السيّد علي الحسيني الميلاني
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مركز الحقائق الإسلاميّة
المطبعة: وفا
الطبعة: ٢
ISBN الدورة:
الصفحات: ٤٠٠
الأصفهاني في رسالة الحق والحكم (١) ، حيث ذكر هناك ـ في بحثٍ له مع السيّد قدسسره ، القائل بكون الحق هو الملك (٢) والميرزا القائل بكونه مرتبةً ضعيفةً من الملك (٣) إن الامور الواقعيّة على قسمين ، فمنها : الامور الواقعيّة التي لا مرتبة لها في الخارج ، ومنها : الامور الواقعيّة ذات المرتبة في الخارج والقابلة للشدّة والضعف ، (قال) والاعتباريّات هي نفس الواقعيّات ، لكنّ المعتبر يعطيها الوجود الاعتباري ، فلا مانع من قبولها للشدّة والضعف إن كانت ذات مرتبة. (قال) غير أنّ «الملكيّة» ليست من هذا القبيل ، فلا يعقل فيها الشدّة والضعف ، فجعل «الحق» مرتبة من «الملكيّة» غير صحيح.
فتلخّص : إنه يوافق على الكبرى ، غير أن بحثه مع السيّد صغروي ، لكون «الملكيّة» إمّا من مقولة الجدة ، وامّا من مقولة الإضافة ، وعلى كلّ تقدير ، فلا يعقل أن يكون لها المرتبة.
وإذا كان يرى صحّة الكبرى ، فإنّها منطبقة فيما نحن فيه ، لأنّ الوجوب على مسلكه ـ عبارة عن النسبة البعثيّة ، وإذا كان البعث الاعتباري في الحقيقة اعتباراً للبعث والتحريك الخارجي ، فمن الواضح أن البعث الخارجي ذو مراتب ويقبل الشدّة والضعف ، فيكون ما يأخذه المعتبر في عالم الاعتبار كذلك.
إنه ليس معنى الاندكاك أن يوجد وجوب ضعيف ثم يتحرّك نحو الشدّة ، بل القائل بالاندكاك يقول بوجود الملاكين ، وأن الملاكين يوجبان على المعتبر أنْ يعتبر المرتبة الشديدة الأكيدة من البعث.
__________________
(١) حاشية المكاسب ١ / ٤٢ ـ ٤٣.
(٢) الحاشية على المكاسب للسيد اليزدي : ٥٧.
(٣) منية الطالب في الحاشية على المكاسب ١ / ١١١.
فما ذكره طريقاً لبطلان الاندكاك مردود.
الوجه الثاني والموافقة عليه
إنه لا يعقل الإهمال في متعلَّق البعث بل لا بدَّ من تعيّنه بالضرورة ، وحينئذٍ ، فلا يخلو أن يتعلَّق البعث الأكيد الحاصل من الاندكاك ، إمّا بالأجزاء ، يعني بكلّ واحدٍ لا بشرط عن الانضمام إلى سائر الأجزاء ، وامّا بكلّها ، أي كلّ الأجزاء أو كلّ واحدٍ بشرط الانضمام. فإنْ كانَ المتعلَّق هو الجزء ، فالمفروض أنّ الجزء لم يجب بالوجوب النفسي ، وتعلّق البعث الأكيد به يكون من تعلّق الحكم بشيء لا ملاك له ، لأنّ ملاك وجوب الجزء هو الملاك الغيري ، وملاك الوجوب الغيري لا يقتضي أزيد من الطلب الغيري ... فليس متعلَّق البعث الأكيد هو الجزء ، ولا الأجزاء لا بشرط عن الانضمام.
وإنْ كان المتعلَّق له هو الكلّ ، فإنّ الكلّ ليس له إلاّ ملاك الوجوب النفسي ، والبعث الأكيد تابع لكلا الملاكين.
وبهذا يظهر : إنه لو اتّصفت الأجزاء بالوجوب النفسي والغيري معاً ، وهي موجودة بوجود الكلّ ، يلزم اجتماع المثلين ، ولو اريد حلّ مشكلة الاجتماع بالاندكاك ، فإنّه ـ وإن كان قابلاً للتصوّر ، وهو واقع في مثل إكرام العالم الهاشمي ـ غير منطبق هنا ، لأن الحكم تابع للملاك ، وحدّ الملاك معلوم ، ولا يمكن زيادة الحكم على الملاك.
وتلخّص : إنّ هنا وجوباً واحداً فقط ، فإمّا النفسي وامّا الغيري ، فقال المحقق الخراساني : ليس هنا إلاّ الوجوب النفسي ـ وإن كان ملاك الوجوب الغيري بالنسبة إلى الأجزاء موجوداً ـ لسبق الوجوب النفسي. ثم أمر رحمهالله بالتأمّل.
وأوضح ـ في (حاشية الكفاية) ـ وجه التأمّل ، بالإشكال فيما ذكره في المتن من تعدّد الملاك ، بأنه لمّا كانت الأجزاء الداخليّة وجودها بعين وجود الكلّ ، فليس لها وجود منحاز عن الكلّ ، حتى يكون لها ملاك يقتضي المطلوبيّة الغيريّة لها ، وإنّما التعدّد بين الأجزاء والكلّ اعتباري فقط ، وإذ ليس في المقام ملاك للوجوب الغيري ، فلا وجه للقول بأنّ الوجوب النفسي هو الواقع ، لسبقه ، بل هو موجود لوجود الملاك له ، والغيري غير موجود لعدم وجود الملاك له.
هذا ، وفي قوله «لسبقه» أيضاً إشكال ، لأنه على فرض وجود الملاك للوجوب الغيري ، فالتعليل المذكور غير صحيح ، لعدم تعقّل السبق بلا لحوق ، لكونهما متضايفين ، فسبق الوجوب النفسي مستلزم للحوق الوجوب الغيري ، والحال أنّ الوجوب الغيري محال ، للزوم اجتماع المثلين ... وهذا الإشكال وارد عليه ولا جواب عنه.
بل الصحيح أنْ يقال بوجود وجوبٍ واحدٍ وهو النفسي ، لوجود المقتضي له وعدم المانع عنه ، أمّا المقتضي فالملاك ، وأمّا عدم المانع ، فلأنّه لا يوجد ما يصح لأنْ يكون مانعاً عن تأثير الملاك النفسي في الوجوب ، وأمّا الوجوب الغيري فإنّ لزوم اجتماع المثلين يمنع عن تحقّقه.
لا يقال : لا محذور في اجتماع المثلين في الامور الاعتباريّة.
لأنّا نقول : بأنّ لزوم المحال في المنتهى واضح جدّاً ، لأن البعث يقتضي الانبعاث ، وتحقّق الانبعاثين نحو الشيء الواحد غير معقول ، فوجود الوجوبين محال ، وحصول الوجوب الواحد المؤكّد محال.
هذا تمام الكلام في هذا المقام ... ويبقى الكلام في ثمرة هذا البحث :
ثمرة البحث عن اتصاف الأجزاء الداخلية بالوجوب الغيري
قالوا : إن ثمرة البحث عن أنّ الأجزاء الداخليّة تتّصف بالوجوب الغيري أو لا ، تظهر في مسألة انحلال العلم الإجمالي وعدمه. ففي موارد العلم الإجمالي ـ حيث يكون وجوب الأقل معلوماً ووجوب الأكثر مشكوك فيه ـ تجري البراءة عن الأكثر ، وهنا ، إنْ قلنا بوجوب الأجزاء بالوجوب الغيري ، تكون هي الأقل المتيقّن ، لأنّها تجب ، إمّا بالوجوب النفسي المتعلّق بالكلّ ، وامّا بالوجوب الغيري المتعلّق بها ، وأمّا إن قلنا بعدم وجوبها بالوجوب الغيري ، فلا ينعقد العلم الإجمالي بالبيان المذكور.
فهل هذه الثمرة مترتّبة أو لا؟
لقد ذكر الشيخ الأعظم قدسسره ـ لانحلال العلم الإجمالي بين وجوب الأقلّ ووجوب الأكثر الارتباطيين ـ تقريبين : أحدهما : هو التقريب المتقدّم ، وحاصله : كون الأقلّ معلوم الوجوب بالعلم التفصيلي الجامع بين الوجوبين ، ويكون الشك في الأكثر ـ الزائد ـ بدويّاً. والثاني : إن نفس الوجوب النفسي المعلوم بالإجمال يشتمل على ما هو معلوم بالتفصيل وهو الأقل ، لكونه في ضمن الأكثر ، ويكون الأكثر الزائد عليه مشكوكاً فيه.
فعلى التقريب الأوّل يتصوّر الثمرة في المقام.
لكنّ المحقق العراقي (١) جعل مركز ترتّب الثمرة على عكس التقريب الأوّل ، فقال بالاشتغال بناءً على القول بوجوب الأجزاء بالوجوب الغيري ، لأنّه بناءً عليه لا ينحلّ العلم ، مثلاً : إنّا نعلم إجمالاً بوجوب الصّلاة إمّا مع السّورة وامّا بدونها ، ومن هذا العلم يتولَّد علم آخر ، وهو وجوب الأقل ـ أي
__________________
(١) نهاية الافكار ١ / ٢٦٩.
الصّلاة بلا سورة ـ إمّا بالوجوب النفسي وامّا بالوجوب الغيري ، وذلك لأنّ الوجوب الغيري للأقل مترشّح من الوجوب النفسي المتعلّق بالأكثر ، وأن تعلّقه بالأكثر علّة لوجوب الأقل وجوباً غيريّاً ، فكان هذا العلم الإجمالي معلولاً للعلم الإجمالي الأوّل ، وإذا تنجّز التكليف بالنسبة إلى الأكثر بالعلم السّابق ، فلا يعقل انحلاله بعد ذلك بالعلم اللاّحق المتولّد منه. وبعبارة أُخرى ، فإنه لا يعقل زوال العلّة بالمعلول.
والحاصل ، إنه بناءً على القول بوجوب الأجزاء بالوجوب الغيري ، لا ينحلّ العلم ، وتكون النتيجة الاحتياط لا البراءة.
وهذا الذي ذكرناه هو مقصود المحقّق العراقي ، لا ما نسب إليه في (المحاضرات)(١).
رأي الأستاذ
وبعد أن ذكر الاستاذ كلام القوم قال : بأنّ الحق عدم ترتّب الثمرة ، لأنّ مناط تنجيز العلم الإجمالي للأطراف هو جريان الاصول فيها وتساقطها بالمعارضة ، فلو جرى الأصل في طرفٍ بلا معارض له في غيره ، فلا موضوع للعلم الإجمالي ، وعلمنا في دوران الأمر بين الأقل والأكثر يعود ـ في الحقيقة ـ إلى أنّه هل الواجب هو الأجزاء التسعة لا بشرط الجزء العاشر وهو السورة حسب الفرض ، أو أنها تجب بشرط السّورة ، فيدور أمر الأجزاء التسعة بين أنْ تكون مطلقةً عن السورة أو مقيَّدة بها ، لكنّ جريان أصالة البراءة عن الإطلاق لا موضوع له ، لأنّ الإطلاق ليس بكلفةٍ حتى يُرفع بحديث الرفع امتناناً ، بل التقييد فيه الكلفة على المكلَّف وفي رفعها الامتنان عليه ... إذن ،
__________________
(١) محاضرات في أصول الفقه ٢ / ٣٠١.
فلا مجرى للأصل في أحد الطرفين ، ويكون جارياً في الطرف الآخر بلا معارض.
(قال) غاية ما يمكن أن يقال : إنّ القول بوجوب الأجزاء وجوباً غيريّاً شرعيّاً ، يجوّز للفقيه أن يفتي بذلك ، ويجوز حينئذٍ قصد وجوبها على المبنى ، وأمّا على القول بالعدم ، فلا يجوز الفتوى بذلك ، ويكون الإتيان بها بقصد الوجوب تشريعاً.
هذا تمام الكلام في المقدّمات الداخليّة ، وقد ظهر أنها غير داخلة في البحث.
تقسيم آخر
وتنقسم المقدّمة إلى : مقدّمة الوجوب ، ومقدّمة الوجود ، ومقدّمة الصحّة ، ومقدّمة العلم أو : المقدّمة العلميّة.
أمّا مقدّمة الوجوب ، فهي شرط التكليف ، كالاستطاعة بالنّسبة إلى وجوب الحج ، وهذا القسم خارج عن البحث ، لأنه ما لم يجب ذو المقدّمة فلا وجوب للمقدّمة ، فإذا وجب ذو المقدمة ، كان وجودها حاصلاً من قبل ، فلا يعقل تعلّق الوجوب بها.
وأمّا المقدّمة العلميّة ، فهي المقدّمة الموجبة لعلم المكلَّف بحصول الامتثال وفراغ الذمة عن التكليف ، كالصّلاة إلى الجهات الأربع ، ووجوبها عقلي من باب قاعدة الفراغ ، وليس شرعيّاً ، وبحثنا في مقدمة الواجب إنما هو عن وجوبها شرعاً ، وممّا يؤكّد ذلك : أن المقدّمة العلمية ، يدور أمرها بين الواجب النفسي وغير الواجب ، لأن احدى الصّلوات هي الواجب النفسي ، والثلاثة البقيّة ليست بواجبة أصلاً ، لا نفساً ولا غيريّاً.
ومقدّمة الوجوب داخلة في البحث ، كما هو واضح ، لأن بحثنا عن الوجوب الغيري المترتب عليه المطلوب النفسي.
ومقدّمة الصحّة ترجع إلى مقدّمة الوجود ، لأنّ معنى مقدمة الصحّة مقدمة تحقق المأمور به .. فهي داخلة كذلك.
تقسيم آخر
وتنقسم المقدّمة إلى : المقدّمة العقليّة ، والمقدّمة الشرعيّة ، والمقدّمة العاديّة.
أمّا العقليّة فداخلة في البحث ، كطيّ المسافة للحج ، فإنّه يتوقّف على طيّ المسافة والسفر ، وحينئذٍ يبحث عن وجوبها شرعاً وجوباً غيريّاً.
وأمّا الشرعيّة ، فهي المقدّمة لحصول المأمور به وتحقّقه بأخذٍ من الشارع ، كالطهارة بالنسبة إلى الصّلاة ، لكنْ بعد أخذه وحكمه بامتناع الصّلاة بلا طهارةٍ تصير هذه المقدّمة عقليّةً ، إذ العقل يحكم بلزوم الإتيان بها ، تحصيلاً للامتثال وخروجاً عن الاشتغال.
وأمّا العاديّة ، فإنْ كان المراد منها ما جرى عليه العرف والعادة في كونه طريقاً ومقدّمةً للوصول إلى ذي المقدّمة ، فهي غير داخلة في البحث ، وإنْ كان المراد ما لا يمكن الوصول إلى ذي المقدّمة عادة إلاّ به ، كنصْب السلّم للصعود إلى السطح ، حيث أنّ الطيران محالٌ عادةً ـ وإنْ لم يكن بمحالٍ عقلاً ـ فهي راجعة إلى المقدّمة العقليّة ، لأنّ الطيران غير ممكنٍ من المكلَّف ... فتكون حينئذٍ داخلةً في البحث.
تقسيم آخر
وتنقسم إلى : المقدّمة السابقة ، والمقدّمة اللاّحقة ، والمقدّمة المقارنة.
وكلّ واحد من الأقسام ، تارةً مقدّمة لمتعلّق الحكم ، وأخرى مقدّمة للحكم.
والحكم ، تارةً : تكليفي ، وأخرى : وضعي.
أمّا المقدّمة السابقة ، كالإيجاب والقبول بالنسبة إلى الملكيّة ، وكالطّهور بالنسبة إلى الصّلاة ، بناءً على أنه نفس الغسَلات والمسحات.
وأمّا المقدّمة المقارنة ، كالطّهور بالنسبة إلى الصّلاة ، بناءً على أنه الأثر الحاصل من الغسلات والمسحات.
وأمّا المقدّمة السابقة ، فسيتّضح الكلام حولها من خلال البحث عن المقدّمة المتأخّرة.
وأمّا المقدّمة المقارنة ، فلا كلام في دخولها في البحث.
وأمّا المقدّمة المتأخّرة ، كالإجازة في عقد الفضولي بناءً على الكشف ، وهي المعبَّر عنها بالشرط المتأخر ، فقد عقدنا لها فصلاً مستقلاًّ ، لأهميّتها وآثارها علماً وعملاً ، وهذا تفصيل الكلام عليها :
الشّرط المتأخّر
ولا بدَّ من تنقيح مورد النزاع أوّلاً ، ثم البحث ثبوتاً وإثباتاً.
إنّ الإشكال في الشرط المتأخّر جارٍ في شرط الحكم التكليفي ، وشرط الحكم الوضعي ، وشرط المأمور به ، فهو إشكال عامٌّ ، وتقريبه :
إن العلّة ـ سواء كانت بسيطة أو مركّبة ـ في مرتبةٍ سابقةٍ على المعلول ، وهما مقترنان في الزّمان ....
وإن العلّة لا بدّ وأنْ تكون مؤثّرة في المعلول ، وإلاّ يلزم الخلف ، وتأثيرها فيه موقوف على وجودها ، وإلاّ فالمعدوم غير مؤثر ، فلا يعقل حصول الأثر وهو المعلول ، قبل حصول المؤثر والشرط في تأثيره.
وبناءً على ما ذكر ، فإنّه في حال تأخّر الشرط وسبق المعلول على العلّة ، لا بدّ من الالتزام بأحد أمرين ، إمّا نفي نسبة العليّة والمعلوليّة بينهما ، وهذا خلف ، وامّا أنْ يكون المعدوم مؤثراً في الوجود ، وهذا محال.
وإذا كان الإشكال بهذه الصّورة ، فإنّه يعمّ الشرط المتقدّم أيضاً ، لأنّ المفروض تأثيره في وقتٍ ليس المشروط وذو المقدمة متحقّقاً بعدُ ، فإمّا أنْ تنفى العلّية والمقدميّة بينهما ، وهذا خلف ، وامّا يقال بالتأثير في المعدوم ، وهذا محال ....
ولذا قال المحقق الخراساني بعموم الإشكال للمقدّمة السابقة أيضاً.
ومن هنا أيضاً : أورد السيّد الطباطبائي اليزدي في بحث الشروط الشرعيّة ، بتوضيح كلام الجواهر ـ على المنكرين للشرط المتأخر ، بأنّ إنكاره
يستلزم إنكار الشرط المتقدّم أيضاً ، لكنّ إنكاره باطل ، لوجود الشرط المتقدّم في التكوينيّات والشرعيّات ، فلا مناص من قبول الشرط المتأخّر ، لوحدة المطلب بينهما ... وقد سلّم صاحب الكفاية بهذا النقض.
هذا هو الإشكال العام.
وأمّا الإشكال الخاص ، فقد قرّره المحقق النائيني (١) ، وهو :
إن القضايا الشرعيّة كلّها قضايا حقيقيّة لا خارجيّة ، إذ الشارع يفترض الموضوع موجوداً ، ويجعل الحكم للموضوع المفروض الوجود ، وإنّ الأساس لهذا الفرض من الشارع هو الواقع وهو تابع للواقع ، والنسبة بينهما نسبة المعلول إلى العلّة ، وإذا كان كذلك ، كان كلّ شرط موضوعاً ، وكان كلّ موضوع شرطاً ، وعلى هذا ، ترجع الشروط إلى كونها موضوعات للأحكام ، سواء التكليفيّة أو الوضعيّة.
وعليه ، فالحكم لا بدَّ وأن يتوجّه على الموضوع المفروض الوجود بالفرض المتأثر بالواقع ، لا بالفرض اللاّبشرط من الواقع ، وعليه ، فيكون الشرط المتأخّر محالاً ، لأنّ المفروض كونه في رتبة الموضوع ، يلحظه الحاكم ويوجّه إليه الحكم ، وإذا كان متأخّراً لا يتحقّق الرؤية له والموضوعيّة للحكم.
آراء الأعلام في الشرط المتأخّر
وقد ذكرت وجوه لحلّ هذه المشكلة ، وتصحيح الشرط المتأخّر :
رأي الشيخ الأعظم
ما حكاه المحقّق الخراساني عن الشيخ الأعظم قدسسره : من أنّ الشرط المتأخّر غير معقول ، وهنا ليس الشرط متأخّراً ، وإنما يكون الشيء
__________________
(١) أجود التقريرات ١ / ١٨٨.
بوصف التأخّر شرطاً.
وفيه :
إنّ المستفاد من كلمات الشيخ بل صريحها ، هو عدم الموافقة على الشرط المتأخّر بأيّ شكلٍ كان ، قال : ولذا قلنا بالإجازة وأنكرنا الكشف مطلقاً ، وأكّد على أن هذه قاعدة عقليّة ، ولا يسعنا أن نؤمن بما لا نتعقّله. على أن ما نسبه صاحب الكفاية إليه غير رافع للإشكال ، للزوم تأثير المعدوم في الموجود كذلك ، فالإشكال يعود.
رأي السيد الشيرازي
ما حكاه المحقق الخراساني والسيّد في (حاشية المكاسب) عن الميرزا الشيرازي (١) من أنّ الشرط المتأخّر في الشرعيّات ـ كالإجازة في عقد الفضول ، وغسل المستحاضة باللّيل لصومها ـ إن كان بوجوده الزماني شرطاً للحكم أو متعلّق الحكم ، فالإشكال وارد ، لكن الشرط في هذه الموارد هو الشرط بوجوده الدهري ، والوجود الدهري العقلي مقارن للمشروط وليس بمتأخّر.
وتوضيحه : إن الموجودات كلّها مجتمعة في عالم التجرّد ، وهو عالم ما فوق الزمان ، المعبّر عنه أيضاً بعالم العقل وبوعاء الدهريات ووعاء المجرَّدات ، وحينئذٍ ، يكون بينها التقارن وليس التقدّم والتأخّر.
وفيه :
إن الخطابات الشّرعية ملقاة إلى العرف ، فعلى فرض التسليم بما ذكر من حيث أصل المطلب ـ وكلّه مخدوش ـ فإنّ العرف لا يفهم الوجود الدهري
__________________
(١) ونقل المحقق العراقي عمّن سمع السيد الشيرازي أنه ذكر ذلك على وجه الاحتمال.
أصلاً ، بل يرى الموجود الزماني ، فالإجازة الموجودة في الزمان وفي عالم التحقّق ، هي المؤثّرة عند العرف العام. هذا أوّلاً.
وثانياً : إنه يعتبر في الشرط أن يكون مقدوراً للمكلَّف ، فالغسل من المرأة مقدور إن وجب عليها إيجاده في الزمان وهو الليل ، وأمّا الموجود في دعاء الدهر ، فأيّ قدرة لها عليه كي تكون مخاطبةً به؟
رأي المحقق النراقي
ما ذكره المحقق النراقي (١) ، من أنّ الشرط لا بدّ وأنْ يتحقّق ، فلا ريب في لزومه ، أما اشتراط كونه مقارناً للمشروط فغير لازم.
وفيه :
إن هذا التزام بالإشكال ، لأن البحث هو في أن المتأخّر شرط أو لا؟ إن لم يكن جائزاً كونه شرطاً ، فلا يعقل أخذه من قبل الحاكم ، لكنّ أخذه له دليلٌ على دخله في حكمه وتأثيره في اتّصاف الصّوم من المرأة بالصّحة ، فكيف تحقّق الصحّة للصّوم الآن ، وشرطه ـ وهو الغسل ـ يأتي في اللّيل؟ كيف يحصل الأثر قبل مجيء المؤثّر وتحقّقه؟
رأي السيد اليزدي
ما ذكره السيّد في (حاشية المكاسب) (٢) من أنّ الشرط السابق وكذا الشرط المتأخّر ، موجود في التكوينيّات وفي الشرعيّات ، مثلاً نقول : هذا اليوم أوّل الشهر ، فيوصف بالأوّلية وتحقق له بالفعل ، مع أنّ كلّ أوّلٍ فله آخر ، وآخر الشهر لم يوجد بعدُ ، ومع كونه معدوماً فالأوّل موجود. وكذا في
__________________
(١) مناهج الأصول والأحكام : ٥٠.
(٢) حاشية المكاسب ٢ / ١٧٣ ، الطبعة المحققة.
المركّبات الخارجيّة ، نرى أنّ الجزء الأخير دخيل في صحة الجزء الأوّل وترتّب أثره عليه ، مع أنه غير موجود حين وجود الأوّل ... هذا في العقليّات والتكوينيّات ، وكذلك الحال في الشرعيّات ، حيث يكون الإيجاب مقدمةً لترتّب الملكيّة على القبول المتأخّر عن الإيجاب ....
وحلّ المطلب هو : إن المستحيل كون المعدوم مؤثّراً ، وأمّا كونه دخيلاً في التأثير ، فلا استحالة فيه ، بأنْ يكون الأثر من المقارن ، ويكون المتأخّر دخيلاً في تأثير المقارن ، فصيغة «بعت» هي المؤثّرة في الملكيّة ، لكنَّ تأثير «الباء» موقوف على مجيء «التاء» ، وتأثير «التاء» موقوف على تقدّم «الباء» عليها ، فكان المتقدّم دخيلاً في تأثير المتأخر وكذا العكس ... فهو دخلٌ في التأثير ، وليس هناك عليّة ومعلوليّة.
وفيه :
كيف يكون المعدوم دخيلاً في تأثير الموجود غير إخراجه الأثر من المؤثّر من القوّة إلى الفعل ، أليس للخروج من القوّة إلى الفعل منشأ؟ إن قلتم : لا ، لزم صدور المعلول من غير علّة ، وهو محال ، وإن قلتم : نعم ، فكيف يكون الخروج من القوّة إلى الفعليّة في زمانٍ سابق على وجود المخرج من القوّة إلى الفعليّة؟ كيف يكون حصول الموجود من المعدوم؟
رأي صاحب الكفاية
ما ذكره المحقق الخراساني ـ بعد أنْ عمّم الإشكال للمقدّمة السّابقة أيضاً ، ببيان : أنّ الإشكال في المتأخّر هو تأخّر جزء العلّة عن المعلول ، وتقدّم جزئها كذلك ، لأن العلّة والمعلول متقارنان.
وقد أشكل عليه الاستاذ ـ كما جاء في (المحاضرات) أيضاً : بأنّ
المقدّمة السابقة مُعدّة وليست بعلّة ولا جزءاً للعلّة ، حتى تكون مؤثّرة ، وتقدّم المُعدّ لا محذور فيه ، فالإشكال يختصّ بالشرط المتأخّر ـ ولرأيه تقريبات :
التقريب الأوّل : إن الحكم أمر نفساني ، وليس بخارج عن افق النفس ، ـ سواء كان الإرادة المبرزة كما عليه المحقق العراقي ، أو الاعتبار الناشئ من الإرادة كما هو مسلك المحقق الخراساني ـ ومقتضى البرهان العقلي القائم على ضرورة السنخيّة بين العلّة والمعلول والمقتضي والمقتضى ، هو أن تكون مبادئ الحكم نفسانيّة أيضاً ، وإذا كانت كذلك ، فليس مقدّماته ومبادؤه إلاّ لحاظ الموضوع والمحمول وقيود الموضوع ، والتصديق بالغاية ، ولا ريب في أنّ هذه كلّها مقترنة بالحكم ومتحققة في ظرفه ، وليست بمقدّمة عليه ولا متأخرة عنه.
إذن ، رجع الشرط المتأخّر إلى المقارن ، وارتفع الإشكال في مثل الإجازة ونحوها.
التقريب الثاني : إنه لا شكّ في أن الباعث والمحرّك في الإرادة هو العلم والإدراك ، وأمّا الخارج فليس بمؤثّر يقيناً ، ولذا لو كان الماء موجوداً في الخارج ولا يعلم به الإنسان ـ وهو عطشان ـ لم يتحرّك نحوه ومات عطشاً ، فالمؤثّر بالوجدان للتحرّك هو الصّورة العلميّة والوجود اللّحاظي ، وعليه ، فالمؤثّر في الملكيّة هو الوجود العلمي للإجازة وليس الوجود الخارجي ، والمفروض تحقّق الوجود العلمي في ظرف المعاملة.
التقريب الثالث : إن الحكم ليس له مادّة وصورة ، فهو يتحقّق بمجرّد تحقق العلّة له ، وهو الفاعل والغاية ـ بخلاف الموجودات الخارجيّة المادّية ، فإنّ تحقّقها يكون بالمادّة والصّورة والفاعل والغاية ـ وإذا كان المحقّق للحكم
هو العلّة الفاعليّة والعلّة الغائيّة فقط ، فمن المعلوم أنّ الغاية تتصوّر من الفاعل حين الحكم ....
إشكال الميرزا على صاحب الكفاية
وقد أشكل الميرزا (١) على صاحب (الكفاية) فيما ذكره في حلّ مشكل الشرط المتأخّر ، ويعتمد إشكاله على مقدّمتين :
(المقدمة الأولى) في الفرق بين القضيّة الحقيقيّة والقضيّة الخارجيّة ، وأنّ القيود المأخوذة في موضوع القضيّة الخارجيّة ترجع إلى علّة التشريع والحكم ، دون القضيّة الحقيقيّة.
وتوضيح ذلك : إن العنوان المأخوذ في القضيّة الخارجيّة إنما هو عنوان مشير وليس هو الموضوع للحكم ، بل الموضوع هو الفرد المشار إليه بالعنوان ، فلمّا يقال : أكرم من في المدرسة ، أو يقال : قتل من في العسكر ، فإنّه لا موضوعيّة للعنوان المذكور ، بل لزيد وعمرو وهكذا غيرهما من الأشخاص ، فكان الحكم متوجّهاً إليهم ، وعلّة الحكم هو العنوان ، مثل الكون في المدرسة والعسكر. أمّا في القضيّة الحقيقية ، فإن موضوع الحكم نفس العنوان ، فإذا قال : أكرم من كان صديقي ، ترتّب الحكم على عنوان «الصداقة» وكان تطبيقه على المصاديق بيد المكلّف ... بخلاف القضيّة الخارجيّة حيث يكون تطبيقه بيد الحاكم.
وعلى هذا ، فكلّ القيود المأخوذة في طرف الموضوع في القضيّة الخارجيّة ترجع إلى العلّة للحكم ، وحينئذٍ ، يكون ظرف فعليّة الحكم متّحداً مع ظرف الإنشاء ، بخلاف الحال في القضيّة الحقيقيّة ، إذ يكون ظرف فعليّة
__________________
(١) أجود التقريرات ١ / ٣٢٥ ـ ٣٢٦.
الحكم متأخّراً عن ظرف الإنشاء ، لأن القيد ـ كالاستطاعة في الحج ـ قد لا يكون عند الإنشاء متحقّقاً.
(المقدمة الثانية) في مراتب الحكم ، وهي عند صاحب (الكفاية) أربع : الملاك ، والإنشاء ، والفعليّة ، والتنجيز ، وأمّا عند الميرزا فاثنتان فقط ، لأنه يرى أنّ الملاك علّة للحكم ، وعلّة الشيء خارجة عن الشيء ، وأن التنجيز إنما هو حكم العقل باستحقاق العقاب على المخالفة ، فليس من مراتب الحكم ... ويبقى الإنشاء والفعليّة ، أمّا الإنشاء ، فهو مرحلة الجعل ، وأمّا الفعليّة فهو مرحلة فرض وجود الموضوع وقيوده ، ففي قوله تعالى : (وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ ...)(١) يجعل الحكم على الموضوع المفروض وجوده وهو المستطيع ، وإن لم يكن موجوداً عند الإنشاء أصلاً ... هذا في مرحلة الإنشاء. وأمّا مرحلة الفعليّة ، فلا بدّ من وجوده في وعائه المناسب له من الخارج أو الاعتبار.
(وبعد المقدّمتين) يظهر أنّ الشرط في القضيّة الحقيقيّة ليس إلاّ شرط الحكم والجعل ، لما تقدّم من اتّحاد الظّرف فيها بين الإنشاء والفعليّة ، لكن القضايا الشرعيّة كلّها حقيقيّة ، وفي الحقيقيّة شرائط للجعل وشرائط للمجعول ، لاختلاف الظرف كما تقدّم ، ولذا نرى أن الحكم مجعول قبل البلوغ ، لكنّ فعليّته هي بعد البلوغ ، وعلى هذا ، فيرد على المحقق الخراساني الإشكال بأنه :
قد خلط بين شرائط الجعل وشرائط المجعول ، وبين القضيّة الخارجيّة والقضيّة الحقيقيّة ، فإنّ الذي ذكره إنما يتمّ في مرحلة الجعل والإنشاء ، فهناك يتحقّق لحاظ الموضوع وقيوده ولحاظ الحكم ويتحقق الإنشاء ، وذلك شرط
__________________
(١) سورة آل عمران : ٩٧.