السيد جعفر مرتضى العاملي
الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار الحديث للطباعة والنشر
المطبعة: دار الحديث
الطبعة: ١
ISBN: 964-493-185-5
ISBN الدورة:
الصفحات: ٣٥٩
له من العمر حوالي ثلاثين عاما. وكان يجب أن لا يستشير عثمان ، وعمر ، وأم أيمن ، ولا غير هؤلاء ممن أسنّوا وتكاملت عقولهم .. مع اعتراف العسقلاني بأنه «صلىاللهعليهوآله» قد استشار هؤلاء أيضا.
نعم ، لقد كان على النبي «صلىاللهعليهوآله» ـ حسب منطق العسقلاني ـ أن يذهب إلى الشارع ويأتي بمجموعة أطفال ، ويطرح عليهم مشكلته ، ليضعوا لها الحلول المناسبة!!
ولكان يجب أن ينال هؤلاء الأطفال درجة النبوة والولاية العظمى ، وقيادة الجيش ، ومناصب القضاء .. وغير ذلك من المناصب والمقامات!!
ولو صح ما ذكره فقد كان اللازم : أن يستشير الأطفال في أهم الأمور العامة أيضا ، ليستفيد من صفاء ذهنهم ، وسلامة فطرتهم ، مع اعتراف العسقلاني بأنه «صلىاللهعليهوآله» كان يستشير في الأمور العامة ذوي الأسنان من أكابر الصحابة!! (١).
١١ ـ زيد بن ثابت :
لقد وقع في رواية الطبراني ، عن ابن عباس : أن النبي «صلىاللهعليهوآله» قد استشار زيد بن ثابت في أمر عائشة (٢).
فقال : «دعها فلعل الله يحدث لك فيها أمرا».
ولكن ذلك غير معقول ..
أولا : إن رواية ابن عمر تقول : إن النبي «صلىاللهعليهوآله» لم يكن
__________________
(١) فتح الباري ج ٨ ص ٣٥٧.
(٢) المعجم الكبير ج ٢٣ ص ١٢٣ و ١٢٤ ومجمع الزوائد ج ٩ ص ٢٣٧.
يعدو في استشارته عليا وأسامة.
ثانيا : لماذا اختص زيد بن ثابت ، الشاب المراهق ، الذي كان عمره في المريسيع حوالي خمسة عشر عاما فقط ، لأنه إنما أجيز عام الخندق ، حسب رواية عنه (١) ـ نعم ، لماذا اختص هذا الشاب أو فقل هذا الطفل ـ بهذه المشورة دون سائر شيوخ المهاجرين والأنصار من صحابته «صلىاللهعليهوآله»؟!
اعتذار غير صحيح :
واحتمل العسقلاني : أن يكون ثمة اشتباه من الراوي ، وأنه كان في الأصل زيد بن حارثة.
ولكن هذا غير مسموع.
أولا : لأنه رجم بالغيب. لا شاهد له ولا دليل عليه.
ثانيا : إن رواية ابن عمر المتقدمة تقول : إنه لم يكن يعدو في استشارته عليا وأسامة.
وهذه الرواية ترد حديث استشارته لعمر ، وعثمان ، وبريرة ، وغيرهم أيضا.
ثالثا : إن رواية ابن عمر تنص على أن زيد بن حارثة كان قد توفي ، فلا معنى للتصحيح بها .. وإلا فالأولى تصحيح ذلك بأن المقصود هو أسامة بن زيد ، فذهل الراوي عن أسامة وتوجه إلى كلمة زيد ، وأضاف إليها كلمة ابن ثابت دون قصد .. لكن هذا كله أيضا مجرد تخرص ورجم بالغيب. لا شاهد له ، ولا دليل عليه.
__________________
(١) الإصابة ج ١ ص ٥٦١ ، روى ذلك عنه الواقدي .. وقيل : بل أجيز يوم أحد.
١٢ ـ الأنصارية وابنها :
لقد جاء في رواية أم رومان قولها : «.. بينما أنا قاعدة عند عائشة ، إذ ولجت امرأة من الانصار.
فقالت : فعل الله بفلان وفعل.
فقالت أم رومان : وما ذاك؟
قالت : ابني فيمن حدث الحديث ..».
ولكن ذلك موضع شك وريب ، فإن اللذين جاءا بالإفك من الانصار هما : عبد الله بن أبي ، وحسان بن ثابت ، ولم تكن أم واحد منهما موجودة (١).
وأما رفاعة بن زيد .. فقد قدمنا : أنه مات قبل ذلك.
ولابد أيضا من الاعتذار :
واحتمل البعض : أن يكون لأحدهما أم من رضاع ، أو غيره (٢) .. وهو احتمال لا شاهد له ، ولا دليل عليه ، إلا الالتزام بتصحيح ما ورد في حديث الإفك .. وليس هو مما يستحق هذا التكلف ، بعد أن تواردت عليه العلل والأسقام.
١٣ ـ زيد بن حارثة :
تنص رواية ابن عمر على : أن زيد بن حارثة كان حين قضية الإفك قد توفي ولذلك استشار النبي «صلىاللهعليهوآله» ولده أسامة.
__________________
(١) راجع : إرشاد الساري ج ٦ ص ٣٤٣.
(٢) المصدر السابق.
ونقول :
إن من الواضح : أن الإفك قد كان في سنة ست ، أو قبلها. وزيد بن حارثة قد استشهد في غزوة مؤتة في سنة ثمان ، فكيف يكون حين الإفك قد توفي؟!
الفصل السادس :
مفارقات تاريخية
١ ـ متى نزلت آيات الإفك؟
لقد وردت آيات الإفك في سورة النور ، والظاهر أن سورة النور قد ابتدأ نزولها في السنة الثامنة ، على وجه التقريب. وذلك لعدة أدلة :
الأول : أنها نزلت بعد سورة النصر (١). وسورة النصر نزلت في سنة ثمان ، فقد ورد : أن النبي «صلىاللهعليهوآله» عاش بعدها سنتين فقط (٢).
الثاني : أنها نزلت بعد الأحزاب ، التي ابتدأ نزولها في سنة خمس. وبينها وبين سورة النور ـ حسب رواية ابن عباس ـ عدة سور : فالأحزاب ، ثم الممتحنة ، ثم النساء ، ثم إذا زلزلت ، ثم الحديد ، ثم القتال ، ثم الرعد ، ثم الرحمن ، ثم الإنسان ، ثم الطلاق ثم لم يكن ، ثم الحشر ، ثم إذا جاء نصر الله. ثم النور (٣).
وفي هذه السور شواهد كثيرة على نزول عدد من آياتها بعد سنة ست ..
الثالث : أن آيات اللعان الواقعة في صدر السورة قد نزلت سنة تسع ، بعد رجوع النبي «صلىاللهعليهوآله» من غزوة تبوك في قصة عويمر بن
__________________
(١) الإتقان ج ١ ص ١١ وفتح الباري ج ٩ ص ٣٧.
(٢) الكشاف ج ٤ ص ٨١٢.
(٣) الإتقان ج ١ ص ١١.
ساعدة ، واتهامه شريك بن السمحاء بأنه زنى بامرأته ، فراجع (١).
الرابع : إذا أضفنا إلى ذلك : أن هناك من يرى أن ترتيب القرآن هو نفس الترتيب الذي في اللوح المحفوظ ، بلا تصرف ، ولا تغيير ،
ومالك يقول : إنما ألف القرآن على ما كانوا يسمعون من النبي «صلىاللهعليهوآله» ، وكذا قال البغوي : أنهم كتبوا القرآن كما سمعوا من النبي «صلىاللهعليهوآله» من غير أن قدموا شيئا ، أو أخروا (٢) ،
وأضفنا إلى ذلك : أنه قد ذكر في أول هذه السورة ـ سورة النور ـ ما يدل على أنها نزلت جملة واحدة ، حيث قال تعالى : (سُورَةٌ أَنْزَلْناها وَفَرَضْناها وَأَنْزَلْنا فِيها آياتٍ بَيِّناتٍ ..) ،
وأضفنا إليه : أن الصحابة ما كانوا يعرفون انتهاء السورة ، وابتداء غيرها إلا بعد نزول البسملة (٣) ،
__________________
(١) تفسير القمي ج ٢ ص ٩٨ وتفسير الميزان ج ١٥ ص ٨٥ وتفسير البرهان ج ٣ ص ١٢٥ و ١٢٦ وتاريخ الخميس ج ٢ ص ١٣٣ ، وراجع : السيرة الحلبية ج ٣ ص ١٦٧ وراجع (ط مطبعة مصطفى محمد بمصر) ص ٤٠٧ والبحار ج ٢١ ص ٣٦٧ و ٣٦٨ عن الكازروني في المنتقى وراجع أيضا : المواهب اللدنية ، وأسد الغابة.
(٢) الإتقان ج ١ ص ٦١.
(٣) راجع : مقالة العلامة السيد أبو الفضل مير محمدي ، في مجلة الهادي سنة ٥ عدد ٣ وفتح الباري ج ٩ ص ٣٩ ، كما أخرجه أبو داود ، وصححه ابن حبان ، والحاكم ، والمصنف لعبد الرزاق ج ٢ ص ٩٢ ومجمع الزوائد ج ٢ ص ١٠٩ أو قال : أخرجه البزار بإسنادين رجال أحدهما رجال الصحيح.
فإننا سوف نطمئن ـ بعد كل ذلك ـ إلى أن آيات الإفك قد تأخر نزولها إلى سنة ثمان. من دون أي تصرف في آيات السورة أصلا ..
٢ ـ متى كان فرض الحجاب؟
زعموا : أن الحجاب قد نزل فرضه في سنة خمس من الهجرة (١). وذلك حين تزوج النبي «صلىاللهعليهوآله» بزينب بنت جحش.
ونقول :
إن ذلك غير صحيح ، وذلك لما يلي :
أولا : تذكر قضية الإفك : أن الإفك قد كان بعد فرض الحجاب ، مع أن آيات الحجاب قد وردت في سورة النور ، وسورة النور قد نزلت بعد سنة ست ، كما قدمنا في المبحث السابق.
ثانيا : إن الظاهر من قوله تعالى في أول سورة النور : (سُورَةٌ أَنْزَلْناها وَفَرَضْناها) أن هذه السورة قد نزلت كلها دفعة واحدة .. وتقدمت شواهد أخرى تدل على ذلك ..
وهذا معناه : أن آيات الحجاب قد نزلت مع آيات الإفك في سورة واحدة ، ودفعة واحدة ، فكيف يكون الحجاب قد فرض قبل ذلك؟!
فما في روايات الإفك من افتراض الحجاب ووجوبه قبل نزول سورة النور مما لا يجتمعان.
ثالثا : إنهم يقولون : إن الحجاب إنما فرض حينما تزوج «صلى الله عليه
__________________
(١) طبقات ابن سعد (ط دار صادر) ج ٨ ص ١٧٤ و ١٧٦.
وآله» بزينب بنت جحش ، حيث بقي الرجال جالسين ، حتى تضايق النبي «صلىاللهعليهوآله» منهم ، ففرض الحجاب حينئذ (١).
كما أن حمنة ـ حسب روايات الإفك ـ قد طفقت تحارب لأختها زينب .. لكن الله قد عصم أختها بالورع.
مما يعني : أن زينب كانت حين قضية الإفك زوجة لرسول الله «صلىاللهعليهوآله» ، وإنما نزل الحجاب بمناسبة تزويجها به «صلىاللهعليهوآله».
ولكننا نقول : إن ذلك موضع شك كبير ، بل منع .. فإننا إذا أخذنا بقول من يقول : إن الإفك كان سنة أربع أو خمس ، فإنما كان في شعبان منها .. ولا خلاف عندهم في كون الحجاب قد فرض في ذي القعدة سنة خمس (٢) ، حسبما تقدم. فهو إذن بعد قضية الإفك بلا ريب.
بل إن ابن سعد ، والطبري ، والبلاذري يطلقون الحكم هنا ، ويقولون : إن تزوّج النبي «صلىاللهعليهوآله» بزينب قد كان بعد المريسيع (٣). أضاف البلاذري قوله : ويقال : إنه تزوجها في سنة ثلاث وليس بثبت (٤).
وإن قلنا : أن الإفك كان في السنة السادسة ـ كما هو الصحيح ـ فبالإضافة إلى حكم البلاذري ، والطبري ، وابن سعد المتقدم نلاحظ ما يلي :
__________________
(١) أنساب الأشراف ج ١ ص ٤٣٤ و ٤٣٥ وطبقات ابن سعد ج ٨ ص ١٧٣ و ١٧٤ والمصادر.
(٢) أنساب الأشراف ج ١ ص ٤٦٥.
(٣) طبقات ابن سعد (ط ليدن) ج ٨ ص ١٥٧ وتاريخ الأمم والملوك ج ٢ ص ٤١٤ وأنساب الأشراف ج ١ ص ٤٣٣.
(٤) أنساب الأشراف ج ١ ص ٤٣٣.
أولا : إن هناك رواية تقول : إن عمرة بنت عبد الرحمن سألت عائشة : متى تزوج رسول الله «صلىاللهعليهوآله» زينب بنت جحش؟
قالت : مرجعنا من غزوة المريسيع ، أو بعده بقليل (١).
ثانيا : يظهر من عبد الرزاق ، بل صريحه : أن النبي «صلىاللهعليهوآله» قد تزوج بزينب بعد تزوجه بصفية ، حيث قال ، وهو يعدد زوجات النبي «صلىاللهعليهوآله» : «.. ثم نكح صفية بنت حيي ، وهي مما أفاء الله عليه يو خيبر ، ثم نكح زينب بنت جحش ..» (٢) والحجاب إنما فرض ـ كما يقولون ـ : في قصة زينب ، ففرض الحجاب إذن يكون بعد المريسيع.
فكيف تقول عائشة : إن الإفك كان بعد فرض الحجاب ، وبعد تزوجه «صلىاللهعليهوآله» بزينب؟! وأنها خمرت وجهها بجلبابها ، وأن حمنة طفقت تحارب لأختها زينب ، التي عصمها الله بالورع .. وأنه سأل زينب عن أمرها في الإفك ، فبرأتها؟!
وأما دعوى : أن حديث الإفك يدل على تقدم زواجه «صلىاللهعليهوآله» بزينب ، وفرض الحجاب (٣) ، فهي مصادرة وتحكم بلا دليل.
بل إن العكس هو الصحيح ، لأن حديث الإفك فيه الكثير من الإشكالات الأساسية الموجبة لضعفه ووهنه ، فلا يقوى على مقاومة النصوص التاريخية الأخرى.
__________________
(١) طبقات ابن سعد ج ٨ ص ٨١.
(٢) مصنف عبد الرزاق ج ٧ ص ٤٩٠.
(٣) فتح الباري ج ٨ ص ٣٥١.
ولو أردنا : أن نصحح حديث الإفك لوجب ان نغير جانبا عظيما من التاريخ ليوافقه وينسجم معه .. ولا يمكن ذلك ، ولا يصح ، من أجل رواية واحدة ، متناقضة ، ضعيفة السند والمتن .. وتنتابها العلل من كل جانب ومكان.
ثالثا : قد عرفنا : أن سورة النور قد نزلت في سنة تسع لأجل آيات اللعان ، التي نزلت في سنة تسع بعد رجوعه «صلىاللهعليهوآله» من تبوك.
رابعا : هناك روايات تذكر : أن سبب نزول الحجاب هو جرأة عمر على نساء رسول الله «صلىاللهعليهوآله» حين نادى سودة بنت زمعة وهي تذهب إلى المناصع ليلا ، وقال لها : قد عرفناك يا سودة (١).
وفي نص آخر : أن آيات الحجاب نزلت في إيذاء المنافقين لنسائه «صلىاللهعليهوآله» حين كن يخرجن بالليل لحاجاتهن (٢). أو حين أكل عمر مع بعض نساء النبي «صلىاللهعليهوآله» ، فأصابت يده بعض أيدي نساء النبي «صلىاللهعليهوآله» (٣).
٣ ـ المنبر :
أ ـ لقد ورد في روايات الإفك : أن النبي «صلىاللهعليهوآله» قد صعد المنبر ، واستعذر من ابن أبي ، وأن الحيين تثاورا ، فما زال يخفضهم وهو على المنبر ، حتى سكتوا وسكت.
__________________
(١) طبقات ابن سعد (ط دار صادر) ج ٨ ص ١٧٤.
(٢) راجع طبقات ابن سعد (ط دار صادر) ج ٨ ص ١٧٦.
(٣) طبقات ابن سعد (ط دار صادر) ج ٨ ص ١٧٥.
مع أنهم يذكرون : أن المنبر لم يكن قد اتخذ بعد. وإنما اتخذ في السنة الثامنة (١) ، بل في السنة التاسعة. كما يدل عليه ذكر تميم الداري في روايات المنبر ، وتميم إنما قدم المدينة سنة تسع.
وذلك لأنهم يقولون : إن تميم الداري هو الذي صنعه (٢).
ب ـ وفيه أيضا : ذكر للعباس بن عبد المطلب ، الذي قدم المدينة في آخر سنة ثمان ، فقد جاء في رواية : أنه «صلىاللهعليهوآله» ، عندما اقترح عليه تميم الداري المنبر شاور العباس بن عبد المطلب ، فقال العباس : إن لي غلاما يقال له : كلاب ، أعمل الناس ، فقال : مره أن يعمل (٣) .. الحديث.
وفي المبهمات لابن بشكوال قال : قرأت بخط ابن حبان قال : ذكر عبد الله بن حسين الأندلسي في كتابه في الرجال ، عن عمر بن عبد العزيز : أن
__________________
(١) السيرة الحلبية ج ٢ ص ٣٠٠ عن كتابي : الأصل ، والنور ، وفي فتح الباري ج ٢ ص ٣٣٠ ووفاء الوفاء ج ٢ ص ٣٩٧ : أن ابن النجار جزم بهذا ، وأما ابن سعد فقد جزم بأنه اتخذ في السابعة.
(٢) الأوائل للعسكري ج ١ ص ٣٣٦ ووفاء الوفاء ج ٢ ص ٣٩١ و ٣٩٦ ، عن أبي داود ، بسند أحمد ، وفتح الباري ج ٢ ص ٣٣٠ عن أبي داود ، والحسن بن سفيان ، والبيهقي ، والعسقلاني ، وإسناده جيد ، وسيأتي ذكره في علامات النبوة وفي البخاري أشار إليه ، وطبقات ابن سعد (ط دار صادر) ج ١ ص ٢٥٠.
(٣) الإصابة ج ٣ ص ٣٠٤ ، عن الطبقات ، وطبقات ابن سعد ج ١ قسم ٢ ص ٩ ، وفي وفاء الوفاء ج ٢ ص ٣٩٣ ، عن الطبقات ، وقيل : إن رجاله ثقات ما عدا الواقدي ، وكذا قيل في فتح الباري ج ٢ ص ٣٣٠ ، وهو من حديث أبي هريرة ، وفي كتاب يحيى بن سعيد ، منقطعا عن أبي الزناد ، وغيره.
المنبر عمله صباح مولى العباس (١).
وقد حاول البعض توجيه ذلك : بأن المقصود : أنه وقف على شيء مرتفع من الطين (٢).
ولكن هذا التوجيه لا يعدو كونه تخرصا لا مبرر له .. ولا سيما بملاحظة : أن لفظ المنبر لا يطلق على ذلك لغة ، كما هو ظاهر ..
ويرده أيضا : أنه «صلىاللهعليهوآله» كان قبل اتخاذ المنبر يخطب وهو مستند إلى جذع. فلما اتخذ المنبر تحول إليه ، فحن الجذع ، فأتاه فمسح يده عليه ، حتى سكن (٣).
قال عياض : حنين الجذع مشهور منتشر ، والخبر به متواتر ، أخرجه أهل الصحيح ، ورواه من الصحابة بضعة عشر (٤).
__________________
(١) الإصابة ج ٢ ص ١٧٥.
(٢) السيرة الحلبية ج ٢ ص ٣٠٠ ، عن صاحب كتاب النور ..
(٣) راجع : الوفاء لابن الجوزي ج ١ ص ٣٢١ ـ ٣٢٤ ووفاء الوفاء للسمهودي ج ٢ ص ٣٨٨ ، فصاعدا عن البخاري بعدة طرق ، وعن النسائي ، وابن خزيمة ، وعن الدارمي ، وأحمد ، وابن ماجة ، وابن عساكر في تحفته ، وعياض ، وابن عبد البر ، وكتاب يحيى بن سعيد ، والإسفراييني ، وكتاب ابن زبالة ، والبخاري ج ٢ ص ١١ وفتح الباري ج ٢ ص ٣٣٠ عن بعض من تقدم ، وعن الترمذي ، وابن خزيمة ، وصححاه ، وطبقات ابن سعد ج ١ قسم ٢ ص ١٠ و ١١ و ١٢ ومصنف عبد الرزاق ج ٣ ص ١٨٦ ودلائل النبوة ج ٢ ص ٢٧٤ ـ ٢٧١.
(٤) راجع : وفاء الوفاء ج ٢ ص ٣٩٤.
الفصل السابع :
القرآن .. وروايات الإفك
مما تقدم :
لقد ارتأينا : أن نبحث حديث الإفك هنا من وجهة نظر قرآنية أيضا.
وقد تقدم في الفصل السابق البحث عن أمور عديدة ، كان من بينها نقاط ثلاث ، تعتبر أيضا من الأمور القرآنية .. ونحن بعد أن ذكرناها هناك ، لا نرى حاجة لإعادتها بصورة تفصيلية في هذا الفصل ، وهذه الأمور الثلاثة هي :
الأول : ما تقدم من أن آيات الإفك لابد أن تكون قد نزلت بعد الإفك بحوالي ثلاث سنين ..
فإن الظاهر هو : أن سورة النور قد نزلت بأجمعها دفعة واحدة ..
مع أنهم يقولون : إن حديث الإفك كان في السادسة ، أو التي قبلها في غزوة المريسيع .. والآيات إنما نزلت في وقت حدوث الإفك ، حسب تصريح الروايات. فكيف يكون الإفك في سنة ست ، والآيات نزلت بعد هذه المدة الطويلة؟! ..
الثاني : إن صريح روايات الإفك : أنه كان بعد فرض الحجاب ، وآيات فرض الحجاب قد نزلت في سورة النور نفسها بعد سنة ثمان ؛ فكيف يكون الإفك في سنة ست أو قبلها ، وآيات فرض الحجاب نزلت في سنة ثمان؟!
هذا .. عدا عما تقدم من أن زواج النبي «صلىاللهعليهوآله» بزينب ، التي نزلت آيات الحجاب في قضيتها ، إنما كان بعد المريسيع .. بل بعد خيبر أيضا كما عرفت.
الثالث : إن آيات اللعان الواردة في أول سورة النور تدل على أن الإفك قد كان في السنة التاسعة أيضا ؛ لأن اللعان إنما كان بعد غزوة تبوك حسبما تقدم.
وما نريد أن نذكره في هذا الفصل ـ بالإضافة إلى ما تقدم ـ هو الأمور التالية :
١ ـ المؤمنات :
لقد وصف القرآن الكريم تلك المرأة التي تعرضت للإفك عليها بالمؤمنة ، قال تعالى : (الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ الْغافِلاتِ الْمُؤْمِناتِ) (١).
لكننا إذا راجعنا سورة التحريم ، فسنواجه آيات فيها تعريض قوي ، وإيحاء بالغ الدلالة على ضد ذلك ، إذ إن عائشة وحفصة كانتا هما السبب في نزول تلك السورة ، فتكونان بالتالي هما المقصودتان بتلك الآيات. فلاحظ ما يلي :
أ ـ قال تعالى : (عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَّ مُسْلِماتٍ مُؤْمِناتٍ) (٢) فإن ظاهر السياق هو : أن هذه الصفات غير موجودة فيهن ، وإنما هي موجودة في البدائل ، وذلك ليصح الامتنان بهذا الأمر على رسول الله «صلىاللهعليهوآله» ، وليصح تهديدهن به والتعريض به لهن.
ب ـ إنه سبحانه قد اتخذ هو وجبرائيل ، وصالح المؤمنين ، والملائكة
__________________
(١) الآية ٢٣ من سورة النور.
(٢) الآية ٥ من سورة التحريم.
أيضا جانب رسول الله «صلىاللهعليهوآله» ، ليكون من يتظاهر على رسول الله «صلىاللهعليهوآله» في الجانب الآخر. قال تعالى :
(إِنْ تَتُوبا إِلَى اللهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ) (١).
ج ـ ثم إنه سبحانه قد عرّض بخيانتهما لرسول الله ـ من خلال إفشاء سره الخطير ـ فجعلهما في صف امرأتي نوح ولوط ، فقال تعالى : (ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا صالِحَيْنِ فَخانَتاهُما فَلَمْ يُغْنِيا عَنْهُما مِنَ اللهِ شَيْئاً وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ) (٢).
وكل ذلك وسواه .. يثير شكوكا قوية حول إمكانية أن تكون الآيات الشريفة في سورة النور قد نزلت في عائشة ، لتصفها بهذه الأوصاف المادحة ، التي لا تتلاءم مع أجواء سورة التحريم ..
٢ ـ الغافلات :
وأما وصف «الغافلات» الوارد في آيات الإفك ، فإنه هو الآخر يزيد من صعوبة دعوى أن تكون آيات الإفك قد نزلت في عائشة.
وهي أشدّ مناسبة والتصاقا بما جرى لمارية ، إذ إن مارية كانت تعيش في مشربتها في معزل عن الناس ، ولا تلتقي إلا برسول الله «صلىاللهعليهوآله» ، وبنسيبها ، أو أخيها مأبور ، وليس ثمة من حدث لافت ومثير في
__________________
(١) الآية ٤ من سورة التحريم.
(٢) الآية ١٠ من سورة سورة التحريم.
حياتها تلك العادية والرتيبة.
أما عائشة فقد تركها النبي «صلىاللهعليهوآله» في قلب الصحراء ، وقد صادفها صفوان بن المعطل وحدها نائمة ، أو مستيقظة ، على اختلاف رواياتها .. وقد بقيت معه حتى قدم بها في اليوم التالي في نحر الظهيرة على جيش فيه الكثير من المنافقين ، الذين يبحثون عن أية فرصة للنيل من رسول الله «صلىاللهعليهوآله» .. فكيف لم يخطر في بالها ـ والحالة هذه ـ : أن يتهمها المنافقون الحاقدون بما يسيء إلى سمعتها؟!
إلا إن كانت على درجة عالية جدا من السذاجة ، البالغة إلى حد البله ، وليست عائشة بهذه المثابة على أي حال. بل هي المرأة اليقظة الذكية التي استطاعت أن تقود حربا ضد وصي رسول الله «صلىاللهعليهوآله» .. يقتل فيها ألوف كثيرة من المسلمين.
وهذه الملاحظة تزيد من مشكلات حديث الإفك على عائشة ، وتؤكد عدم صحته.
٣ ـ الإفك المبين :
وعن الإفك المبين نقول :
ألف : إن الآيات القرآنية توبخ المؤمنين ، لأنهم لم يظنوا خيرا ، وتكلفهم أن يحكموا بمجرد سماعهم بالإفك بأنه بهتان عظيم ، وبأنه إفك مبين .. فلا بد أن يكون إفكا بينا ومعلوما لدى كل أحد ، ليمكن لكل من سمعه أن يحكم بكونه بهتانا ، وإفكا مبينا.
والأمر في قضية عائشة المروي عنها ليس كذلك ، فالإيهام والإبهام فيها