من هدى القرآن - ج ١٠

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ١٠

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-12-0
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٥٠٤

عقولهم ، أو اتبعوا رسالة الله ، ولكنهم لم يفعلوا ، والله يؤكد على هذه الحقيقة في سورة التكاثر إذ يقول : (كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ* ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ* كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ* لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ) ولأن المتقين استفادوا من عقولهم ووحي ربّهم فإنهم عرفوا بأن منهج الكفر ينتهي الى النار ، بينما ينتهي منهج الايمان الى الجنّة :

«فهم والجنة كمن قد رآها فهم فيها منعمون ، وهم والنار كمن قد رآها فهم فيها معذبون ، ولو لا الأجل الذي كتب الله لهم لم تستقر أرواحهم في أجسادهم طرفة عين أبدا ، شوقا الى الثواب ، وخوفا من العقاب» (٣)

(١٣) (وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها)

ولكنّ الهداية التي تنفع الإنسان ، وتتفق مع الحكمة من الحياة الدنيا ، هي التي يصل إليها الإنسان بعقله وإرادته ، وبالاستفادة من رسالة ربّه إليه. ولو شاء الله جبر الناس على الهدى ، وكانت تنتهي بهم الى الجنة.

(وَلكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ)

وهذا القسم يدعونا الى الجدّ في الحياة ، والسعي لكسب الجنة ، واجتناب النار الذي لا يمكن من دون العمل الصالح.

(١٤) ثم يؤكد القرآن أن حقيقة الآخرة مسجلة في ذاكرة الإنسان الفطرية ، كما يمكن له أن يستنتجها بإعمال عقله ، وتصديق رسالة ربّه ، إلا أنه ينساها

__________________

(٣) المصدر.

٢٢١

بسبب حجب الشهوات ، والأفكار الباطلة ، ومن ثم لا يستعد لذلك اليوم بل يتمادى في الانحراف والعصيان ، فيستحق بذلك العذاب.

(فَذُوقُوا بِما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا إِنَّا نَسِيناكُمْ)

فلا ينصرهم الله ولا يرحمهم ، وليس النسيان هنا بمعنى عدم العلم ، بل عدم العمل بما يقتضيه العلم ، خلافا لمعنى النسيان عند البشر كسائر الكلمات ، مثلا الغضب بالنسبة للإنسان يعني وجود حالة من الثوران في نفسه ، بينما يعني بالنسبة الى الله النتيجة المترتبة على الغضب كالعذاب ، ذلك أنه تعالى تصدق عليه الغايات دون المبادئ.

ولعل نسيان الله للعبد أشدّ من أيّ عذاب آخر ، قال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) (٤)

وفي الدعاء :

«فهبني يا الهي وسيدي ومولاي صبرت على عذابك؟! فكيف أصبر على فراقك؟! وهبني صبرت على حرّ نارك ، فكيف أصبر عن النظر الى كرامتك؟! أم كيف أسكن في النار ورجائي عفوك؟!» (٥)

ومن تضاعيف الآية يتبيّن وجود نوعين من العذاب ، الاول : هو العذاب النفسي المتمثل في نسيان الله ، ويشير اليه الشطر الاول منها وهو جزاء لنسيان الإنسان ربّه ، والثاني : هو العذاب المادي ، ونجده في ختام الآية :

__________________

(٤) آل عمران / (٧٧).

(٥) دعاء كميل.

٢٢٢

(وَذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)

(١٥) ثم يأتي الحديث عن بعض صفات المؤمنين المهمة :

الاولى : التسليم والخضوع للحق :

(إِنَّما يُؤْمِنُ بِآياتِنَا الَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِها خَرُّوا سُجَّداً وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ)

والمقصود من السجود هنا ليس معناه الظاهري وحسب ، بل حالة التسليم للحق التي يرمز لها هذا السجود ، والمؤمنون الحقيقيون لأنهم يبحثون عن الحق والهدى فإنهم يسلمون له بمجرد أن يذكّروا به ، مهما كان ذلك مخالفا لاهواء النفس والمصلحة.

وتوحي كلمة (خَرُّوا) ـ التي جاءت من أصل خرير الماء ، وهو صوته عند نزوله (مثل صوت الشلّال) كما يقول الراغب ـ إلى أنّ المؤمنين يتلقوّن الأرض بمساجدهم ، كما يخر الشلّال ، وهم يولولون بالتسبيح لعمق تأثير الذكر فيهم ، بلى. كلما زادت معرفة البشر بربه ازداد معرفة بصغر نفسه ومدى حاجته ، وانعكس ذلك في صورة وقوعه لربه ساجدا.

وهكذا وجبت السجدة لله في أربع سور هذه واحدة منها ، اقتداء بأولئك الرجال الكرام الذين يخرّون لربهم ساجدين.

(وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ)

فلسجودهم مظاهر خارجية اجتماعية ، بالاضافة الى الصفة النفسية التي يخلّفها ، ومن أبرز هذه المظاهر التواضع الاجتماعي ، الذي يمثّل امتدادا للتسليم

٢٢٣

للحق.

الثانية : التبتل الى ربهم في الأسحار :

(١٦) (تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ)

انهم يقاومون النوم ، لعلمهم بأن الدنيا دار العمل ، وليس دار الاسترخاء والراحة ، وأنها الفرصة الوحيدة التي يحدد الإنسان فيها مستقبله الأبدي ، ولان المضجع هو حالة التوقف عن السعي والعمل فإنهم يرفضونه ، وكلمة تتجافى آتية من الجفاء ، وهو بمعنى انقطاع العلاقة بينهم وبين النوم ، وهذه الصفة نابعة من نظرتهم الجديّة للحياة ، فكيف يصير الإنسان أسير الفراش وهو يعلم بأنّ مستقبله قائم على ما يقدمه في هذه الحياة؟!

(يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً)

من النار فلا يقتربون من المعاصي ، لأنها تنتهي بهم إليها.

(وَطَمَعاً)

في الجنة. فتجدهم يبحثون عن كل عمل يوصلهم إليها. قال أمير المؤمنين (ع) في وصف المؤمن :

«لا يدع للخير غاية الا أمّها ، ولا مظنة الا قصدها» (٦)

الثالثة : الإنفاق في سبيل الله :

(وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ)

__________________

(٦) نهج البلاغة خ (٧٨) / ص (١١٩).

٢٢٤

الامكانات والنعم التي يمنّ الله بها عليهم ، يفكّرون في تحويلها الى زاد للآخرة ، أكثر من تفكيرهم في استهلاكها ، وصرفها على أنفسهم ، وهكذا ينبغي للإنسان أن يفكر في آخرته قبل تفكيره في دنياه : (وَابْتَغِ فِيما آتاكَ اللهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ). (٧)

(١٧) وبعد ذلك يشجع القرآن على الاقتداء بهذا الفريق من الناس ، حينما يذكر جزاءهم الحسن عند الله بإبهام ، والذي هو في موارده أمضى أثرا من التوضيح.

(فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ)

فكلما وصفت الجنة كانت دون واقعها. أو ليس فيها ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر؟! بلى. وإنّ نعم الجنة تقرّ عين أصحابها ، لأنها صافية من الأكدار ، ونفوس أهلها زاكية ، لا غل فيها ، ولا حقد ، ولا طمع.

وجاء في الحديث في تفسير هذه الآية عن الإمام الصادق عليه السلام :

«ما من حسنة الّا ولها ثواب مبين في القرآن ، الّا صلاة الليل ، فإنّ الله عز اسمه لم يبيّن ثوابها لعظم خطرها» (٨)

(١٨) ويذكّرنا الرب بحكمته البالغة لنسف تمنيات البشر التي توهمه بأنه من أهل الجنة ، وأنّه آمن من أن يكون من الفاسقين ، فيفقد الضابط الحق لسلوكه.

(أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً)

__________________

(٧) القصص / (٧٧).

(٨) نور الثقلين / ج (٤) / ص (٢٣٠).

٢٢٥

يعمل الصالحات ، ويستجيب لله ولأوليائه ، ويتحلّى بتلك الصفات التي ذكرت آنفا.

(كَمَنْ كانَ فاسِقاً)

يقترف السيئات والجرائم.

ويجيب القرآن أن ذلك محال ، ويخالف حكمة الله التي تتجلى في الخليقة أنى بصرنا بها.

(لا يَسْتَوُونَ)

وهذه هي الإجابة الفطرية على التمنيات الباطلة التي تغزو فؤاد الإنسان بعيدا عن ضوء العقل وقيم الوحي.

(١٩) ويفصل القرآن الحكيم القول ببيان الفروق العظيمة بين الفريقين :

(أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا)

برسالة الله ، فاتخذوها منطلقا في حياتهم ..

(وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ)

يقينا منهم بأنّ الايمان وحده لا يكفي لخلاص الإنسان ، وضمان مستقبله.

(فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوى نُزُلاً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ)

مما يؤكد على أن هذه النتيجة كانت ثمرة للايمان والعمل الصالح ، وليس للتمنيات.

٢٢٦

(٢٠) ثم يحدثنا السياق عن الفريق الآخر :

(وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْواهُمُ النَّارُ)

والفاسق هو الخارج عن الصراط المستقيم ، الصراط الذي ينتهي الى جنة الله ورضوانه ، فالفاسقون إذن يصيرون الى النار ، وفي الآيتين فكرة هامة هي : أنّ مستقبل الإنسان رهين عمله في الدنيا ، فهو يستطيع أن يجعل مأواه الجنة ، كما يستطيع أن يجعله النار.

(كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها أُعِيدُوا فِيها)

لان الذي يخرج الإنسان من النّار هو ايمانه بالله وعمله الصالح ، وهؤلاء لا يملكون شيئا من ذلك ، ولهذا فلن يستطيعوا الخروج منها ، ويبدو أنّ أهل النار لا ييأسون من الخروج منها ، فاذا بهم يحاولون المرة بعد الأخرى الخلاص ، ولكن دون جدوى. وفي الحديث :

«يقول المؤمنون ـ لأهل النار ـ : انظروا الى هذه الأبواب ، فينظرون الى أبواب الجنان مفتحة ، يخيّل إليهم أنها الى جهنم التي فيها يعذبون ، ويقدّرون أنهم ممكنون أن يتخلصوا إليها ، فيأخذون في السباحة في بحار حميمها ، وعدوا بين أيدي زبانيتها ، وهم يلحقونهم ويضربونهم بأعمدتهم ومرزباتهم وسياطهم ، فلا يزالون هكذا يسيرون هناك ، وهذه الأصناف من العذاب تمسهم ، حتى إذا قدّروا أنهم بلغوا تلك الأبواب ، وجدوها مردومة عنهم ، وتدهدههم الزبانيّة بأعمدتها فتنكسهم الى سواء الجحيم» (٩)

__________________

(٩) بح ج (٨) / ص (٢٩٩).

٢٢٧

(وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ)

(٢١) كان بإمكان هؤلاء أن يستدلوا على عذاب الآخرة بالعذاب الذي يجدونه في الدنيا ، ومن ثم يقاومون عوامل الغفلة والنسيان ، فيئوبون الى رشدهم ، ويرجعون الى الحقيقة كلما ابتعدوا عنها ، ولكنهم لم يفعلوا ذلك.

(وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ)

في تفسير نور الثقلين عن المجمع عن الامام الصادق (ع):

«وأما العذاب الأدنى ففي الدنيا» (١٠)

والذي من أهم أهدافه هداية الإنسان الى الحقيقة :

(لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ)

__________________

(١٠) نور الثقلين / ج (٤) / ص (٢٣٢).

٢٢٨

وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْها إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ (٢٢) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقائِهِ وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ (٢٣) وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا وَكانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ (٢٤) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (٢٥) أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ أَفَلا يَسْمَعُونَ (٢٦) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْماءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ

___________________

٢٣ [مرية] : شك.

٢٥ [يفصل] : الفصل هو الحكم.

٢٦ [أو لم يهد لهم] : أو لم يبصّرهم ويبيّن لهم.

[القرون] : الأجيال الماضية.

٢٢٩

بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلا يُبْصِرُونَ (٢٧) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٢٨) قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمانُهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (٢٩) فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ (٣٠))

___________________

٢٩ [ينظرون] : يمهلون.

٢٣٠

وكانوا بآياتنا يوقنون

هدى من الآيات :

في الدرس الأخير من سورة السجدة ، يؤكد ربّنا على صفة اليقين التي تجمع ارادة الإنسان ، وعقله ، وقوة تصوره وخياله على محور الحق ، حتى لا يبقى لديه أدنى أثر من الهوى وضعف الارادة ، فالإنسان يعرف الحقائق بعقله وفطرته ، ولكنه يشكك فيها بهواه وأفكاره الباطلة ، ويحتاج الى اليقين حتى يزول هذا الشك ، ذلك ان مراحل العلم عند الإنسان هي التالية :

الاولى : المعرفة ، فالإنسان يعرف أن للكون خالقا مدبرا ولكنه يبقى مشككا.

الثانية : الايمان ، حيث يسيطر العقل في معركته مع الهوى فتتبعه الارادة ، ولكن دون أن ينتهي الشك والهوى عنده ، بل يبقى لهما أثر معنوي لا فعلي ، فتجد إنسانا ما يشكك نفسه فيها ، لكنه يستمر يؤديها ، ويلتزم بها ظاهريا بأفعالها وأذكارها ، فهذا الرجل مؤمن أي أن نفسه سلمت لعقله تسليما عمليّا.

٢٣١

الثالثة : اليقين ، حين يزول الشك عن قلب الإنسان ، ويبقى مسلّما عمليا ونفسيا تسليما محضا للمعرفة ، ولليقين بدوره درجات ثلاث هي : اليقين ، وحق اليقين ، وعين اليقين ، التي إذا وصلها الإنسان حق له أن يقول كما قال الامام (ع):

«والله لو كشف لي الغطاء ما ازددت يقينا»

أو كقوله (ع):

«ما رأيت شيئا قط الا ورأيت الله قبله ومعه وبعده»

أو كقوله (ع):

«الهي ما عبدتك خوفا من نارك ، ولا طمعا في جنتك ، وانما وجدتك أهلا للعبادة فعبدتك»

أما كيف يحصل الإنسان على اليقين ، فان ذلك يكون بالمزيد من النظر الى آيات الله والتفكر فيها ، لان هذه الآيات إشارات ظاهرية الى الحقائق الكبرى في الحياة ، والتفكر السليم هو الذي يعبر بالإنسان من خلال هذه الآيات الى الحقائق ، ذلك أن النظرة التي تنقل الإنسان الى اليقين هي النظرة العبريّة لا الشيئية ، والتي يمتزج فيها بصر الإنسان مع بصيرته وعقله.

في البداية يجعلك التفكر تؤمن بربك ، وشيئا فشيئا يتحول هذا الايمان الى يقين ، ومنه الى أعلى درجاته وفي الحديث :

«طوبى لمن كان نظره عبرة ، وسكوته فكرة»

٢٣٢

وبالاضافة الى ما تعطيه هذه النظرة من اليقين ، فانها تعطي الصبر كثمرة لهذا اليقين ، ذلك أن الذي يطمئن للعاقبة الحسنى ، التي يوصل إليها طريق الحق ، يصبر على عقبات الطريق ، والمؤمن يصبر على الصعاب بسبب يقينه مما يجعله أهلا لامامة الحق التي تقابل أبدا إمامة الباطل.

بينات من الآيات :

(٢٢) الإنسان مزود بفطرة الايمان بالله ، إلّا أنّه ينسى أو يغفل بسبب الشهوات أو الأفكار المضلّة ، وإذ يبعث الله الرسل ومن يتبع نهجهم الى البشر لتذكيرهم ، وإزالة الحجب المختلفة عن فطرتهم ، واثارة عقولهم الدفينة ، وأمام هذه التذكرة ينقسم الناس الى فريقين :

الاول : المؤمنون الذين يستجيبون للتذكرة ، لما يجدونه من توافق بينها وبين فطرتهم ، وما تهدي اليه عقولهم ، والآيات من حولهم.

الثاني : المعرضون ، ولا ريب أن لتلك الاستجابة وهذا الاعراض أثرا على نفس الإنسان وتفكيره وسلوكه ، فبينما يتجلى ذلك التصديق في صورة الشخصية الربانيّة ، التي تسعى نحو الخير والعمل الصالح ، يبرز هذا الاعراض في صورة الشخصية الشيطانية التي تسعى نحو الظلم والجريمة.

(وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْها)

ولكن لماذا يصف القرآن المعرضين عن آيات الله بالظلم؟

الجواب : لان الذي يحفظ الإنسان عن الجريمة هو الدين ، بما يتضمنه من قوة معنوية ، وتشريعات صائبة تبعده عن الظلم بصوره المختلفة ، فاذا أعرض عن الدين سقط فيه. ثم أن الاعراض عن الدين بذاته ظلم ذاتي وعظيم لا يقع على الذات

٢٣٣

فقط ، وانما يتجاوز الى الآخرين أيضا ، أرأيت من يشرب سما كيف يظلم نفسه بإهلاكها ، ويظلم أقرباءه الذين يفجعهم بموته ، كذلك الذين يسكر ثم يسوق سيارته أو لا يحطم نفسه وسيارته ، ويلحق الأذى بالآخرين.

هكذا المعرضون عن آيات الله ، سوف يعرضون أنفسهم لنقمات الله العزيز الجبّار ، لأنهم يقترفون ـ باعراضهم عن آيات الله ، وعدم تسليمهم لأحكام الدين وحدود الشرعية ـ يقترفون أعظم الجرائم ، التي لا بد ان ينتقم الله منهم بسببها.

(إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ)

(٢٣) (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقائِهِ)

إن أسمى هدف لرسالات الله هو رفع الشك عن قلب الإنسان ، والأخذ بقلبه الى مدارج اليقين بكل الحقائق التي يذكر بها الله في كتبه ، اليقين بلقاء الله ، واليقين بالموت ، واليقين بالجزاء ، و.. و.. ، وذلك يعني تصفية العقل والنفس من آثار الأهواء.

ولن يؤدي المصلح هذا الهدف الا إذا كان بنفسه بعيدا عن الشك ليكون قدوة للناس ، ولذلك نهى السياق من المرية في لقاء الله ، بعد أن انبأنا عن الكتاب الذي آتاه موسى لان كتاب الله يهدف التذكرة بالله ، وتأكيد حقيقة اللقاء بالله ، وهذا القرآن تذكرة بآيات الله فلا يحق لأحد أن يعرض عنها. فيعرض نفسه لانتقام الله الشديد.

واحتمل المفسرون معاني أخرى في ضمير «من لقائه» أيعود الى موسى ويدل على التقاء رسالة محمد برسالة موسى ـ على نبينا وآله وعليه السلام ـ أم يعود الى الكتاب ، لأن الرسول يتلقى القرآن كما تلقى موسى التوراة ، أو الى التوراة. أو

٢٣٤

ليس تلقى موسى كتاب ربه.

بيد أن سياق سورة السجدة ـ بمجملها ـ يؤكد ما قلناه ، بالرغم من انه لا ينفي ما قالوه. أو ليس للقرآن تخوم وآفاق عديدة؟

(وَجَعَلْناهُ)

أي كتاب التوراة.

(هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ)

شروط الامام :

(٢٤) بعد ذلك يبين الذكر صفات الامام (القائد) وهي ثلاث :

الاولى : الهدى الى الله وبأمره ، وليس الى نفسه أو حزبه أو وطنه ، أو .. أو .. وما أشبه من الدعوات الجاهلية.

الثانية : الصبر ، وتحمل الشدائد ، فالقائد هو الذي تتبلور شخصيته في ميادين العمل الجهادي ، وسوح القتال في سبيل الله ، وليس الذي يركب الموجة ، أو يتسنم صهوة الانتصار من دون عمل وخلفية جهادية ، وربما لذلك كان الله يختار الأنبياء والرسل والائمة من رحم الشدائد ، وعند اجتياز أصعب العقبات.

الثالثة : اليقين ، وذلك يعني وصوله الى مستوى رفيع من الايمان بالله ، لا يهن بعده ، ولا يرتاب في طريق الحق ، سواء انتصر أو انتكس مرحليا.

(وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً)

يعني من بني إسرائيل ولعلّ كلمة (فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقائِهِ) التي وردت في

٢٣٥

الآية السابقة هي الرابط بين هاتين الآيتين ، فكما كان موسى على درجة من اليقين أهلّه للنبوة ، فان أصحابه الذين اتبعوا هداه كانوا على مستوى من اليقين جعلهم الله أئمة.

(يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا وَكانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ)

جاء في الحديث المأثور عن الأمام الصادق ـ عليه السلام ـ :

إنّ الأئمة ـ في كتاب الله عز وجل ـ إمامان : قال الله تبارك وتعالى : «وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا» لا بأمر الناس ، يقدمون أمر الله قبل أمرهم ، وحكم الله قبل حكمهم.

قال : «وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا» يقدمون أمرهم قبل أمر الله ، وحكمهم قبل حكم الله ، ويأخذون بأهوائهم خلاف ما في كتاب الله عز وجل (١)

(٢٥) ولكن بالرغم من وجود أئمة صالحين في أصحاب موسى (ع) كان هناك فريق يكفرون بالحق ، وهذا الاختلاف بين أتباع الرسل من بعدهم من الحقائق التي سجلها التاريخ بعد كل رسول ، وبيّنها الذكر لنميّز بين الخطوط المختلفة ، عبر بصيرة الايمان التي توحي بالمقاييس المبدئية ، والتي هي عند الله ثابتة لا تتغيّر وسوف تتجلى يوم القيامة.

(إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ)

إنّ معرفة الإنسان بوجود محكمة عادلة ستقضي بالحق تزيد من قوة عقله أمام

__________________

(١) المصدر ص (١٦٧) نقلا عن كتاب الكافي ج (١) / ص (١٦٨).

٢٣٦

وساوس الشهوة وهمزات الشياطين.

(٢٦) أما عن سبب الاختلاف بعد الرسل ، فهو كما صرح القرآن في موضع آخر : الأهواء والمصالح ، إذ قال : (كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ) .... (٢)

وفي هذه الآية يحذر الله الامة الاسلامية من الاختلاف ، ويدعونا للنظر في التاريخ ، لنعرف مصير الذين اختلفوا عن رسالات الله ، وابتعدوا عن نهجها السليم. مؤكدا أنه كما يفصل بينهم في الآخرة ، فقد يفصل بينهم في الدنيا بهلاك المنحرفين أو بنصر المؤمنين عليهم كما في الآية (٢٨ ـ ٣٠).

(أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ)

وينبغي لهم أن يستفيدوا من هذه الآثار عبرة في حياتهم ، فيجتنبوا عن الخطأ حتى لا يصطدموا بذات النتيجة ـ وهذه هي الآية المادية الظاهرة ـ ثم أن القرآن هو الآيات المعنوية التي تكشف عن الواقع ، والتي يجب الاستماع إليها والعمل بها.

(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ أَفَلا يَسْمَعُونَ)

فتلك يرونها بأعينهم ، وهذه يسمعونها بآذانهم ، ولكن المطلوب أن تعقلها ألبابهم ، وتنعكس على حياتهم وواقعهم في صورة هداية.

__________________

(٢) البقرة / (٢١٣).

٢٣٧

(٢٧) وكما أن آيات الله في عالم الإنسان تهدي الى هيمنته على الحياة ، وتدبيره لشؤونها ، فان آياته في الطبيعة تهدي الى ذات الحقيقة.

(أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْماءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلا يُبْصِرُونَ)

هناك يقول : (أَفَلا يَسْمَعُونَ) لان الوسيلة التي تنقل للإنسان التاريخ هي حاسة السمع أكثر من أي وسيلة أخرى ، وهنا يقول : (أَفَلا يُبْصِرُونَ) حينما يتحدث عن الطبيعة التي يبصرها الإنسان قبل ان يسمع عنها.

وهذا من أساليب المنهج الالهي للوصول الى اليقين ، أنه يدعو الى النظر والتفكر في الآيات من حوله ، فخلفيات الاحداث التاريخية والاجتماعية ، كما تجليات الحكمة في آيات الكون ، وكدورة المطر منذ البداية حتى سقوطه ، كلها تشير الى إله يدبر الحياة ، ويقدر أحداثها وشؤونها بقدرة مطلقة ، وحكمة بالغة.

(٢٨) فهو تعالى لا يستجيب لتحديات الكفار والمعاندين متى شاؤوا ، انما حيث شاء ومتى أراد ، حسبما تقتضيه حكمته سبحانه.

(وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ)

تحدّيا للمؤمنين ، وتكذيبا برسالة الله ، أما المؤمنون فإنهم يثبتون على خطهم ، ولا يرتابون في وعد الله حتى لو تأخر بعض الوقت ، خلافا للطرف الآخر الذي يزيدهم الامهال ريبا ، ويشكل لهم عقبة فكرية.

(٢٩) وينسى هؤلاء أن الامهال لا يعني الإهمال ، انما يعني أحد أمرين :

الاول : أن الله يتيح لهم فرصة العودة للحق.

٢٣٨

الثاني : إذا لم يستفيدوا من هذه الفرصة ، فان الامهال سيكون وبالا عليهم ، لأنه حينئذ يستتبع مزيدا من العذاب ـ كما ونوعا ـ تبعا لتماديهم في العصيان ـ كما ونوعا أيضا ـ (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ). (٣)

ويؤكد الله هذين المعنيين ، حيث يقول مخاطبا نبيّه (ص)

(قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا)

من قبل ، وتحدوا الله ورسوله والمؤمنين ، حينما تقتضي حكمة الله نصر أوليائه.

(إِيمانُهُمْ)

لان الايمان الذي ينفع صاحبه ، هو الايمان النابع من الوعي بضرورته ، لا من السيف أو العذاب أو المصلحة.

(وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ)

ان الايمان الناتج لا عن وعي بضرورته ، بل بسبب عامل مؤقت يذهب أدراج الرياح بمجرد زوال ذلك العامل ، فالذي يكف عن السرقة والجريمة لان أنظار الناس تراقبه وليس لوازع نفسي أو ديني ، فانه يعود إليها بمجرد علمه أو ربما ظنه بأنه صار بعيدا عن أعين الناس ، وهكذا لا يتقبل الله ذلك الايمان الذي يبادر اليه الكفار عند نزول العذاب.

(٣٠) وفي نهاية السورة يؤكد القرآن على المؤمن ، أن لا يربط مصيره بمصير الكفار ، فاذا رأى مجموعة لا يؤمنون ، يتركهم ويستمر على خطه الايماني ، وذلك

__________________

(٣) آل عمران / (١٧٨).

٢٣٩

حينما يوجهه الرسول لهذا الأمر.

(فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ)

اتركهم ولا تتأثر بهم.

(وَانْتَظِرْ)

وعد الله ونصره.

(إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ)

ومن هاتين الآيتين نستفيد ثلاث أفكار :

الفكرة الاولى : أن انتظار الفرج من الواجبات الشرعيّة ، ومن الأعمال الصالحة ، وفي الحديث عن رسول الله (ص):

«أفضل أعمال أمتي انتظار الفرج»

لان الانتظار الذي يعنيه الحديث ، هو البقاء على الخط السليم ، صمودا أمام المشاكل والمصاعب ، من دون التشكيك في الحق ، وهو أحد معاني الصبر الذي لا يمكن الا بالانتظار ، لان الذي ينتظر المستقبل ، ويتألق قلبه بأمل الانتصار لا يضيق صدره. فيكون صابرا ، بل ويستهين بالمشاكل ، إذ يعتبرها خيرا له من حيث أنها تصقل إرادته وفكره وشخصيته.

الفكرية الثانية : من الخطأ أن يقتصر إيمان الإنسان على الأشياء الظاهرة ، أو يعتقد بأنه مسئول عن ذلك فقط ، فقد منّ الله عليه بنعمة العقل لكي يرى به المستقبل من خلال الظواهر والمقدمات المنطقية ، وإلّا فما هي الحاجة الى العقل؟!

٢٤٠