي ج ١٤ ص ١٩٦.
(٢) السيرة الحلبية ج ٣ ص ١٧٧ و ١٧٨ وعن تحف العقول ص ٤٥٥ والبحار ج ١٩ ص ٣٥٣ وشجرة طوبى ج ٢ ص ٢٤١ ومستدرك سفينة البحار ج ٤ ص ٣٤٥ وسنن النسائي ج ٧ ص ١٨٥ والسنن الكبرى للبيهقي ج ٧ ص ١٨٥ وج ٩ ص ٩٥ ومجمع الزوائد ج ٩ ص ٢١٦ والمعجم الكبير ج ٢٢ ص ٤٣٠ وشرح النهج للمعتزلي ج ١٤ ص ١٩٦ ونصب الراية ج ٣ ص ٤٠١ وأسد الغابة ج ٥ ص ٢٣٧ وعن تاريخ الأمم والملوك ج ٢ ص ١٦٦ والمنتخب من ذيل المذيل ص ٧ والبداية والنهاية ج ٣ ص ٤٠١ وعن السيرة النبوية لابن هشام ج ٢ ص ٤٨٢ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٢ ص ٥٢٠ وسبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ٨٣ و ٨٥.
بالنكاح الأول ..
وهذا معناه : أن ذلك قد حصل قبل غزوة الحديبية ، أي قبل تحريم نكاح المشرك للمؤمنة ؛ لأن هذا التحريم إنما كان في الحديبية (١) كما يزعمون ..
ولو كان ذلك قد حصل بعد الحديبية ، فلا بد أن يكون زوجها قد أسلم قبل أن تنقضي عدتها ، أي أنه أسلم بعد إسلامها بيسير ؛ لأن شرط عودتها إليه بالنكاح الأول هو ذلك ، أي أن يكون قبل انقضاء العدة.
ولو قيل : إن قوله «صلىاللهعليهوآله» لزينب : لا يخلص إليك يدل على أن إرجاعها إليه كان بعد الحديبية ، ؛ لأن تحريم نكاح المشرك للمسلمة قد نزل بعدها ،
لأجيب : بأن سرايا رسول الله «صلىاللهعليهوآله» لم تتعرض لقوافل قريش بعد الحديبية. فأبو العاص لم يؤسر بعدها.
إلا أن يقال : إن السرية التي اعترضت عير قريش ، وأسرت أبا العاص ، تعود لأبي جندل ، وأبي بصير وأصحابهما الذين كانوا يعترضون عير قريش ..
وقد قيل : إنهم أخذوا أبا العاص ، فهرب منهم ، ودخل إلى المدينة ، واستجار بزينب.
وقيل : بل هم الذين أطلقوه ، لمكانه من رسول الله «صلى الله عليه
__________________
(١) السيرة الحلبية ج ٣ ص ١٧٧ وسبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ٨٥ وعن فتح الباري ج ٩ ص ٣٤٩ وتاريخ مدينة دمشق ج ٦٧ ص ٧ وسير أعلام النبلاء ج ١ ص ٣٣١ وعن الإصابة ج ٧ ص ٢٠٨.
وآله» ، فخطب النبي «صلىاللهعليهوآله» الناس ، وأعلمهم أن زينب قد أجارته ، فلما علم أبو جندل وأصحابه بذلك أطلقوا الأسرى ، وردوا عليهم كل شيء. وكان ذلك في سنة ثمان (١).
وقد يقال :
كيف يمكن ادّعاء : أن أبا العاص قد أسلم بعد زينب بيسير ، أي قبل انقضاء عدتها ، وهم يقولون : إنها أسلمت قبله بست سنين ، وقيل : بسنة واحدة ، وقيل : بعد سنتين من إسلامه؟! (٢).
ويمكن أن يجاب :
بأن الثابت هو : أنها قد أتت إلى المدينة قبل زوجها بهذه المدة الطويلة ، ولكن ذلك لا يدل على : أنها قد أسلمت قبله ، فلعل انتقالها إلى المدينة كان للتخلص من مضايقات قريش لها ، لمجرد صلتها برسول الله «صلىاللهعليهوآله» ، وإن لم تكن قد دخلت في دينه. كما هو ظاهر لا يخفى.
٧ ـ سرية زيد إلى الطرف :
وفي جمادى الآخرة سنة ست كانت سرية زيد بن حارثة إلى الطرف ،
__________________
(١) السيرة الحلبية ج ٣ ص ١٧٧ وراجع : سبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ٨٣ و ٨٥ وتاريخ مدينة دمشق ج ٦٧ ص ١٥.
(٢) السيرة الحلبية ج ٣ ص ١٧٨ وراجع : تفسير القرآن العظيم ج ٤ ص ٣٧٥ وسير أعلام النبلاء ج ١ ص ٣٣٢ وج ٢ ص ٢٤٦ ومسند أحمد ج ١ ص ٢٦١ والسنن الكبرى للبيهقي ج ٧ ص ١٨٧ وفتح الباري ج ٩ ص ٣٤٨ وتاريخ مدينة دمشق ج ٦٧ ص ٢٠ والبداية والنهاية ج ٣ ص ٤٠٢ وسبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ٨٤.
وهو ماء على ستة وثلاثين ميلا من المدينة ، فخرج إلى بني ثعلبة في خمسة عشر رجلا ، فأصاب نعما وشاء ، وهربت الأعراب.
وصبح زيد بالنعم المدينة ، وهي عشرون بعيرا ، ولم يلق كيدا ، وغاب أربع ليال ، وكان شعارهم الذي يتعارفون به في ظلمة الليل : أمت أمت (١).
وقد قلنا : اكثر من مرة بأننا نشك في وقوع هذه السرايا ، التي تظهر أن همّة النبي «صلىاللهعليهوآله» كانت منصرفة إلى الغنائم والسبايا ، ولو بقيمة قتل الناس وإبادة خضرائهم ، أو إذلالهم.
__________________
(١) راجع : تاريخ الخميس ج ٢ ص ٩ والسيرة الحلبية ج ٣ ص ١٧٨ وسبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ٨٧ وعن عيون الأثر ج ٢ ص ٩٩ والطبقات الكبرى ج ٢ ص ٨٧ وراجع : تاريخ الأمم والملوك ج ٢ ص ٢٨٦ وتاريخ مدينة دمشق ج ٦٧ ص ١٥.
الفصل الرابع :
سرايا أخرى قبل الحديبية
١ ـ سرية زيد إلى حسمى :
وفي جمادى الآخرة من سنة ست كانت سرية زيد بن حارثة أيضا إلى حسمى ، وهو واد وراء ذات القرى.
وكان من حديثها ـ كما حدث رجال من جذام ، وكانوا علماء بها ـ : أن رفاعة بن زيد الجذامي لما قدم على قومه من عند رسول الله «صلىاللهعليهوآله» بكتابه ، يدعوهم إلى الإسلام استجابوا له .. فلم يلبث أن قدم دحية بن خليفة الكلبي من عند قيصر صاحب الروم ، حين بعثه إليه رسول الله «صلىاللهعليهوآله» ، ومعه تجارة له ، وقد أجازه قيصر ، وكساه ، فعاد إلى المدينة حتى إذا كان بوادي : «حسمى» ، أغار عليه الهنيد بن عوض الضلعي (بطن من جذام) ومعه ابنه عوض في ناس من جذام ، فأصاب كل شيء كان مع دحية. ولم يتركوا عليه إلا ثوبا خلقا.
فبلغ ذلك قوما من جذام أيضا ، من بني الضبيب ، وهم رهط رفاعة ، ممن كان قد أسلم ، فنفروا إلى الهنيد وابنه ، فاستنقذوا لدحية ما أخذ منه.
فخرج دحية حتى قدم على رسول الله «صلىاللهعليهوآله» ، فأخبره خبره ، واستشفاه (أو استسقاه) دم الهنيد وابنه.
فبعث النبي «صلىاللهعليهوآله» زيدا في خمس مائة رجل (١) ، ورد معه دحية ، فكان زيد يسير بالليل ، ويكمن بالنهار ، حتى هجموا مع الصبح على الهنيد ومن معه ، فأغاروا عليهم ، وقتلوا فيهم (رجلين) ، وأوجعوا ، وقتلوا الهنيد وابنه ، وأخذوا من النعم ألف بعير ، ومن الشاء خمسة آلاف ، ومائة من النساء والصبيان.
قالوا : فلما سمع بذلك بنو الضبيب ركب نفر منهم ، فيهم حسان بن ملّة ، فلما وقفوا على زيد بن حارثة ، قال حسان : إنا قوم مسلمون.
فقال له زيد : اقرأ أم الكتاب. فقرأها.
فقال زيد بن حارثة : نادوا في الجيش : أن قد حرم علينا ثغرة القوم التي جاؤوا منها ، إلا من ختر أي غدر.
وإذا بأخت حسان مع الأسارى ، فقال له زيد : خذها.
فقالت أم الغرار الضلعية : أتنطلقون ببناتكم ، وتذرون أمهاتكم؟.
فقال أحد بني الخصيب : إنها بنو الضبيب وسحر ألسنتهم سائر اليوم.
فسمعها بعض الجيش ، فأخبر بها زيدا ، فأمر بأخت حسان ، وقد كانت أخذت بحقوي أخيها ، ففكت يداها من حقويه ، وقال لها : اجلسي مع بنات عمك ، حتى يحكم الله فيكن حكمه ، فرجعوا.
ونهى الجيش أن يهبطوا إلى واديهم الذي جاؤوا منه ، فأمسوا في أهليهم.
__________________
(١) راجع : العبر وديوان المبتدأ والخبر ج ٢ ق ٢ ص ٥٧ وعن عيون الأثر ج ٢ ص ١٠١ والبحار ج ٢٠ ص ٢٩٢ والطبقات الكبرى ج ٢ ص ٨٨ وسبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ٨٨.
فلما شربوا عتمتهم ركبوا إلى رفاعة فصبحوه ، فقال له حسان بن ملة : إنك لجالس تحلب المعزى ، وإن نساء جذام أسارى ، قد غرّها كتابك الذي جئت به؟!
فدعا رفاعة بجمل له ، فشد عليه رحله ، وهو يقول : هل أنت حي وتنادي حيا؟.
ثم سار في نفر من قومه إلى المدينة ثلاث ليال ، فلما دخلوا على رسول الله «صلىاللهعليهوآله» ألاح إليهم بيده : أن تعالوا من وراء الناس .. ثم دفع رفاعة إلى رسول الله «صلىاللهعليهوآله» كتابه ، الذي كان كتب له ولقومه ، حينما قدم عليه فأسلم ، فقال : دونك يا رسول الله قديما كتابه ، حديثا غدره.
فقال «صلىاللهعليهوآله» : اقرأه يا غلام ، وأعلن.
فلما قرأ كتابه استخبرهم ، فأخبروه ، فقال «صلىاللهعليهوآله» : كيف أصنع بالقتلى؟! ثلاث مرات.
فقال رفاعة : أنت أعلم يا رسول الله ، لا نحرم عليك حلالا ، ولا نحلل لك حراما.
فقال أبو زيد بن عمرو ـ أحد قومه معه ـ : أطلق لنا يا رسول الله من كان حيا ، ومن قتل فهو تحت قدمي هذه.
فقال رسول الله «صلىاللهعليهوآله» : صدق أبو زيد ، اركب معهم يا علي.
فقال له علي «عليهالسلام» : يا رسول الله ، إن زيدا لا يطيعني.
قال «صلىاللهعليهوآله» : فخذ سيفي هذا.
فأعطاه سيفه ، فخرجوا ، فإذا رسول لزيد بن حارثة على ناقة من إبلهم ،
أرسله زيد مبشرا ، فأنزلوه عنها ، وردها على القوم ، وأردفه علي خلفه ، فقال : يا علي ، ما شأني؟!
فقال : ما لهم ، عرفوه فأخذوه؟!
ثم ساروا ، فلقوا الجيش ، فطلب زيد من علي «عليهالسلام» علامة ، فقال : هذا سيفه «صلىاللهعليهوآله».
فعرف زيد السيف ، وصاح بالناس ، فاجتمعوا ، فقال : من كان معه شيء فليرده ، فهذا سيف رسول الله «صلىاللهعليهوآله» ، فأخذوا ما بأيديهم ، حتى كانوا ينتزعون لبد المرأة من تحت الرجل (١).
ونقول :
إن لنا على هذا النص بعض الملاحظات ، وهي التالية :
ألف : إرسال دحية إلى قيصر :
قد ذكر فيما تقدم : أن النبي «صلىاللهعليهوآله» كان قد أرسل دحية إلى قيصر ..
وذلك موضع شك ، فإن النبي «صلىاللهعليهوآله» إنما أرسل دحية في كتاب إلى قيصر بعد الحديبية (٢).
__________________
(١) تاريخ الخميس ج ٢ ص ٩ و ١٠ والسيرة الحلبية ج ٣ ص ١٧٩ وسبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ٨٨ و ٨٩ والبحار ج ٢٠ ص ٣٧٥.
(٢) قد تقدمت المصادر لهذه الفقرات ولأجل التذكير ببعضها ، نقول : راجع : السيرة الحلبية ج ٣ ص ١٧٩ ومكاتيب الرسول ج ٢ ص ٣٩٨ وسير أعلام النبلاء ج ٢ ص ٥٥٥ وتاريخ مدينة دمشق ج ١٧ ص ٢٠٨ وتهذيب الكمال ج ٨ ص ٤٧٤.
فلعل دحية كان عند قيصر في شغل خاص به ، وقد حصل منه على أموال وعطايا فجرى عليه ما جرى ..
ب : لماذا إرجاع الأموال؟!
قد يقال : إن الغنائم إن كانت قد أخذت من أناس مشركين ، معلنين للحرب ، فلماذا تردّ عليهم؟.
وقد تقدم : أن النبي «صلىاللهعليهوآله» قد أوكل أمر إرجاع الأموال إلى أبي العاص بن الربيع ـ أوكله ـ إلى قبول المشاركين في السرية ، حيث قال لهم : «وإن أبيتم فهو فيء الله الذي أفاء عليكم ، فأنتم أحق به» (١).
وإن كانت قد أخذت من أناس مسلمين ، فلماذا يأخذها منهم زيد؟
ثم لماذا لا يردها عليهم بعد أخذها؟!
ويؤيد هذا : أن أولئك القوم قد ذهبوا إلى رسول الله «صلىاللهعليهوآله» ، واشتكوا له ، فبادر «صلىاللهعليهوآله» إلى الاستجابة لهم ، حسبما تقدم ذكره .. فلو أن المقتولين ، والذين أخذت أموالهم كانوا من المسلمين لم يكن معنى لهذه المبادرة من هؤلاء ، ولم يكن معنى لاستجابة النبي «صلى الله
__________________
(١) السيرة الحلبية ج ٣ ص ١٧٧ والبحار ج ١٩ ص ٣٥٣ وشجرة طوبى ج ٢ ص ٢٤١ والمستدرك للحاكم ج ٣ ص ٢٣٧ ومجمع الزوائد ج ٩ ص ٢١٦ والمعجم الكبير ج ٢٢ ص ٤٣٠ وشرح النهج للمعتزلي ج ١٤ ص ١٩٦ وعن تاريخ الأمم والملوك ج ٢ ص ١٦٦ وعن السيرة النبوية لابن هشام ج ٢ ص ٤٨٣ وسبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ٨٣ وراجع : مناقب آل البيت «عليهمالسلام» للشيرواني ص ٤٤٤.
عليه وآله» لهم ، وأخذ الأموال من المقاتلين وإرجاعها إلى أصحابها الشرعيين ، لأنه إذا كان المقتولون وأصحاب الأموال محاربين ، فإن تلك الأموال تكون للمقاتلين ولا يصح أخذها منهم ..
ولكن قبولنا لهذا الأمر لا يحل الإشكال أيضا ؛ لأن المقتولين إذا كانوا مسلمين فلا معنى لطل دمهم ، بل كان ينبغي أن يحاسب الذين قتلوهم ، فإن كانوا قد قتلوهم مع علمهم بإسلامهم ، فلا بد من إنزال العقوبة بمن فعل ذلك ..
كما لا بد من محاسبتهم على أخذ أموالهم ، وإصرارهم على هذا الأخذ ، حتى إنهم ليحتاجون إلى علامة من رسول الله «صلىاللهعليهوآله» لإرجاعها إلى أهلها ..
وإن كانوا قد قتلوهم عن جهل منهم بكونهم مسلمين ، فهم وإن كانوا معذورين بقتلهم ، لكن لا بد للرسول «صلىاللهعليهوآله» من أن يديهم من بيت مال المسلمين على الأقل ..
وقد يقال :
إن المقتولين كانوا من المشركين المعاهدين .. الذين لا ذنب ولا يد لهم بما جرى ، وإنما غلبوا على أمرهم ، وأصبحوا ضحية بغي الهنيد وابنه ، فأخذوا بذنب غيرهم ، وقد جاء الذين أسلموا من قومهم ، ليحلوا هذا الإشكال ، فارتأوا حله ، بطلّ دمهم ، والاكتفاء بإرجاع أموالهم إليهم ..
ويجاب :
بأنه لا توجد أية إشارة إلى وجود معاهدات بين أهل الشرك من هذه القبيلة ، وبين رسول الله «صلىاللهعليهوآله» ..
والصحيح في القضية هو : أن هذه القبيلة كانت قد أسلمت استجابة لرفاعة بن زيد الجذامي ، الذي جاءهم بكتاب من عند رسول الله «صلىاللهعليهوآله».
ثم إن بضعة أفراد منها ، وهم الهنيد وابنه ، وربما بعض آخر معهما ، قطعوا الطريق على دحية وسلبوه ما معه ثم أرجع بنو الضبيب من جذام إليه ما كان سلب منه .. فاشتكى دحية إلى رسول الله «صلىاللهعليهوآله» ، وطلب منه أن ينتقم له من الهنيد وابنه ، فأرسل النبي «صلىاللهعليهوآله» زيدا على رأس سرية لأخذ الجناة ، فقتلت السرية الهنيد وابنه ، واثنين (أو أكثر) ممن كانوا معه ، وأخذوا ما وجدوه هناك من إبل وشاء.
ولكن هذا الذي وجدوه وأخذوه لم يكن للمقتولين بل هو لغيرهم من أفراد القبيلة المسلمين ، الذين كان النبي «صلىاللهعليهوآله» قد كتب لهم الكتاب مع رفاعة ..
فاعتبره زيد غنيمة حرب ، فرفعت القبيلة المسلمة أمرها إلى رسول الله «صلىاللهعليهوآله» ، فحكم بإرجاع الأموال إلى أهلها ، ولم يعبأ بالمقتولين لأنهم أفسدوا ، واعتدوا وحاربوا ، وقطعوا السبيل ، ولم يكن هناك أي عدوان أو تقصير من زيد ، وقد فعل ما كان ينبغي له. والله هو العالم بالحقائق.
ج : العصبية للحق ، لا للعشيرة :
والذي يثير الانتباه هنا : أن الجذاميين المسلمين من بني الضبيب قد تعصبوا لإسلامهم ولدينهم وللحق ، ونصروا المظلوم حتى على ابن
العشيرة ، فاستنقذوا الأموال التي استلبها الهنيد وابنه منهما ، وأرجعوها إلى صاحبها ، مع أنهم كانوا إلى الأمس القريب يتعصبون لابن العشيرة ، وينصرونه على غيره ، حتى لو كان معتديا وظالما لذلك الغير.
د : خمس مائة رجل!! لماذا؟!
وقد ذكرت الروايات المتقدمة : أن النبي «صلىاللهعليهوآله» قد أرسل زيدا في خمس مائة رجل مع دحية ..
ونحن نشك كثيرا في صحة هذا الأمر ..
فإن أعداد أفراد السرايا التي كان النبي «صلىاللهعليهوآله» يرسلها إلى البلاد البعيدة والقريبة كانت قليلة في الغالب.
فهو «صلىاللهعليهوآله» يرسل ثلاثين ، أو أربعين ، أو سبعين ، أو مائة ، أو مائتي رجل ..
فلماذا أرسل خمس مائة رجل في هذه المرة؟! مع كون تلك القبيلة كانت على الإسلام ، ومع كون العصاة من أفرادها قليلين ، لا يحسب لهم حساب ، خصوصا مع كون سائر قبيلتهم ضدهم ، وقد أثبتت تلك القبيلة ذلك بصورة عملية ، حيث استنقذت لدحية جميع ما كان قد أخذ منه ..
ه : تسرع غير مقبول :
وبعد .. فإن ما يثير الدهشة أيضا : أن زيدا يغير على أولئك القوم في عماية الصبح ، فيقتل ، ويأسر ، ويستاق النعم والشاء ، ويسبي النساء .. فإن كان المذنب من تلك القبيلة هم أفراد قلائل ، فما ذنب سائر أفراد القبيلة؟.
وإذا كانت القبيلة قد أعلنت إسلامها ـ حسبما ذكرناه فيما سبق ـ فلماذا