من هدى القرآن - ج ١٧

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ١٧

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-20-3
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٤٨٤

* أعلنت وزارة الصحة في البرازيل ان ٣٠٠ الف طفل ممن هم أقل من السنة وبسبب سوء التغذية لهم أو لأمهاتهم ، ولسوء الحالة الصحية فإنهم يواجهون الموت بحلول الشهر الأول من السنة القادمة.

* وحسب أقوال اليونيسف ان ٨٠ مليون من أصل ١٢٠ مليون من سكان البرازيل يعانون من سوء التغذية.

ج / ما نسمعه من فضائح تهز الضمير منها ما نقل لي من مأساة شابة هندية أحرقت مع زوجها بناء على عادات جاهلية ، وقد أثار حرقها ضجة كبيرة في هذا البلد (١).

ولعل قرى كثيرة لا تزال تدفن الأرملة مع زوجها الميت رضيت أم أبت.

وعن وأد البنات في الهند إليك بعض الحقائق :

يقتل في الهند كل عام ٦٥ الف طفلة جديدة في منطقة (مادوراي) في (تاميل نادو) جنوب الهند.

ويقوم الأهالي بإعطاء السم المأخوذ من ثمرة الدّفل للمواليد الإناث بعد ولادتهم مباشرة ، وهذه الطريقة ليست محصورة في مجتمع (كالار) الهندوكي ، بل وتمارس عند مجموعات هندوكية أخرى مثل (ثيغارس) في (مدراس) و (جاتس) في (راجبوتس) و (ليغاكاتبي باتبدراس) في (جوجارات).

ومن الطرق الشائعة في وأد البنات ان تقوم الأم بوضع السم على حلمة ثديها ، وتسد أنف طفلتها ، وفي (راجبوتس) تلف الأم طفلتها بقماشة سميكة ، أو تغرقها في

__________________

(١) المؤلف كان يومه في الهند.

٣٦١

النهر أو البحر.

ومن أسهل الطرق لوأد البنات التخلص من الطفلة برميها في أوعية الزبالة أو رميها في الصحراء.

والوأد هي الطريقة التي يتبعها فقراء الهند للتخلص من مهر البنت ، إذ أن أقل مهر هو خمسون الف روبية ، أي ما يعادل أربعمائة وخمسة عشر دولارا ، بالاضافة إلى المجوهرات حال الزواج ، وفي حال كون الزوج متعلما أو موظفا حكوميّا يزداد المهر على أب البنت.

وحين يعتبر الهنود الذكور موجودات ممكنة الوجود يعتبرون البنات مسئولية ، ولأن الذكور يحصلون على المهر بعد الزواج ، وهذا المفهوم مقبول حتى عند المتعلمين.

الآباء يفرقون بين الذكور والإناث في المأكل والملبس والعناية والتعليم ، إذ يرسل ٨٤ خ من الذكور الى المدارس في مقابل ٤٥ خ من الإناث.

المرأة التي تلد طفلة أو أكثر تظل عرضة للملاحظات خاصة إذا لم تنجب ذكرا ، والمرأة التي تلد طفلتين أو ثلاث يجهض حملها إذا كانت حاملا ، أو تعقم إذا كانت غير حامل.

ويستعين الآباء الفقراء الطب في وأد البنات بالإجهاض ، وان اختيارات تحديد النسل مستخدمة بشكل واسع في معظم مدن الهند.

وهناك إعلانات في كل مكان : في القطارات والجدران والسيارات تقول : «نحن نعقم ...» أو «لكي تتخلصي ادفعي ٥٠٠ روبية بدل أن تدفعي ٥٠ ألف روبية» و «تخلصي من هم البنت» أو «اعرفي حنس طفلك».

٣٦٢

وبسبب الإجهاض تموت ما بين ٤٠٠ ـ ٥٠٠ امرأة في المائة الف ، وهي ثاني نسبة في العالم.

وبسبب الوأد والإجهاض يموت ربع عدد مواليد الإناث سنويّا البالغ ١٢ مليونا ، وعلى حسب ما جاء على لسان المجلس الهندي للأبحاث الطبية فإن عدد مواليد الإناث أقل من الإناث ففي عام ـ ٨١ ـ كان لكل الف ذكر ٩٩٣ أنثى وفي عام ـ ٨٦ ـ وصل الى ٩٣٥ لكل الف ذكر.

[١٠] لكل واحد منا صحيفة منشورة يكتب فيها ملائكة الله ما نقدم أو نؤخر من عمل ، وإذا مات ابن آدم طويت صحيفته ليوم الحشر حيث تنشر من جديد ، فإذا بها لا تغادر صغيرة ولا كبيرة الا أحصاها ، فتعلق في عنقه ، ويقال له : «اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً» (٣).

(وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ)

في ذلك اليوم تبلو الخفايا والجنايا ، ولا أحد قادر على إنكار ما فعله ، فيلزم كل بما في طائره ، ويخرج له كتابه منشورا حسبما روي عن رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ عن أم سلمة أنه قال : «يحشر الناس يوم القيامة حفاة عراة» قالت : فقلت : يا رسول الله! فكيف بالنساء؟ قال : «شغل الناس يا أمّ سلمة» قلت : وما شغلهم؟ قال : «نشر الصحف ، فيها مثاقيل الذّر ومثاقيل الخردل» (٤).

[١١] وكما تنكشف سريرة البشر ، وتسقط الحجب التي وضعت عليها ؛ فإن غلاف السماء يكشط عنها كما يكشط جلد البعير عن جسده.

(وَإِذَا السَّماءُ كُشِطَتْ)

__________________

(٣) الإسراء / ١٤.

(٤) القرطبي ج ١٩ ص ٢٣٤.

٣٦٣

قالوا : قلع عن شدة التزاق ، وكشطت البعير كشطا نزعت جلده.

ما ذا يحدث ذلك اليوم؟ هل يطوى الغلاف المحيط بالأرض لتتعرض لكل واردة وشاردة ، كما قال ربنا سبحانه : «يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ» (١) وعلى هذا فالسماء هي السقف المباشر الذي يحفظ الأرض ، أم أن الحجاب الذي لا يدعنا نرى الملائكة أو عرش الله يسقط ، فإذا بأبصار الناس ترى العالم الأعلى كما ترى العالم المحيط؟

لعل التفسير الاول هو الاولى ، واختار بعضهم التفسير الثاني ، وقال بعضهم : ان معناه أن كلّ أجرام السماء تطوى ، ولكن التعبير بالكشط في هذا الحال لا يبدو مناسبا ، وأنى كان فإن الأمن الكوني يفقد نهائيّا في ذلك اليوم الرهيب.

[١٢] إذا كشطت السماء وطويت تبينت الجنة والنار ، أما النار فقد أعدّت لأهلها إعدادا تامّا إذ أوقدت حتى اسودت وزمجرت وكادت تميّز غيظا.

(وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ)

روي عن رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ : «أوقد على النار ألف سنة حتى احمرت ، ثم أوقد عليها ألف سنة حتى ابيضت ، ثم أوقد عليها ألف سنة حتى اسودت فهي سوداء مظلمة» (٢).

والسؤال هل هذه من سني الدنيا أم من سني الآخرة التي يعادل كل يوم منها ألف سنة؟ الله اعلم.

[١٣] أما الجنة فقد زيّنت لأهلها كما العروس حين تزف إلى زوجها ، تلألأت

__________________

(١) الأنبياء / ١٠٤.

(٢) تفسير القرطبي ج ١٩ / ص ٢٣٥.

٣٦٤

أنوارها ، وتهيأت الحور لأزواجهن ، واستعد الغلمان والجواري للخدمة ، وأعدت الموائد الطيبة التي هي الأشهى والألذ.

(وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ)

اي اقتربت ودنت للمتقين ، فهل تتقرب الجنة الى أرضنا كما لو كانت كرة أخرى ، أم أنّ أهل الجنة يقتربون منها؟ لا ندري.

[١٤] ذلك يوم الجزاء الأكبر ، حيث المحكمة العادلة ، وحيث السجن الكبير يتمثل ـ في جهنم ـ والجائزة العظمى في الجنة يمثلانه أمام كل ناظر ، فيرى الإنسان أعماله ماثلة أمامه ، لا يستطيع من أعماله السيئة فرارا أو إنكارا ، انها حقّا لمسؤولية وعين المسؤولية.

(عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ)

قالوا : هذه الجملة جواب الآيات المتواصلة : «إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ» وما بعدها ، وهي اثنا عشر آية صنعت الإطار العام لصورة مسئولية الإنسان عن كل أعماله ، والتعبير ب «علمت» للتأكيد على أن القضية يقين وليس مجرد تخمين ، أما قوله «نفس» فلأن النفس مركز الشعور والإحساس ، فهو أبلغ مما لو قال : علم الإنسان ، أما لو أننا قلنا : رأت العين كان أبلغ مما لو قلنا رأى الإنسان.

وقوله «ما أحضرت» ذروة البلاغة. أولسنا نعمل ونكدح حتى نحضّر شيئا لذلك اليوم الموعود ، كما يدرس التلميذ ليوم الامتحان ، ويتدرب الرياضي ليوم المباراة ، ويستعد الجيش ليوم الحرب ، وهكذا البشر يكدحون ليوم لقاء الله ، حيث يقول ربنا : «يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ» (١).

__________________

(١) الانشقاق / ٦.

٣٦٥

[١٥] قسما بالنجوم التي تختفي وتظهر ، وبالليل حيث يخيم ظلامه ، وبالصبح حين يبسط نوره على الأفق .. إن القرآن وحي الله الذي أنزله جبرئيل على الرسول الكريم.

هذه الحقائق تتواصل في جو تلك الصورة المؤثرة لتكون أبلغ أثرا ، وأعظم وقعا.

(فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ)

يبدو أن اللام هنا زائدة لتأكيد معنى القسم. أليس معناه التهويل؟ فإذا نفي القسم دل على عظمة ذلك الشيء الذي يتحرز المتحدث عن القسم به ، وهذا أشد وقعا في النفس ، فما هو الخنّس؟ قالوا : خنس بالضم خنوسا : تأخّر ، وأخنسه ، غيره : إذا خلفه ومضى عنه.

[١٦] (الْجَوارِ الْكُنَّسِ)

والجوار جمع جارية ، بينما الكنس جمع الكناس اي الغيّب.

وروي عن الامام علي ـ عليه السلام ـ : «هي النجوم تخنس بالنهار وتظهر الليل ، وتكنس في وقت غروبها» وروي عنه ـ عليه السلام ـ : «هي الكواكب الخمسة الدراري : زحل والمشتري وعطارد والمريخ والزهرة»

وقيل : المراد من «الخنس» البقر الوحش ، و «الكنس» الظباء.

وكما ذكر في اللغة : أن كلمة «الخنس» تشابه معنى «الكنس» وربما يفترقان في المعنى قليلا ، وأورد الرازي الفرق بين الخنس والكنس فقال : روي عن علي ـ عليه السلام ـ وعطاء ومقاتل وقتادة : أنها هي جميع الكواكب ، وخنوسها عبارة عن غيبوبتها عن البصر في النهار ، وكنوسها عبارة عن ظهورها للبصر في الليل ، أي

٣٦٦

تظهر في أماكنها كالوحش في كنسها (١).

ويبدو لي أن الفرق : أن هناك نجوما وكواكب ثابتة على مدار السنة ، وهناك نجوما وكواكب فصلية ربما تبقى ليلة أو حتى جزء من ليلة أو فصل كامل.

ولكن من ظاهر الآيتين : أن قوله : «الجوار الكنس» تفسير للخنس ، فعلى هذا التفسير نستطيع أن نفهم لما ذا كلمة «الخنس» تشابه كلمة «الكنس».

[١٧] ألا ترى كيف تهجم جحافل الظلام جند النور فتهزمه دون أن يكون لنا سلطان به نمنع ورود الليل أو نحافظ على بقية ضياء من نهار ، أفلا نتذكر آنئذ أننا مربوبون ، وأن لهذا العالم ربّا حكيما يدبّر أمره وأمرنا ، وأنه لا بد أن قد خلقنا لأمر عظيم ، وأنه باعث إلينا رسولا من عنده ينبئنا بذلك الأمر؟!

(وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ)

قالوا «عسعس» : أدبر بظلامه ، وقال بعضهم : إذا أقبل ، واللفظ من الأضداد ، والسبب أن العسعس هو الظلام الخفيف الصادق في أول الليل وفي آخره.

[١٨] فإذا استرخت الطبيعة فوق سرير الليل ، وأخذت نصيبا كافيا من الراحة ، وتجمعت قواها للوثبة الجديدة تنفس عليها الصبح بضيائها ، كما وانبلج الفجر من رحم الأفق كما تنبلج الرسالة الإلهية في أفق الوحي.

(وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ)

قالوا : امتد حتى يصير نهارا واضحا ، وكذلك الموج إذا نضح الماء ، ومعنى

__________________

(١) التفسير الكبير / ج ٣١ ص ٧١.

٣٦٧

التنفس : خروج النسيم من الجوف.

[١٩] حين ينفتح القلب على بصائر الحقيقة في الخلق يهتدي إلى واقع الرسالة بغير حجاب : إن الرب الذي جعل الليل والنهار ، وسخر بقدرته النجوم والكواكب لن يترك عباده سادرين في غيّ الجاهلية ، يلفهم ظلام الجهل ، ويسوقهم سيف البغي ، ويغرقهم الفساد موجة بعد موجة. كلا .. إنه يبعث إليهم رسولا هاديا. يهديهم إلى ما انطوت عليه ضمائر قلوبهم ، ودلهم اليه نور عقولهم. بربك أليست رسالة القرآن كذلك؟!

(إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ)

انه قول واضح الحدود ، واضح الكلمات ، وليس مجرد تموجات في الفكر ، وأحاسيس في القلب ، والذي جاء به رسول كريم ، تعالى عن الكذب وقول الزور.

[٢٠] وهل يكذب الإنسان إلّا من احساس بالضعف ، والرسول الذي ينبئ عن الله قوي بقوة الله ، لأن الله سبحانه لا يبعث سفيرا إلّا إذا كان مقرّبا منه.

(ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ)

وقد تجلت قوة الملك المقرب جبرائيل عند ما حمل مدائن قوم لوط بقوادم جناحه ، وحينما ضرب بجانب من ريشه إبليس فرماه من بيت المقدس الى جزيرة سرنديب.

وهو مكين عند الله ذي العرش سبحانه ، وأقرب منزلة ، وهو حاكم على كثير من ملائكة الله.

[٢١] (مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ)

٣٦٨

وقد أوكله الله بإدارة الملأ الأعلى ، فهو مطاع هنالك ، كما أنّه أمين فلو لا أمانته لم يوكل إليه هذا الأمر العظيم ، وكان من أمانته ـ عليه السلام ـ أنه لم يعص الله في شيء ، كيف وهو ممن قال عنهم الرب : «لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ» (١).

ولعل في هذا التأكيد ردّا على من يزعم بأن الملائكة هم بنات الله ، وبالتالي ليسوا بمسؤولين عن أفعالهم ، كما كان يعتقد الجاهليون العرب قبل الإسلام ، ويزعمون أنهم شفعاؤهم عند الله ، وكان ذلك منشأ عبادتهم للأصنام التي كان بعضها يرمز إلى الملائكة.

[٢٢] وإذا كانت الرسالة من الله وعبر رسول كريم تتجلى كرامته في قوته وأمانته ، فان من يتلقاها يكون في ذروة الحكمة والمعرفة ، وهذا تفسير ما يقوله الرسول مما لا يحتمله الناس من حقائق مغيّبة ، فيزعمون أنه مجنون كلا .. إنه رسول عظيم ، رفيع المجد ، سنيّ المقام ، والذين كفروا به لا يفقهون.

(وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ)

وفرق كبير بين الرسول والمجنون ، فالمجنون يترك عادات مجتمعة الى الفوضى ، والرسول يتركها لما هو أحسن منها ، والمجنون يتحدى سلطات مجتمعة لغير هدف ، والرسول يتحداها لصنع مجتمع أفضل ، والمجنون لا يتبع مصالحه بغير هدى ، بينما الرسول يتركها للصالح العام.

ثم أليس الرسول صاحبهم الذي عرفوه منذ نعومة أظفاره حكيما راشدا صادقا أمينا ، أفلم يعلموا انه ليس بمجنون؟! بلى. ولكن الأمم جميعا اتهمت رسلها بالجنون

__________________

(١) الأنبياء / ٢٧.

٣٦٩

حسبما يبين القرآن الكريم ويقول : «كَذلِكَ ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ» (١).

[٢٣] ولم تكن العلاقة بين الرسول ـ صلّى الله عليه وآله ـ وجبرئيل ـ عليه السلام ـ غامضة أو مشوّشة. كلا .. إنه رآه وبوضوح كاف عبر الأفق المبين.

(وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ)

وما زاغ عن البصر وما طغى ، وما كانت وسوسات القلب ، أو أحلام اليقظة أو ما أشبه ، لقد كان النبي في قمة وعيه ، وكامل عقله حين تلقى الوحي من عند الله.

قالوا : الأفق المبين بمطلع الشمس قبل المغرب ، ويبدو أن المراد الجهة الصافية التي لا حجاب فيها ولا غبار.

وقال البعض : ان النبي ـ صلّى الله عليه وآله ـ رأى جبرئيل في صورته الأصلية ، قد سدّ بين المشرق والمغرب ، رأسه في السماء ورجلاه في الأرض ، فلم يحتمل رؤيته ، فقال له جبرئيل : «فكيف لو رأيت إسرافيل ورأسه من تحت العرش ورجلاه في تخوم الأرض السابعة ، وأن العرش على كاهله ، وأنه ليضاءل أحيانا من خشية الله حتى يصير مثل الوصع ـ يعني العصفور ـ حتى ما يحمل عرش ربك الا عظمته» (٢).

[٢٤] ومن علائم الرسل انهم واضحون مع الأمم يفصحون لهم عن علومهم ومعارفهم ، دون أن يطالبوهم بأجر وليسوا كما السحرة والكهنة ممن يبخلون عن الناس بما يعلمون حتى يتفضلوا عليهم ، وليسوا كما سائر العلماء الذين يطالبون على

__________________

(١) الذاريات / ٥٢.

(٢) انظر القرطبي / ج ١٩ ـ ص ٢٤١.

٣٧٠

عملهم أجرا.

(وَما هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ)

قالوا : ضننت بالشيء أضنّ : أي بخلت ، وقرأ بعضهم بالظاء ، وقالوا معناه : بمتهم.

[٢٥] يختلف قول الشيطان عن وحي الرحمن اختلافا كبيرا في الأهداف والوسائل ، فبينما يدعونا الشيطان الى الفحشاء والمنكر والبغي وينهانا عن التوادّ والتعاون ، وعلى البرّ والتقوى ، ويثير الضغائن والأحقاد ، ويدفعنا نحو الشهوات العاجلة و.. و.. نجد وحي الرحمن المنبعث حينا من داخل الضمير وحينا من فم الرسول يأمر بالعدل والإحسان ، وأداء الامانة ، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي ، ويحبذ التوبة والقصد ، ويدعونا الى التعاون على البر والتقوى ، وهكذا يهتدي القلب الى صدق الرسول برسالته التي يحملها والتي لا يجد العاقل صعوبة في فرزها عن الدعوات الضالة.

(وَما هُوَ بِقَوْلِ شَيْطانٍ رَجِيمٍ)

[٢٦] وحين يترك الإنسان نداء الرحمن لا بد ان يتخطفه الشيطان بغروره وأمانيه ، فهل نذهب اليه؟!

(فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ)

قد يرفض الإنسان دعوة الخير دون ان يفكر في البديل أو حتى في العاقبة ، بل لمجرد غفلته عن عواقب كفره بها ، وعما يضطر إليه من الباطل حينما يرفض الحق ، ويبدو أنّ هذه الكلمة إشارة إلى ذلك ، كما هي صعقة عنيفة للنفوس السّادرة في

٣٧١

الغفلة والجهل لعلها تعود إلى ذاتها وتفكر في أمرها.

[٢٧] وفي القرآن صفتان تشهدان على صدقه :

الاولى : أنه يتوافق مع نور العقل لأنه يقوم بإيقاظه من سباته ، فإذا بالعقل يكتشف الحقيقة بنفسه ، ويكون مثله مثل من كان يعرف شيئا فنسيه ، فإذا ذكّر به عاد يعرفه ، فمعرفته آنئذ تكون بذاته ، وإنّما دور المذكر تنبيهه وتبصيره ، وإذا لا يحتاج الى حجة لكي يعرف أن الذي ذكّره كان ناصحا له ومحقا.

ومثل آخر إذا كنت تبحث عن الهلال فلا تجده فأشار صاحبك اليه ، فلما نظرت إليه رأيته فهل تحتاج إلى دليل يهديك الى صدق صاحبك؟ كلا .. إن أكبر برهان على أنه حقّ هو أنّه هداك إلى الحق فعرفته بنفسك ، كذلك القرآن ذكر ، ومعنى الذكر : أنه ينبه العقل الى مكنوناته فإذا به يكتشفها بنفسه ، فيعرف أنه حق.

الصفة الثانية : عالمية القرآن التي تهدينا إلى أنه من ربّ العالمين ، ذلك أنّ الشيطان يفرق الناس بألوانهم ولغاتهم وقوميّاتهم ؛ لأنه يدعو الى المصالح المادية ـ وهي مختلفة ومتضاربة ـ بينما الوحي الإلهي يساوي بين عباد الله ، أوليسوا جميعا خلقه ، وهو يدعو إلى الحق ، وهو غير مختلف من أرض لأرض أو قوم لآخر؟! هكذا قال ربنا :

(إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ)

[٢٨] ومن صفات الوحي تأكيده على حرية الإنسان في اختياره. أولم يقل ربنا : «لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِ» (١)؟!

__________________

(١) البقرة / ٢٥٦.

٣٧٢

والحرية تبدأ من حرية العقيدة ، وانه سبحانه أبى أن يفرض الحق على البشر فرضا ، وأبى لعباده أن يكرهوا بعضهم عليه ، أولم يقل سبحانه : «وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ» (١) ، وانما يكرم الإنسان ويستحق الجزاء الأوفى إذا آمن بحريته أما إذا أكره على الإيمان فلا جزاء له ولا كرامة.

(لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ)

على الطريقة ، استقامة تتحدى ميول النفس ، وضغوط المجتمع ، وتضليل الشيطان وأبواقه ، وإرهاب السلطات وإغرائها.

[٢٩] والمشيئة أنفس جوهرة عند الإنسان ، وهي موهبة إلهية ، ولو لا أنّ الله وهبه هذه الموهبة لم يكن البشر إلّا واحدا من هذه الأحياء المتواجدة على الأرض ، وهكذا فلا أحد يستطيع أن يفتخر بهذه الموهبة ، ويزعم أنه مقتدر من دون الله ، ومن جهة ثانية : إن الإيمان نور إلهي يقذف في القلب بعد أن يشاء الفرد ذلك ، ويزكي قلبه لاستقبال نور الإيمان.

(وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ)

وهكذا تذكّرنا هذه الآية بأن لا جبر ولا تفويض ، وإنّما أمر بين الأمرين ، فالإنسان حر مختار بما وهب الله له من قوة المشيئة ، ولكنّه لا يختار الحق بالتالي إلّا بتوفيق الله سبحانه.

__________________

(١) يونس / ٩٩.

٣٧٣
٣٧٤

سورة الإنفطار

٣٧٥
٣٧٦

بسم الله الرحمن الرحيم

فضل السورة

عن الإمام الصادق ـ عليه السلام ـ قال : من قرأ هاتين السورتين وجعلهما نصب عينيه في صلاة الفريضة والنافلة : «إذا السماء انفطرت» و «إذا السماء انشقت» لم يحجبه من الله حاجب ، ولم يحجزه من الله حاجز ، ولم يزل ينظر الله إليه حتى يفرغ من حساب الناس

تفسير نور الثقلين ج ٥ ص ٥٢٠

٣٧٧

الإطار العام

لكي تنمو شجرة التقوى في النفس فتؤتي أكلها من الصالحات تذكّرنا آيات هذه السورة بالساعة وأشراطها ، ثم بتضاءل البشر امام قدرة الخالق الذي خلقه فسوّاه ، ثم تبيّن أنّ سبب عذر الإنسان تكذيبه بالجزاء ، بينما الجزاء واقع ، وأعمال الإنسان مسجّلة عليه بدقّة ثم يوفّى أجوره عليها ، باستضافة الأبرار في النعيم الخالد وسوق الفجار إلى الجحيم .. وينذر القرآن في الختام بيوم الدين حيث لا تملك نفس لنفس شيئا ، وإنّما يومئذ لله الحكم العدل الذي لا بد أن نتقيه اليوم حقّ تقاته.

٣٧٨

سورة الانفطار

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ (١) وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ (٢) وَإِذَا الْبِحارُ فُجِّرَتْ (٣) وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ (٤) عَلِمَتْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ (٥) يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (٦) الَّذِي

___________________

١ [انفطرت] : انشقت ، وجاء في مفردات الراغب في معنى هذه الكلمة : أصل الفطرة الشقّ طولا ، وقيل للكمأة فطر من حيث انّها تفطر الأرض فتخرج منها.

٢ [انتثرت] : الانتثار تساقط الشيء في مختلف الجهات ، وقال الراغب في مفرداته : نثر الشيء نشره وتفريقه ، ونثرت الشاة : طرحت من أنفها الأذى ، وطعنة فأنثره : ألقاه على أنفه.

٤ [بعثرت] : قلب ترابها لخروج الأموات منها ، وبعثرت الحوض وبعثرته إذا جعلت أسفله أعلاه.

٣٧٩

خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (٧) فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ (٨) كَلاَّ بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ (٩) وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ (١٠) كِراماً كاتِبِينَ (١١) يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ (١٢) إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ (١٣) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (١٤) يَصْلَوْنَها يَوْمَ الدِّينِ (١٥) وَما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ (١٦) وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ (١٧) ثُمَّ ما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ (١٨) يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ (١٩))

___________________

١٤ [جحيم] : الجحمة شدّة تأجّج النار ، جحم وجهه من شدّة الغضب استعارة من جحمة النار ، وجحمت الأسد عيناه لتوقّدهما.

٣٨٠