تشييد المراجعات وتفنيد المكابرات - ج ١

السيّد علي الحسيني الميلاني

تشييد المراجعات وتفنيد المكابرات - ج ١

المؤلف:

السيّد علي الحسيني الميلاني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الحقائق الإسلاميّة
المطبعة: وفا
الطبعة: ٤
ISBN: 964-2501-03-1
الصفحات: ٤٧٢

العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ) قال : بلغنا أن نبي الله صلى الله عليه [ وآله ] وسلم خرج ليلا عن أهل نجران ، فلما رأوه خرج هابوا وفرقوا فرجعوا.

قال معمر : قال قتادة : لما أراد النبي صلى الله عليه [ وآله ] وسلم أهل نجران أخذ بيد حسن وحسين ، وقال لفاطمة : اتبعينا ، فلما رأى ذلك أعداء الله رجعوا ».

« حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : ثنا ابن زيد ، قال : قيل لرسول الله صلى الله عليه [ وآله ] وسلم : لو لاعنت القوم ، بمن كنت تأتي حين قلت ( أبناءنا وأبناءكم )؟

قال : حسن وحسين ».

« حدثني محمد بن سنان ، قال : ثنا أبو بكر الحنفي ، قال : ثنا المنذر ابن ثعلبة ، قال : ثنا علباء بن أحمر اليشكري ، قال : لما نزلت هذه الآية : ( فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم ) الآية ، أرسل رسول الله صلى الله عليه [ وآله ] وسلم إلى علي وفاطمة وابنيهما الحسن والحسين ... » (١).

* وقال السيوطي : « أخرج البيهقي في ( الدلائل ) من الطريق سلمة بن عبد يشوع ، عن أبيه ، عن جده : إن رسول الله صلى الله عليه [ وآله ] وسلم كتب إلى أهل نجران .. فلما أصبح رسول الله صلى الله عليه [ وآله ] وسلم الغد بعدما أخبرهم الخبر ، أقبل مشتملا على الحسن والحسين في خميلة له وفاطمة تمشي خلف ظهره ، للملاعنة ، وله يومئذ عدة نسوة ... ».

__________________

(١) تفسير الطبري ٣ | ٢١٢ ـ ٢١٣.

٣٦١

« وأخرج الحاكم ـ وصححه ـ وابن مردويه ، وأبو نعيم في ( الدلائل ) عن جابر ، قال : ... فغدا رسول الله صلى الله عليه [ وآله ] وسلم وأخذ بيد علي وفاطمة والحسن والحسين ...

قال جابر : فيهم نزلت : ( تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ) الآية.

قال جابر : ( أنفسنا وأنفسكم ) : رسول الله صلى الله عليه [ وآله ] وسلم وعلي. ( وأبناءنا ) : الحسن والحسين. ( ونساءنا ) : فاطمة ».

« وأخرج أبو نعيم في ( الدلائل ) من طريق الكلبي ، عن أبي صالح ، عن ابن عباس : ... وقد كان رسول الله صلى الله عليه [ وآله ] وسلم خرج ومعه علي والحسن والحسين وفاطمة ، فقال رسول الله صلى الله عليه [ وآله ] وسلم : إن أنا دعوت فأمّنوا أنتم. فأبوا أن يلاعنون وصالحوه على اللجزية ».

« وأخرج ابن أبي شيبة ، وسعيد بن منصور ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وأبو نعيم ، عن الشعبي ... فغد النبي صلى الله عليه [ وآله ] وسلم ومعه الحسن والحسين وفاطمة ... ».

« وأخرج مسلم ، والترمذي ، وابن المنذر ، والحاكم ، والبيهقي في سننه ، عن سعد بن أبي وقاص ، قال : لما نزلت هذه الآية : ( قل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ) دعا رسول الله صلى الله عليه [ وآله ] وسلم عليا وفاطمة وحسنا وحسينا ، وقال : اللهم هؤلاء أهلي » (١).

* وقال الزمخشري : « وروي أنهم لما دعاهم إلى المباهلة قالوا : حتى نرجع وننظر ، فلما تخالوا قالوا للعاقب ـ وكان ذا رأيهم ـ : يا عبد المسيح!

__________________

(١) الدر المنثور في التفسير بالمأثور ٢ | ٣٨ ـ ٣٩.

٣٦٢

ما ترى؟

فقال : والله لقد عرفتم ـ يا معشر النصارى ـ أن محمدا نبي مرسل ، وقد جاءكم بالفصل من أمر صاحبكم ، والله ما بأهل قوم نبيا قط فعاش كبيرهم ولا نبت صغيرهم ، ولئن فعلتم لنهلكن ، فإن أبيتم إلا إلف دينكم والإقامة على ما أنتم عليه ، فوادعوا الرجل وانصرفوا إلى بلادكم.

فأتى رسول الله صلى الله عليه [ وآله ] وسلم وقد غدا محتضنا الحسين آخذا بيد الحسن وفاطمة تمشي خلفه وعلي خلفها ، وهو يقول : إذا أنا دعوت فأمنوا.

فقال أسقف نجران : يا معشر النصارى! إني لأرى وجوها لو شاء الله أن يزيل جبلا من مكانه لأزاله بها ، فلا تباهلوا فتهلكوا ، ولا يبقى على وجه الأرض نصراني إلى يوم القيامة.

فقالوا : يا أبا القاسم! راينا أن لا نباهلك ، وأن نقرك على دينك ونثبت على ديننا.

قال : فإذا أبيتم المباهلة فأسلموا يكن لكم ما للمسلمين وعليكم ما عليهم. فأبوا.

قال : فإني أناجزكم.

قالوا : ما لنا بحرب العرب طاقة ، ولكن نصالحك على أن لا تغزونا ولا تخيفنا ولا تردنا على ديننا ، على أن نؤدي إليك كل عام ألفي حلة ، ألف في صفر وألف في رجب ، وثلاثين درعا عادية من حديد.

فصالحهم على ذلك ، وقال : والذي نفسي بيده ، إن الهلاك قد تدلى على أهل نجران ، ولو لاعنوا لمسخوا قردة وخنازير ، ولاضطرم عليهم

٣٦٣

الوادي نارا ، ولاستأصل الله نجران وأهله حتى الطير على رؤوس الشجر ، ولما حال الحول على النصارى كلهم حتى يهلكوا.

وعن عائشة رضي الله عنها : إن رسول الله صلى الله عليه [ وآله ] وسلم خرج وعليه مرط مرحل من شعر أسود ، فجاء الحسن فأدخله ، ثم جاء الحسين فأدخله ، ثم فاطمة ، ثم علي ، ثم قال : ( إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ).

فإن قلت : ما كان دعاؤه إلى المباهلة إلا لتبيين الكاذب منه ومن خصمه وذلك أمر يختص به وبمن يكاذبه ، فما معنى ضم الأبناء والنساء؟

قلت : ذلك آكد في الدلالة على ثقته بحاله واستيقانه بصدقه ، حيث استجرأ على تعريض أعزته وأفلاذ كبده وأحب الناس إليه لذلك ، ولم يقتصر على تعريض نفسه له ؛ وعلى ثقته بكذب خصمه حتى يهلك خصمه مع أحبته وأعزته هلاك الاستئصال إن تمت المباهلة.

وخص الأبناء والنساء لأنهم أعز الأهل وألصقهم بالقلوب ، وربما فداهم الرجال بنفسه وحارب دونهم حتى يقتل ، ومن ثمة كانوا يسوقون مع أنفسهم الظعائن في الحروب لتمنعهم من الهرب ، ويسمون الذادة عنها بأرواحهم حماة الظعائن.

وقدمهم في الذكر على الأنفس لينبه على لطف مكانهم وقرب منزلتهم ، وليؤذن بأنهم مقدمون على الأنفس مفدون بها.

وفيه دليل لا شيء أقوى منه على فضل أصحاب الكساء عليهم‌السلام.

وفيه برهان واضح على نبوة النبي صلى الله عليه [ وآله ] وسلم ، لأنه

٣٦٤

لم يرو أحد من موافق ولا مخالف أنهم أجابوا إلى ذلك » (١).

* وروى ابن الأثير حديث سعد في الخصال الثلاثة ، بإسناده عن الترمذي (٢).

وأرسله في تاريخه إرسال المسلم ، قال : « وأما نصارى نجران فإنهم أرسلوا العاقب والسيد في نفر إلى رسول الله صلى الله عليه [ وآله ] وسلم ، وأرادوا مباهلته ، فخرج رسول الله صلى الله عليه [ وآله ] وسلم ومعه علي وفاطمة والحسن والحسين ، فلما رأوهم قالوا : هذه وجوه لو أقسمت على الله أن يزيل الجبال لأزالها ، ولم يباهلوه ، وصالحوه على ألفي حلة ، ثمن كل حلة أربعون درهما ، وعلى أن يضيفوا رسل رسول الله. وجعل لهم ذمة الله تعالى وعهده ألا يفتنوا عن دينهم ولا يعشروا ، وشرط عليهم أن لا يأكلوا الربا ولا يتعاملوا به » (٣).

* وروى الحاكم الحسكاني بإسناده : « عن أبي إسحاق السبيعي ، عن صلة بن زفر ، عن حذيفة بن اليمان ، قال : جاء العاقب والسيد ـ أسقفا نجران ـ يدعوان النبي صلى الله عليه [ وآله ] وسلم إلى الملاعنة ، فقال العاقب للسيد : إن لاعن بأصحابه فليس بنبي ، وإن لاعن بأهل بيته فهو نبي.

فقام رسول الله صلى الله عليه [ وآله ] وسلم فدعا عليا فأقامه عن يمينه ، ثم دعا الحسن فأقامه على يساره ، ثم دعا الحسين فأقامه عن يمين علي ، ثم دعا فاطمة فأقامها خلفه.

فقال العاقب للسيد : لا تلاعنه ، إنك إن لاعنته لا نفلح نحن ولا أعقابنا

__________________

(١) الكشاف ١ | ٣٦٩ ـ ٣٧٠.

(٢) اُسد الغابة في معرفة الصحابة ٤ | ٢٦.

(٣) الكامل في التاريخ ٢ | ٢٩٣.

٣٦٥

فقال رسول الله : لو لاعنوني ما بقيت بنجران عين تطرف » (١).

أقول :

وهذا نفس السند عند البخاري عن حذيفة ، لكنه حذف من الخبر ما يتعلق بـ « أهل البيت » ووضع مكانه فضيلة لـ « أبي عبيدة » وسيأتي في الفصل اللاحق فانتظر!!

* وقال ابن كثير : « وقال أبو بكر ابن مردويه : حدثنا سليمان بن أحمد ، حدثنا أحمد بن داود المكي ، حدثنا بشر بن مهران ، حدثنا محمد ابن دينار ، عن داود بن أبي هند ، عن الشعبي ، عن جابر ، قال : ... فغدا رسول الله صلى الله عليه [ وآله ] وسلم فأخذ بيد علي وفاطمة والحسن والحسين ... قال جابر : وفيهم نزلت ...

وهكذا رواه الحاكم في مستدركه ... ثم قال : صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه هكذا.

قال : وقد رواه أبو داود الطيالسي ، عن شعبة ، عن المغيرة ، عن الشعبي ، مرسلا. وهذا أصح.

وقد روي ابن عباس والبراء نجو ذلك » (٢).

ولكنه ـ في ( التاريخ ) ـ ذكر أولا حديث البخاري المبتور! ثم روى القصة عن البيهقي ، عن الحاكم بإسناده عن سلمة بن عبد يشوع ، عن أبيه ، عن جده ؛ وليس فيه ذكر لعلي عليه‌السلام ، كما سيأتي.

__________________

(١) شواهد التنزيل ١ | ١٢٦.

(٢) تفسير ابن كثير ١ | ٣١٩.

٣٦٦

* وقال القاري بشرح الحديث : « عن سعد بن أبي وقاص ، قال : لما نزلت هذه الآية ـ أي المسماة بآية المباهلة ـ ( ندع أبناءنا وأبناءكم ) أولها ( فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ) دعا رسول الله صلى الله عليه [ وآله ] وسلم عليا ؛ فنزله منزلة نفسه لما بينهما من القرابة والأخوة ، وفاطمة ، أي لأنها أخص النساء من أقاربه ، وحسنا وحسينا ؛ فنزلهما منزلة ابنيه صلى الله عليه [ وآله ] وسلم ، فقال : اللهم هؤلاء أهل بيتي ، أي أذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا. رواه مسلم » (١).

كلمات حول السند :

ولنورد نصوص عبارات لبعض أئمة القوم في قطعية هذا الخبر :

قال الحاكم : « وقد تواترت الأخبار في التفاسير ، عن عبد الله بن عباس وغيره ، أن رسول الله صلى الله عليه [ وآله ] وسلم أخذ يوم المباهلة بيد علي وحسن وحسين ، وجعلوا فاطمة وراءهم ، ثم قال : هؤلاء أبناؤنا وأنفسنا ونساؤنا ، فهلموا أنفسكم وأبناءكم ونساءكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين » (٢).

وقال الجصاص : « إن رواة السير ونقلة الأثر لم يختلفوا في أن النبي صلى الله عليه [ وآله ] وسلم أخذ بيد الحسن والحسين وعلي وفاطمة رضي الله عنهم ، ودعا النصارى الذين حاجوه إلى المباهلة ... » (٣).

__________________

(١) المرقاة في شرح المشكاة ٥ | ٥٨٩.

(٢) معرفة علوم الحديث : ٥٠.

(٣) أحكام القران ٢ | ١٦.

٣٦٧

وقال ابن العربي المالكي : « روى المفسرون أن النبي صلى الله عليه [ وآله ] وسلم ناظر أهل نجران حتى ظهل عليهم بالدليل والحجة ، فأبوا الانقياد والإسلام ، فأنزل الله هذه الآية ، فدعا حينئذ عليا وفاطمة والحسن والحسين ، ثم دعا النصارى إلى المباهلة » (١).

وقال ابن طلحة الشافعي : « أما آية المباهلة ، فقد نقل الرواة الثقات والنقلة الأثبات نزولها في حق علي ، وفاطمة والحسن والحسين » (٢).

واعترف القاضي الأيجي والشريف الجرجاني بدلالة الأخبار والصحيحة والروايات الثابتة عند أهل النقل على أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دعا عليا وفاطمة وابنيهما فقط ، وستأتي عبارتهما كاملة في فصل الدلالة.

* * *

__________________

(١) أحكام القران ١ | ١١٥. ط السعادة بمصر ، وفي الطبعة الموجودة عندي ١ | ٣٦٠ لا يوجد اسم علي ، فليتحقق.

(٢) مطالب السؤول : ٧.

٣٦٨

الفصل الثاني

في قصة المباهلة

إنه لما كان الغرض الأهم للعلماء ، من متكلمين ومفسرين ومحدثين ، هو بيان سبب نزول الآية المباركة وذكر الحديث الوارد فيها ، وما في ذلك من دلالات ... فإنهم لم يتعرضوا لشرح الواقعة ورواية جزئياتها ، ومن تعرض منهم لها ـ كالزمخشري مثلا ـ فقد اكتفى بنقل القدر المحتاج إليه في نظره!!

إلا أنا رأينا من المناسب إيراد القصة بشيء منا لتفصيل ، لما فيها من الفوائد المهمة ، ثم نعقب ذلك بما وقع عليه الصلح ، وببعض المسنونات المروية عن أئمة أهل البيت عليهم أفضل الصلوات والتسليمات ، في يوم المباهلة.

ولعل ما يرويه السيد الجليل ، الجامع بين العلم والعمل ، العلاّمة السيّد ابن طاووس الحلي هو أجمع الروايات لخبر القصة ، وهذا نصه مع بعض التلخيص بلفظه ، قال رحمه‌الله :

« الباب السادس : في ما يتعلق بمباهلة سيد أهل الوجود لذوي الجحود ، الذي لا يساوى ولا يجازى ، وظهور حجته على النصارى والحيارى ، وإن في يوم مثله تصدق أمير المؤمنين عليه‌السلام بالخاتم ، ونذكر ما نعمل من المراسم ، وفيه فصول :

فصل : في ما نذكره من إنفاذ النبي صلوات الله عليه وآله وسلم

٣٦٩

لرسله إلى نصارى نجران ومناظرتهم فيما بينهم وظهور تصديقه في ما ادعاه ، روينا ذلك بالأسانيد الصحيحة والروايات الصريحة إلى أبي المفضل محمد بن عبد المطلب الشيباني رحمه‌الله من كتاب ( المباهلة ) ، ومن أصل كتاب الحسن بن إسماعيل بن أشناس من كتاب عمل ذي الحجة ، في ما رويناه بالطرق الواضحة ، عن ذوي الهمم الصالحة ، لا حاجة إلى ذكر أسمائهم ، لأن المقصود ذكر كلامهم ، قالوا :

لما فتح النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله مكة وانقادت له العرب ، وأرسل رسله ودعاته إلى الأمم ، وكاتب الملكين كسرى وقيصر يدعوهما إلى الإسلام وإلا أقرا بالجزية والصغار ، وإلا أذنا بالحرب العوان ، أكبر شأنه نصارى نجران وخلطاؤهم ، من بني عبدالمدان وجميع بني الحرث بن كعب ومن ضوى إليهم ونزل بهم من دهماء الناس ـ على اختلافهم هناك في دين النصرانية من الأروسية ، والنالوسية ، وأصحاب دين الملك ، والمارونية ، والعباد ، والنسطورية ـ وأملأت قلوبهم ـ على تفاوت منازلهم ـ رهبة منه رعبا.

فإنهم كذلك من شأنهم ، إذ وردت عليهم رسل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بكتابه ، وهم : عتبة بن غزوان ، وعبدالله بن أبي أمية ، والهدير بن عبدالله أخو تيم بن مرة ، وصهيب بن سنان أخو النمر بن قاسط ، يدعوهم إلى الإسلام ، فإن أجابوا فإخوان ، وإن أبوا واستكبروا فإلى الخطة المخوفة إلى أداء الجزية عن يد ، فإن راغبوا عما دعاهم إليه من أحد المنزلتين وعندوا فقد آذنهم على سواء ، وكان في كتابه صلى‌الله‌عليه‌وآله : ( قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا

٣٧٠

اشهدوا بأنا مسلمون ) (١).

قالوا : وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لا يقاتل قوما حتى يدعوهم.

فازداد القوم لورود رسل نبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وكتابه نفورا وامتراجا ، ففزعوا لذلك إلى بيعتهم العظمى ، وأمروا ففرش أرضها وألبس جدرها بالحرير والديباج ، ورفعوا الصليب العظيم ، وكان من ذهب مرصع أنفذه إليهم القيصر الأكبر ، وحضر ذلك بني الحرث بن الكعب ، وكانوا ليوث الحرب وفرسان الناس ، قد عرفت العرب ذلك لهم في قديم أيامهم وفي الجاهلية ، فاجتمع القوم جميعا للمشورة والنظر في أمورهم ، وأسرعت إليهم القبائل من مذحج وعك وحمير وأنمار ، ومن دنا منهم نسبا ودارا نم قبائل سبأ ، وكلهم قد ورم أنفه غضبا من لقومهم ، ونكص من تكلم منهم بالإسلام ارتدادا ، فخاضوا وأفاضوا في ركز المسير بنفسهم وجمعهم إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، والنزول به بيثرب لمناجزته.

فلما رأى أبو حارثة حصين بن علقمة ـ أسقفهم الأول وصاحب مدارسهم وعلامهم ، وكان رجلا من بني بكر بن وائل ـ ما أزمع القوم عليه من إطلاق الحرب ، دعا بعصابة فرفع بها حاجبيه عن عينيه ـ وقد بلغ يومئذ عشرين ومائة سنة ـ ثم قام فيهم خطيبا معتمدا على عصا ـ وكانت فيه بقية ، وله رأي وروية ، وكان موحدا يؤمن بالمسيح عليه‌السلام وبالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ويكتم إيمانه ذلك من كفرة قومه وأصحابه ـ فقال :

__________________

(١) سورة آل عمران ٣ : ٦٤.

٣٧١

مهلا بني عبد المدان مهلا ، استديموا العافية والسعادة ، فإنهما مطويان في الهوادة ، دبوا إلى قوم في هذا الأمر دبيب الذر ، وإياكم والسورة العجلى ، فإن البديهة بها لا ينجب ، إنكم ـ والله ـ على فعل ما لم تفعلوا أقدر منكم على رد ما فعلتم ، ألا إن النجاة مقرونة بالأناة ، ألا رب إحجام أفضل من إقدام ، وكائن من قول أبلغ من صول ، ثم أمسك.

فأقبل عليه كرز بن سبرة الحارثي ـ وكان يومئذ زعيم بني الحارث بن كعب وفي بيت شرفهم والمعصب فيهم ، وأمير حروبهم ـ فقال : لقد انتفخ سحرك واستطير قلبك أبا حارثة ، فظلت كالمسبوع النزاعة المهلوع ، تضرب لنا الأمثال ، وتخوفنا النزال ، لقد علمت ـ وحق المنان ـ بفضيلة الحفاظ بالنوء بالعبء وهو عظيم ، وتلقح الحرب وهو عقيم ، تثقف إود الملك الجبار ، ولنحن أركان الرائش وذوو المنار ، الذين شددنا ملكهما ، وأمّرنا مليكهما ، فأي أيامنا ينكر؟! أم لأيها ـ ويك ـ تلمز؟! فما أتى على آخر كلامه حتى انتظم نصل نبلة كانت في يده بكفه غيظا وهو لا يشعر.

فلما أمسك كرز بن سبرة ، أقبل عليه العاقب ـ واسمه عبد المسيح بن شرحبيل ، وهو يومئذ عميد القوم ، وأمير رأيهم ، وصاحب مشورتهم ، الذي لا يصدرون جميعا إلا عن قوله ـ فقال له :

أفلح وجهك ، وآنس ربعك ، وعز جارك ، وامتنع ذمارك ، ذكرت ـ وحق مغبرة الجباه ـ حسبا صميما ، وعيصا كريما ، وعزا قديما ، ولكن ـ أبا سبرة ـ لكل مقام مقال ، ولكل عصر رجال ، والمرء بيومه أشبه منه بأمسه ، وهي الأيام تهلك جيلا وتديل قبيلا ، والعافية أفضل جلباب ، وللآفات أسباب ، فمن أوكد أسبابه التعرض لأبوابها. ثمّ صمت العاقب مطرقاً.

٣٧٢

فأقبل عليه السيد ـ واسمه أهتم بن النعمان ، وهو يومئذ أسقف نجران ، وكان نظير العاقب في علو المنزلة ، وهو رجل من عاملة ، وعداده في لخم ـ فقال له : سعد جدك ، وسما جِدك أبا وائلة ، إن لكل لا معة ضياء ، وعلى كل صواب نورا ، ولكن لا يدركه ـ وحق واهب العقل ـ إلا من كان بصيرا ، إنك أفضيت وهذان فيما تصرف بكما الكلم إلى سبيليْ حزن وسهل ، ولكل على تفاوتكم حظ من الرأي الربيق والأمر الوثيق إذا أصيب به مواضعه.

ثم إن أخا قريش قد نجدكم لخطب عظيم وأمر جسيم ، فما عندكم فيه قولوا وانجزوا ، أبخوع وإقرار؟ أم نزوع؟!

قال عتبة والهدير والنفر من أهل نجران : فعاد كرز بن سبرة لكلامه ـ وكان كميا أبيا ـ فقال :

أنحن نفارق دينا رسخت عليه عروقنا ، ومضى عليه آباؤنا ، وعرف ملوك الناس ثم العرب ذلك منا؟! أنتهالك إلى ذلك أم نقر بالجزية وهي الخزية حقا؟! لا والله حتى نجرد البواتر من أغمادهم ، وتذهل الحلائل عن أولادها ، أو نشرق نحن ومحمد بدمائنا ، ثم يديل الله عز وجل بنصره من يشاء.

قال له السيد : أربع على نفسك وعلينا أبا سبرة ، فإن سل السيف يسل السيوف ، وإن محمّداً قد بخعت له العرب وأعطته طاعتها ، وملك رجالها وأعنتها ، وجرت أحكامه في أهل الوبر منهم والمدر ، ورمقه الملكان العظيمان كسرى وقيصر فلا أراكم ـ والروح ـ لو نهد لكم إلا وقد تصدع عنكم من خف معكم من هذه القبائل ، فصرتم جفاء كأم الذاهب ، أو كلحم على وضم.

٣٧٣

وكان فيهم رجل يقال له : جهير بن سراقة البارقي ـ من زنادقة نصارى العرب ، وكان له منزلة من ملوك النصرانية ، وكان مثواه بنجران ـ فقال له : أبا سعد قل في أمرنا وأنجدنا برأيك ، فهذا مجلس له ما بعده.

فقال : فإني أرى لكم أن تقاربوا محمدا وتعطوه في بعض ملتمسه عندكم ، ولينطلق وفودكم إلى ملوك أهل ملتكم ، إلى الملك الأكبر بالروم قيصر ، وإلى ملوك هذه الجلدة السوداء الخمسة ـ يعني ملوك السودان : ملك النوبة ، وملك الحبشة ، وملك علوه ، وملك الرعا ، وملك الواحات ، ومريس ، والقبط ، وكل هؤلاء كانوا نصارى ـ.

قال : وكذلك من ضوى إلى الشام وحل بها من ملوك غسان ، ولخم ، وجذام ، وقضاعة ، وغيرهم من ذوي يمنكم ، فهم لكم عشيرة وموالي ومآل ، وفي الدين إخوان ـ يعني أنهم نصارى ـ وكذلك نصارى الحيرة من العباد وغيرهم ، فقد صبت إلى دينهم قبائل تغلب نبت وائل وغيرهم من ربيعة بن نزار.

لتسير وفودكم ، ثم لتخرق إليهم البلاد آغذاذا فيستصرخونهم لدينكم ، فيستنجدكم الروم ، وتسير إليكم الاساودة مسير أصحاب الفيل ، وتقبل إليكم نصارى العرب من ربيعة اليمن.

فإذا وصلت الأمداد واردة سرتم أنتم في قبائلكم وسائر من ظافركم وبذل نصره ومؤازرته لم ، حتى تضاهئون من أنجدكم وأصرخكم من الأجناس والقبائل الواردة عليكم ، فأموا محمدا حتى تبيتوا جميعا ، فسيعتق إليكم وافدا لكم نم صبا إليه مغلوبا مقهورا ، وينعتق به من كان منهم في مدرته مكثورا ، فيوشك أن تصطلموا حوزته ، وتطفئوا جمرته ، ويكون لكم بذلك الوجه والمكان في الناس ، فلا تتمالك العرب حينئذ حتى تتهافت

٣٧٤

دخولا في دينكم ، ثم لتعظمن بيعتكم هذه ، ولتشرفن حتى تصير كالكعبة المحجوجة بتهامة.

هذا الرأي فانتهزوه ، فلا رأي لكم بعده.

فأعجب القوم كلام جهير بن سراقة ، ووقع منهم كل موقع ، فكاد أن يتفرقوا على العمل به ، وكان فيهم رجل من ربيعة بن نزار من بني قيس بن ثعلبة ، يدعى حارثة بن أثاك ، على دين المسيح عليه‌السلام ، فقام حارثة على قدميه وأقبل على جهير ، وقال متمثلا :

متـى ما تقد بالباطل الحق بابه

وإن قدرت بالحق الرواسي ينقـد

إذا ما أتيت الأمر من غير بابه

ضلت وإن تقصد إلى الباب تهتـد

ثم استقبل السيد والعاقب والقسيسين والرهبان وكافة نصارى نجران بوجهه ، لم يخلط معهم غيرهم ، فقال : سمعا سمعا يا أبناء الحكمة ، وبقايا حملة الحجة ، إن السعيد والله من نفته الموعظة ، ولم يعش عن التذكرة ، ألا وإن أنذركم وأذكركم قول مسيح الله عز وجل.

ثم شرح وصيته ونصه على وصية شمعون بن يوحنا ، وما يحدث على أمته من الإقتراق ، ثم ذكر عيسى عليه‌السلام ، وقال : إن الله جل جلاله أوحى إليه :

فخذ يا بن أمتي كتابي بقوة ، ثم فسره لأهل سوريا بلسانهم ، وأخبرهم إني أنا الله لا إله إلا أنا الحي القيوم ، البديع الدائم ، الذي لا أحول ولا أزول ، وإني بعثت رسلي وأنزلت كتبي رحمة ونورا وعصمة لخلقي ، ثم إني باعث بذلك نجيب رسالتي ، أحمد ، صفوتي من بريتي ، الفارقليطا عبدي ، أرسله في خلو من الزمان ، أبتعثه بمولده فاران ، من مقام أبيه إبراهيم عليه‌السلام ، أنزل عليه توراة حديثة ، أفتح بها أعينا عميا ، وآذانا

٣٧٥

صما ، وقلوبا غلفا ، طوبى لمن شهد أيامه ، وسمع كلامه ، فآمن به واتبع النور الذي جاء به.

فإذا ذكرت يا عيسى ذلك النبي فصل عليه فإني وملائكتي نصلي عليه.

قال : فما أتى حارثة بن أثاك على قوله هذا حتى أظلم بالسيد والعاقب مكانهما ، وكرها ما قام به في الناس معربا ومخبرا عن المسيح عليه‌السلام بما أخبر وأقدم من ذكر النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لأنهما كانا قد أصابا بموضعهما من دينهما شرفا بنجران ، ووجها عند ملوك النصرانية جميعا ، وكذا عند سوقتهم ، وعربهم في البلاد ، فأشفقا أن يكون ذلك سببا لانصراف قومهما عن طاعتهما لدينهما ، وفسخا لمنزلتهما في الناس.

فأقبل العاقب على حارثة فقال : أمسك عليك يا حار ، فإن راد هذا الكلام عليك أكثر من قابله ، ورب قول يكون بلية على قائله ، وللقلوب نفرات عند الإصداع بمظنون الحكمة ، فاتق نفورها ، فلكل نبأ أهل ؛ ولكل خطب محل ، وإنما الدرك ما أخذ لك بمواضي النجاة وألبسك جنة السلامة ، فلا تعدلن بهما حظا ، فإني لم ألك ـ لا أبا لك ـ نصحا. ثم أرم يعني أمسك.

فأوجب السيد أن يشرك العاقب في كلامه ، فأقبل على حارثة ، فقال :

إني لم أزل أتعرف لك فضلا تميل إليه الألباب ، فإياك أن تقعد مطية اللجاج ، وأن ترجف إلى السراب ، فمن عذر بذلك فلست فيه أيها المرء بمعذور ، وقد أغفلك أبو واثلة وهو ولي أمرنا وسيد حضرنا عتابا ، فأوله

٣٧٦

اعتبارا. ثم تعلم أن ناجم قريش ـ يعني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ يكون رزؤه قللا ثم ينقطع ويخلو.

إن بعد ذلك قرنا يبعث في آخره النبي المبعوث بالحكمة والبيان ، والسيف والسلطان ، ويملك ملكا مؤجلا تطبق فيه أمته المشارق والمغارب ، ونم ذريته الأمير الظاهر ، يظهر على جميع الملكات والأديان ، ويبلغ ملكه ما طلع عليه الليل والنهار ، وذلك ـ يا حار ـ أمل من ورائه أمد ومن دونه أجل ، فتمسك من دينك بما تعلم وتمنع ـ لله أبوك ـ من أنس متصرم بالزمان أو لعارض من الحدثان ، فإنما نحن ليومنا ولغد أهله.

فأجابه حارثة بن أثاك ، فقال : إيها عليك أبا قرة! فإنه لا حظ في يومه لمن لا درك له في غدوه ، اتق الله تجد الله جل وتعالى بحيث لا مفزع إلا إليه ، وعرضت مشيدا بذكر أبي واثلة ، فهو العزيز المطاع ، الرحب الباع وإليكما معا يلقىالرحل ، فلو أضربت التذكرة عن أحد لتبزيز فضل لكنتماه ، لكنها أبكار الكلام تهدى لأربابها ، ونصيحة كنتما أحق من أصغى لها ، إنكما مليكا ثمرات قلوبنا ، ووليا طاعتنا في ديننا فالكيّس الكيس ـ يا أيها المعظمان ـ عليكما به ، أرمقا ما يدهكما نواحيه وأهجرا التسويف في ما أنتما بعرضه ، آثرا الله في ما كان يؤثركما بالمزيد في فضله ، ولا تخلدا في ما أظلكما إلى الونية ، فإنه من أطال عنان الأمر أهلكته الغرة ، ومن اقتعد مطية الحذر كان بسبيل آمن من المتألف ، ومن استنصح عقله كانت العبرة له لا به ، ومن نصح لله عز وجل آنسه الله جل وتعالى بعز الحياة وسعادة المنقلب.

ثم أقبل على العاقب معاتبا فقال :

وزعمت ـ أبا واثلة ـ أن راد ما قلت أكثر من قائله ، وأنت لعمر الله

٣٧٧

حري ألا يؤثر هذا عنك ، فقد علمت وعلمنا أمة الإنجيل معا بسيرة ما قام به المسيح عليه‌السلام في حواريه ومن آمن له من قومه ، وهذه منك فهّة لا يرحضها إلا التوبة والإقرار بما سبق به الإنكار.

فلما أتى على هذا الكلام صرف إلى السيد وجهه ، فقال : لا سيف إلا ذو نبوة ولا عليم إلا ذو هفوة ، فمن نزع عن وهلة وأقلع فهو السعيد الرشيد ، وإنما الآفة في الإصرار ، وأعرضت بذكر نبيين يخلقان بعد ابن البتول ، فأين يذهب بك عما خلا في الصحف من ذكرى ذلك؟! ألم تعلم ما أنبأ به المسيح عليه‌السلام في بني إسرائيل؟! وقوله لهم : كيف بكم إذا ذهب بي إلى ابي وأبيكم وخلف بعد أعصار يخلو من بعدي وبعدكم صادق وكاذب؟!

قالوا : ومن هما يا مسيح الله؟

قال : نبي من ذرية إسماعيل عليهما‌السلام صادق ، ومتنبئ من بني إسرائيل كاذب ، فالصادق منبعث منهما برحمة وملحمة ، يكون له الملك والسلطان ما دامت الدنيا ، وأما الكاذب فله بند يذكر به المسيح الدجال يملك فواقا ثم يتله الله بيدي إذا رجع بي.

قال حارثة : وأحذركم يا قوم أن يكون من قبلكم من اليهود أسوة لكم ، إنهم أنذروا بمسيحين ، مسيح رحمة وهدى ، ومسيح ضلالة ، وجعل لهم على كل واحد منهما آية وأمارة ، فجحدوا مسيح الهدى وكذبوا به ، وآمنوا بمسيح الضلالة الدجال ، وأقبلوا على انتظاره وأضربوا في الفتنة وركبوا نصحها ، ومن قبل ما نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم ، وقتلوا أنبياءه والقوامين بالقسط من عباده ، فحجب الله عز وجل عنهم البصيرة بعد التبصرة بما كسبت أيديهم ، ونزع ملكهم منهم ببغيهم وألزمهم الذلة

٣٧٨

والصغار ، وجعل منقلبهم إلى النار.

قال العاقب : فما أشعرك ـ يا حار ـ أن يكون هذا النبي المذكور في الكتب هو قاطن يثرب ، ولعله ابن عمك صاحب اليمامة ، فإنه يذكر من النبوة ما يذكر منها أخو قريش ، وكلاهما من ذرية إسماعيل ، ولجميعهما أتباع وأصحاب يشهدون بنبوته ، ويقرون له برسالته ، فهل تجد بينهما في ذلك من فاصلة فتذكرها؟

قال حارثة : أجل والله أجدها والله أكبر ، وأبعد مما بين السحاب والتراب ، وهي الأسباب التي بها وبمثلها تثبت حجة الله في قلوب المعتبرين من عباده لرسله وأنبيائه.

وأما صاحب اليمامة فيكفيك فيه ما أخبركم به سفهاؤكم وغيركم ، والمنتجعة منكم أرضه ، ومن قدم من أهل اليمامة عليكم ، ألم يخبركم جميعا عن رواد مسيلمة وسماعيه ، ومن أوفده صاحبهم إلى أحمد بيثرب فعادوا إليه جميعا بما تعرفوا هناك في بني قيلة وتبينوا به؟!

قالوا : قدم علينا أحمد يثرب وبيارنا ثماد ، ومياهنا ملحة ، وكنا من قبله لا نستطيب ولا نستعذب ، فبصق في بعضها ومج في بعض ، فعادت عذابا محلولية ، وجاش منها ما كان ماؤها ثمادا فحار بحرا.

قالوا : وتفل محمد في عيون رجال ذوي رمد ، وعلى كلوم رجال ذوي جراح ، فبرئت لوقته عيونهم فما اشتكوها واندملت جراحهم فما ألموها ، في كثير مما أدوا ونبؤوا عن محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله من دلالة وآية.

وأرادوا صاحبهم مسيلمة على بعض ذلك ، فأنعم لهم كارها ، وأقبل بهم إلى بعض بيارهم فمج فيها وكانت الركى معذوذبة فحارت ملحا لا

٣٧٩

يستطاع شرابه ، وبصق في بئر كان ماؤها وشلا فعادت فلم تبض بقطرة من ماء ، وتفل في عين رجل كان بها رمد فعميت ، وعلى جراح ـ أو قالوا جراح آخر ـ فاكتسى جلده برصا ـ.

فقالوا لمسيلمة في ذلك منه ، واستبرؤوه.

فقال : ويحكم بئس الأمة أنتم لنبيكم والعشيرة لابن عمكم أن كنتم تحيفوني يا هؤلاء من قبل أن يوحى إلي في شيء مما سألتم ، والآن فقد أذن لي في أجسادكم وأشعاركم دون بياركم ومياهكم ، هذا لمن كان منكم بي مؤمنا ، وأما من كان مرتابا فإنه لا يزيده تفلتي عليه إلا بلاء ، فمن شاء الآن منكم فليأت لأتفل في عينه وعلى جلده.

قالوا : ما فينا ـ وأبيك ـ أحد يشاء ذلك ، إنا نخاف أن يشمت بك أهل يثرب ؛ وأضربوا عنه حمية لنسبه فيهم وتذمما لمكانه منهم.

فضحك السيد والعاقب حتى فحصا الأرض بأرجلهما ، وقالا : ما النور والظلام والحق والباطل بأشد بيانا وتفاوتا مما بين هذين الرجلين صدقا وكذبا.

قالوا : وكان العاقب أحب ـ مع ما تبين من ذلك ـ أن يشيد ما فرط من تقريظه مسيلمة ويوثل منزلته ليجعل لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله كفؤا ، استظهارا بذلك في بقاء عزّه وما طار له من السمو في أهل ملته ، فقال : ولئن فخر أخو بني حنيفة في زعمه أن الله عز وجل أرسله ، وقال من ذلك ما ليس له بحق ، فلقد بر في أن نقل قومه من عبادة الاوثان إلى الإيمان بالرحمن.

قال حارثة أنشدك بالله الذي دحاها ، وأشرق باسمه قمراها ، هل تجد في ما أنزل الله عز وجل في الكتب السابقة : يقول الله عز وجل : أنا الله

٣٨٠