من هدى القرآن - ج ١٦

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ١٦

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-19-X
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٤٧٤

١
٢

سورة التغابن

٣
٤

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

فضل السورة :

قال الإمام الصادق ـ عليه السلام ـ : «من قرأ سورة التغابن في فريضة كانت شفيعة له يوم القيامة ، وشاهد عدل عند من يجيز شهادتها ، ثم لا تفارقه حتى يدخل الجنة»

ثواب الاعمال / ص ٢١٠

٥

الإطار العام

كيف يمكن أن نربح صفقة العمر ونأتي يوم التغابن بالفوز الكبير ، ذلك اليوم الذي تبلو الحقائق ويظهر مدى خسارة الإنسان ومدى ربحه؟

قبل أن يبصّرنا السياق بالجواب يذكّرنا بجلال الله القدوس عن ايّ نقص وعجز ، وانّ كل شيء يسبح بحمده ، لانّ له الملك والحمد جميعا.

وإنّما يكفر من كفر بعد تمام الحجة عليه ، فهو المسؤول عن ضلاله ، وهو المجزي بعمله ، لأنّ الله قد خلق السموات والأرض بالحق ، والجزاء صورة من صور الحق .. وأكمل خلق الإنسان (فأعطاه ما يحتاجه لاختيار الحق وأكمل عليه الحجة) واليه المصير للجزاء .. وهو عليم بما يسرون وما يعلنون .. فانى لهم الفرار من الجزاء؟

والجزاء حق واقع تاريخيّا. أفلا نعتبر به؟ فكم ذاق الكفّار الغابرون وبال

٦

أمرهم. لماذا؟ لأنّهم قالوا : «أَبَشَرٌ يَهْدُونَنا» فمن الذي خسر أهم أم الرسل الطاهرون؟

كانت تلك عاقبة أمرهم في الأولى ، وفي الأخرى ينبّؤهم الله بما عملوا ويتمّ عليهم الحجة البالغة ثم يعذّبهم ، ويا ويلهم!!

في ذلك اليوم يربح المؤمنون الجنة تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ، وإنّه حقّا فوز عظيم.

وهكذا يبلغ السياق محور السورة ، ويبيّن كيف يفوز عباد الله الصالحون في يوم التغابن ، وذلك عبر بصائر تترى :

الأولى : الرضا بالقدر ، والإيمان بأنّ كل مصيبة تصيبه فبإذن الله.

الثانية : الإيمان هدى القلب ، وبه يعرف الإنسان سبيل النجاة عن المصائب وبه يتحدّاها.

الثالثة : الطاعة لله وللرسول ، والتوكل عليه.

الرابعة : الحذر من أقرب الناس إليه (وهم الأزواج والأولاد) لأنّ فيهم من هو عدو له ، ولكنّ الحذر لا يتحوّل عند المؤمن إلى عداء أو جفاء أو مواقف حدّية.

الخامسة : اليقظة التامة من (حب) الأموال والأولاد و(الافتتان) بهم.

السادسة : التقوى بكلّ استطاعته ، (والاجتهاد في الطاعة) ، والاستماع إلى أوامر الشريعة ووعيها ، والطاعة للقيادة الرشيدة ، والإنفاق وتجاوز شح الذات.

٧

إنّ هذا سبيل الفلاح.

وفي خاتمة السورة يأمرنا الله بأن نقرضه قرضا حسنا (بالإنفاق أو الاستدانة) ، لأنّه يضاعف ذلك ويغفر لصاحبه والله شكور حليم ، وإنّه عالم الغيب والشهادة ، وهو العزيز الحكيم.

٨

سورة التغابن

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٢) خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (٣) يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ وَاللهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٤) أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ فَذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٥) ذلِكَ بِأَنَّهُ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَقالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى

___________________

٥ [وبال أمرهم] : أي وخيم عاقبة كفرهم وثقل أمرهم بما نالهم العذاب.

٩

اللهُ وَاللهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (٦) زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِما عَمِلْتُمْ وَذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ (٧) فَآمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنا وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (٨) يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذلِكَ يَوْمُ التَّغابُنِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٩) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ خالِدِينَ فِيها وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (١٠)

١٠

ذلك يوم التغابن

هدى من الآيات :

لكي نؤمن بالآخرة إيمانا عميقا لا بدّ من المعرفة بالله أوّلا ، لأنّها الدين (١) ، والأساس الصحيح الذي تبنى عليه سائر البصائر والحكم والشرائع ، لذلك نجد السياق القرآني وهو يمضي بنا في التذكرة بالبعث والجزاء (يوم الجمع والتغابن) يهدينا إلى الله وأسمائه الحسنى (الآيات ١) ، فهو السبّوح ، الملك ، المحمود ، القادر ، الخالق ، البصير ، المصوّر ، إليه المصير ، وهو بكلّ شيء عليم ، ثم تذكّرنا الآيات بالجزاء الذي لقيه الكافرون في التاريخ كدليل إلى الجزاء الأكبر في الآخرة ، وأنّ سبب كفرهم هو الاعتماد على المقاييس المادية في موقفهم من قيادة الرسل ، وكفرهم بالبعث والحساب ، ممّا يبرر لهم عدم تحمّلهم المسؤولية في الحياة ، لذلك يؤكّد القرآن حقيقة الآخرة وضرورة الإيمان بالله ورسوله والكتاب باعتباره السبيل إلى الصالحات والمستقبل الحسن في الآخرة ، على العكس من الكفر الذي

__________________

(١) وفي الخبر : «أوّل الدّين معرفته»

١١

يقود الإنسان إلى بئس المصير في الدّارين.

بينات من الآيات :

(١) تتصوّر الفلسفات البشرية التي تتحدّد بالجهل والعجز وضيق الأفق وشح النفس عند الإنسان تتصور العالم الكبير وما فيه من اختلاف وتسابق ركاما من القوى المتناقضة والمتصارعة ، وبالتالي حلبة لصراع الآلهة والشركاء المختلفين ، كلا .. إنما العالم ـ في القرآن ـ ينضوي تحت راية العبودية لله.

(يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ)

هكذا يسبّح جميع ما في السموات والأرض لربّ العزة ، لأنّ كلّ شيء عارف باستحقاق ربه للتنزيه عن كلّ نقص وعيب ، فهو وحده الكمال المطلق في ضمير الخلق وعقله. وفعل المضارعة من التسبيح يدل على الاستمرار في التسبيح ، والسبب أنّ الله تجلّى لكلّ شيء بقدر وعيه ، وأعطاه حسبما شاء من نوره ، فوله كلّ شيء بربه وسبّحه وقدّسه بقدره.

(لَهُ الْمُلْكُ)

وحده وإنما يملك أحد شيئا بتمليكه له ، ومع ذلك يبقى ملكه محدودا ، وملك الله نافذ يسلبه متى شاء. وربنا ليس متصرّفا في الأشياء وحسب بل يملكها ويملك شهودها وضميرها ومبدءها ومصيرها ، يملكها دون أن تملك هي منه شيئا ، بعكس البشر الذين لا يملكون شيئا إلّا بقدر ما يمتلك منهم ، لأنّهم وإيّاه سواء في حدّ العبودية والضعف والعجز. وحري بالمملوك أن يخضع لمالكه المطلق ويتوجّه له بالتسبيح دون سواه. وإنّ هذه الصفة كما صفة القدرة وغيرهما لا تدعوه سبحانه كما الملوك إلى الظلم والقهر لمن تحت سلطانه ، فكل أفعاله حميدة.

١٢

(وَلَهُ الْحَمْدُ)

ممّا ينزل عليهم من نعمه ويدفع عنهم من البلاء ، فسبحان الذي لا يأخذ أهل الأرض بألوان العذاب.

ومن تجلّيات حمده قدرته ، فهو ذو القدرة على كل ما يريد.

(وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)

وهذه البصيرة (قدرة الله على كلّ شيء) هي التي ينبغي أن يتحسسها الإنسان ، لأنّها محور لكثير من الحقائق والعقائد التي منها الإيمان بالآخرة ، فإنّ الذي لا يؤمن بقدرة الله الثابتة يصعب عليه التصديق بحقيقة البعث والجزاء. وهكذا تتصل هذه البصيرة بما يأتي من التذكرة بالبعث.

وتذكير الإنسان بأنّ الوجود كلّه يسبّح لله يزرع في نفسه الشعور بالشذوذ إذا ما كفر بربّه وخالف رسالته ، بل ويزرع في داخله الوازع الذي يدفعه للانتظام في المسيرة الحقّة الواحدة حيث العبودية لله وحده والمعرفة به.

كما تهدينا هذه التذكرة إلى حقيقة أخرى هامة وهي : أنّ الخليفة بكينونتها والسنن الحاكمة عليها تدعم المؤمن في مسيرته ، لأنّه يلتقي معها في المسيرة والهدف ، وهذا ما يجعل اتباع الحق سهلا ميسورا واتباع الباطل عسيرا في الدنيا والآخرة ، وبهذا المضمون جاءت بعض الأخبار التي منها قول الإمام علي ـ عليه السلام ـ : «ومن ضاق به العدل فالجور عليه أضيق» (١).

[٢] ويتساءل الإنسان : من أين أتيت؟ ومن الذي خلقني؟ والإجابة على

__________________

(١) بح / ج ٤١ ص ١١٦

١٣

ذلك هي التي تحدد مبادئ الناس ومسيرتهم ، فيهتدي البعض ويضل آخرون ، والقرآن هنا يوجّهنا إلى الإجابة الحق ليضعنا على الصراط المستقيم في الحياة.

(هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ)

وليست الصدفة ولا الشركاء المزعومين من دونه. تلك الفلسفات التي تاهت بعقول الكثير ولا زالت حتى اليوم تضلّها. وحيث أنّ الله هو الخالق فإنّه أهل الملك والحمد والقدرة ، ولكنّك مع ذلك ترى بين الناس من يكفر به سبحانه بالرغم من تجلّيات أسمائه وآياته في الطبيعة وفي ضمير الإنسان وعقله.

(فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ)

وكما يؤكّد هذا المقطع حرية الإنسان في اختيار مسيرته ومصيره فهو يبيّن مدى طغيان البشر الذين يكفرون بخالقهم بدل أن يشكروه على نعمة الخلق وسائر النعم. وتنسف الآية فلسفة الجبر التي تقول بأن الكفر والإيمان أمر تكويني يحدّده الله ، فكما يخلق الأسود والأبيض كذلك يخلق المؤمن والكافر ، كلا .. إنّ الخلق منه تعالى بينما الكفر والإيمان رهين اختيار الناس وإرادتهم «فمنكم .. ومنكم».

(وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ)

إذا فعمل الإنسان هو الذي يحدّد مذهبه ومصيره عند الله وليس لونه أو مجيؤه من والدين كافرين أو مؤمنين ولا أي شيء آخر. وفي الآية تحذير من طرف خفي بأنّ حريتك أيّها الإنسان ليست أبديّة ، وأنّ الله لم يخلق الناس ليتركهم سدى ، أو أنّه مغلولة يداه ومحجوب عن الخلق ، إنّما هو رقيب ومهيمن عليهم ، وهكذا تنفي الآية التفويض كما تنفي الجبر لتثبت ـ بالتالي ـ أمرا وسطا بين الأمرين.

١٤

وكلمة أخيرة في هذه الآية هي : أنّ اختلاف الناس إلى مؤمن وكافر ، ومظلوم وظالم ، وقاتل ومقتول ، تجعل البعث والجزاء ضرورة فطرية في ضوء الإيمان بالإله الملك الحميد الذي من مظاهر حمده العدل. وهذه من الأفكار الرئيسية في المبادئ الإسلامية.

[٣] ونجد آية هادية إلى الآخرة عند النظر إلى الحياة مفردة مفردة ، فهي قائمة على أساس الحق بكلّ ما تعني هذه الكلمة من آفاق الواقعية والنظام السليم ، وأهمّ تلك الآفاق بالنسبة للإنسان أنّ الحياة عرصة يجري الله فيها الحق.

(خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِ)

والهدفية من الحق ، كما أنّ العبثية من الباطل. وإنّ الإنسان حينما يلقي بنظره وفكره إلى خلق الكون يراه بكلّ أجزائه حتى الذرة قد خلق بحكمة وهدف معيّن ، كما أنه عند ما يعود إلى نفسه من رحلة الآفاق يرى نفس الحقيقة ، فهو قد صوّر وخلق كلّ عضو منه لغرض محدد ، فالعين للابصار ، والإذن للسمع ، والأنف للشم والتنفّس و.. و..

(وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ)

فهل يعقل أن يكون الإنسان ككل بلا هدف؟! كلا .. بل له هدف معيّن هو أن يقوم بالحق وهذا يقتضي أن يكون هناك جزاء ومصير. ولأنّ الدنيا تقصر أن تكون محلا للجزاء الأوفى فلا بدّ من دار ثانية يرجع فيها الناس إلى ربهم.

(وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ)

[٤] وهو تعالى لا يقضي للناس بمصائرهم اعتباطا ، إنّما يجازي كلّ فرد وأمة

١٥

الجزاء الأوفى القائم على علمه النافذ في كلّ دقائق الأمور ولطائفها حتى النوايا المنطوية عليها الصدور ، ولا يشغله علم عن علم ، ولا سمع عن سمع ، بل يعلم كل شيء في آن واحد.

(يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ)

خيرا أو شرا.

(وَاللهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ)

وتأكيد الله على علمه المحيط بحياة الإنسان يتصل بمنهج الإسلام التربوي القائم على أساس زرع الوازع الديني في نفوس المؤمنين ، فإنّ المتحسس لرقابة الله عليه لن يقتحم المحرمات والمعاصي ، ولن يتخلّف في أداء الواجبات .. وهذه المنهجية ذاتها هي التي تضع نهاية للخداع الذاتي (المنافقة) ، حيث تضع الإنسان أمام يقين بعلم الله بذات صدره ، وأنّ جزاءه للناس لا يعتمد على أعمالهم وأقوالهم الظاهرة فحسب إنّما يعتمد على ما في القلوب من النوايا والخلفيات أيضا.

[٥] ويحثّنا القرآن إلى التفكر في واحدة من الآيات الكاشفة لحقيقة كون المصائر بيد الله ، ولحقيقة البعث والجزاء في الآخرة ، وهي تاريخ الأمم والأقوام الذين كفروا بالحق فاستأصلهم الله بألوان من العذاب.

(أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ فَذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ)

في الدنيا ، والوبال هو السوء ، وهنا بمعنى العاقبة السيئة ، وما دام الإنسان مسئولا عن أفعاله في الدنيا وهي دار امتحان فكيف لا يكون مسئولا عنها في الآخرة؟! وعموما : فإنّنا سوف نواجهه إن خالفنا عاجلا أم آجلا في الدنيا أو في الآخرة.

١٦

(وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ)

ينتظرهم في الآخرة. ووصف الله للعذاب بأنّه «أليم» ينسف بعض الفلسفات التي حاولت تبرير الذنوب للناس بزعمها أنّ الإنسان يوم القيامة لا يشعر بحرارة النار ، ومثّلوا لذلك بالقول أنّ هناك بعض الحشرات تعيش في النار ولا تتأثر بها! وهو زعم لا دليل عليه.

[٦] أمّا السبب الذي انتهى بأولئك إلى عذاب الدارين فهو تكبّرهم على الرسل ، وكفرهم بهم ، وتولّيهم عنهم إلى غيرهم.

(ذلِكَ بِأَنَّهُ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ)

أي الآيات الواضحة التي لا غموض فيها. إذن كانت الحجّة قائمة وبالغة ممّا يجعل العقلاء يخضعون لها ، ولكنّ الكفّار لم يتبعوا العقل ، إنّما اتبعوا الأهواء. لذلك لم يسلّموا لقيادة الرسل.

(فَقالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنا)

انّهم لم يجدوا ثغرة في رسالات الله لكي يعيبوها ، ولا نقصا في أخلاق الرسل وسلوكياتهم ، ولكنّهم مع ذلك لم يكونوا مستعدين للخضوع لقيادة واحد منهم ، ولا لتحمّل المسؤولية بأيّة صورة ، لذلك صاروا يبحثون عن تبرير يتخلّصون به من المسؤولية ، فكان قولهم أنّ الرسل بشر لا يصح الخضوع لهم ، وهذا ما يتشبّث به الكفّار عبر التاريخ .. فلما ذا إذا يبعث الله الرسل من البشر أنفسهم؟ والجواب : لأمرين أساسيين :

الأوّل : أنّ الكفّار أرادوا من ذلك تبرير انحرافهم وكفرهم ، فلو أنّ الله بعث

١٧

ملائكة أو جنّا لبحثوا لهم عن تبرير آخر ، ولو كان يهمّهم الحق لا تبعوا الرسل الذين جاءوهم بالبينات.

الثاني : أنّ الهدف من بعث الرسل هو تزكية الإنسان وتطهّره من أمور النزعات السلبية التي فيه كالكبر والسموّ به إلى آفاق العبودية والتسليم للقيم والحق ، وهذا يقتضي أن يكون الرسل من البشر أنفسهم حيث أنّ التسليم لهم أبلغ أثرا في امتحان البشر ، وهل قد تخلّصوا من نزعة الكبر ، وتعالوا إلى سماء التواضع لله ، علما بأنّ الصراع على السلطة أعظم من أيّ صراع آخر ، وشهوة الرئاسة أشد من أيّة شهوة أخرى ، وأنّ الرسل جاؤوا ليحكموا بين الناس بالعدل ، وكان الطغاة يحكمونهم بالجور. وترى كيف يتنازل الطغاة عن سلطانهم ويسلموا لأمرهم ولأمر من ينوب عنهم من أوصيائهم وأوليائهم؟! إنّه حقا ابتلاء عظيم للطغاة ومن أيّدهم واتبعهم ، وإنّها لفتنة عمياء سقطت فيها أكثرية النفوس الضعيفة ، ونجد صورة لها في أمر الله إبليس بالسجود لآدم وليس لأعظم ملائكته ممّا أثار رفضه وتمرّده ، ممّا يؤكّد بأنّ ظاهر القرآن الشريعة وباطنه الولاية ، حيث أنّ خضوع الإنسان لبشر مثله باعتباره وليّا عليه من عند الله أمر صعب مستصعب ، وهكذا رفض الكفّار ذلك.

(فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا)

كفروا بالرسول والرسالة ولم يشكروا هاتين النعمتين ، وحيث لا يمكن للإنسان أن يعيش في الفراغ فإنّهم حوّلوا وجهتهم إلى القيم الفاسدة والقيادات المنحرفة (الضلال) ، ولعلّ التولّي هنا بهذا المفهوم ، أي تولّوا إلى غير الله بمعنى ولاية غير الله ، كما جاء في بعض تفاسير الآية الكريمة : «فَهَلْ عَسَيْتُمْ ـ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ ـ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ» ، وقد يكون الكفر هو الموقف النفسي والمبدئي ، بينما التولّي هو الموقف العملي السياسي.

١٨

(وَاسْتَغْنَى اللهُ)

أي أنّه تعالى كان يريد أن يظهر دينه ورسوله بهم فلمّا كفروا استغنى وأظهر غناه عنهم فنصر دينه بغيرهم من الناس والملائكة ، كما قال سبحانه : «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ».

وهكذا يكون معنى الاستغناء فعل ما يظهر الغنى ، وذلك على ضوء معرفتنا بربنا وأنّه لا يصدق عليه ما يصدق علينا من التحوّل والتبدل سبحانه ، فلم يكن لربنا حاجة فيهم ولكن أراد أن يتفضّل عليهم بنصر دينه عبرهم فرفضوا ، حيث أنّ من نعم الله على عباده أن يجعلهم وسائل لنشر دينه ونصر رسله فيطلب منهم الدعوة أو الجهاد أو القرض والإنفاق وما أشبه .. لا لحاجة منه إليهم إنّما ليتلطّف بهم وينعم عليهم بفضله!

(وَاللهُ غَنِيٌ)

بذاته ، واستغناء الله عن أحد يعني قطع حبل رحمته عنه ، وهذا سبب هلاك الأقوام التي كفرت من قبل ، لأنّه إنّما يستقرضهم ويستنفقهم ويدعوهم للإيمان لكي يرحمهم ، ولعلّ تأكيد الله على غناه واستغنائه يأتي لعلاج عقبة نفسية طالما منعت ولا زالت تمنع الكثير من الإيمان بالرسالة والتسليم للرسول ، وهي عقبة الإحساس بالغنى عن الحق من جهة ، وحاجة الله ورسوله إليهم كما قال بعضهم : «إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ» (١) من جهة أخرى.

(حَمِيدٌ)

وقد أضاف تعالى هذه الصفة للغنى لأنّه ليس كلّ غني حميد ، فقد يطغيه

__________________

(١) آل عمران / ١٨١

١٩

الغنى ، أو تبطره النعم.

[٧] ثم يبيّن السياق موقف الكفّار الأساسي الذي انشطر عنه الاستكبار والكفر والتولّي ، وهو عدم إيمانهم بالآخرة ، وطبيعي أنّ من يكفر بالجزاء لا يبالي بتحمل المسؤولية.

(زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا)

للجزاء بعد الموت ، والزعم هو مجرّد الادّعاء الذي لا يقين للإنسان به ، وحيث أنّ الكفّار لم يجدوا دليلا ينفي الآخرة باعتبارها حقيقة واقعية فطرية فإنّهم لجأوا إلى تأكيد زعمهم بكلمة «لن» تبريرا لكفرهم بالحقائق ، ولكن القرآن يكذّب زعمهم بالتأكيد على البعث والحساب ومن ثمّ على الجزاء إذ يقول تعالى يخاطب رسوله ـ صلّى الله عليه وآله ـ :

(قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِما عَمِلْتُمْ)

وفي هذه الآية تأكيدات عديدة وذلك في مواجهة زعمهم الباطل ، فالتأكيد اللفظي يواجه بتأكيدات في الكلام أقوى منه. وأمره تعالى الرسول ومن خلال ذلك كل مؤمن يواجه شبهات الكفار «قل» لا يعني مجرد الدعوة للقول بل هو دعوة لاتخاذ موقف مضاد ، إذ أنّ القول هو ما يحكي إيمان الإنسان ، والمؤمن مكلّف أن يحكي إيمانه بالآخرة موقفا صريحا يتحدى موقف الاستهزاء والإنكار. ثم إنّهم نفوا البعث بينما نجد السياق يؤكّده ويضيف بالتأكيد على الجزاء لأنه محور القضية ، فهم زعموا أن لا بعث حتى يتحلّلوا من المسؤولية ، بينما القرآن أكّد أنّ إنكارهم البعث لا يخفّف عنهم من العذاب شيئا ولا يهوّن لهم من المسؤولية أمرا.

وفي خاتمة الآية إشارة إلى أهمّ عقبة نفسية عند الكفّار أمام إيمانهم بالآخرة

٢٠