محمّد بن الحسن الرضي الاسترآبادي
المحقق: يوسف حسن عمر
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: منشورات مؤسّسة الصادق
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥١٢
وفيه نظر ؛ لأن «أيمن» كما يجيء ، مختص بالله أو بالكعبة ، و «من» مختصة بلفظ «ربّي» ؛
ولا منع أن يقال : تغيّر حكمه عند اختصاره ؛ ويمكن أن يستدلّ ببنائه على أنه ليس محذوفا من «أيمن» المعرب ، لأن اختصار المعرب ورده إلى حرفين ، لا يوجب البناء ، كما في : يد ، ودم ؛
والأولى أن يقال إن ما روي من قولهم : من الله ، مضموم الميم والنون ، ومكسورهما مع لفظ «الله» وحدها : هي «من» الجارة ، المستعملة مع «ربي» ، اتبعت النون الميم ضما وكسرا ، للساكنين ؛
وأمّا : من الله بفتحتين ، فنقول : أصلها : من الله بكسر الميم وفتح النون ، اتبع الميم النون وإن كانت فتحتها عارضة للساكنين ، طلبا للتخفيف ، فعلى هذا ، «من» الجارة تختص في القسم بربّي ، أو بالله ،
وقيل : بل الثلاثة ، أي مضموم الميم والنون ومكسورهما ومفتوحهما مع لفظة «الله» مقصورة من أيمن ؛
أمّا اختصار : من الله بضمتين ، فظاهر ؛ وأما المكسورتهما والمفتوحتهما فلا أرى لكونهما مقصورتين منه وجها ، لأن «أيمن» ، عندهم واجب الرفع سماعا ، كما يجيء والقصر لا يوجب البناء ، فمن أين جاء كسر النون وفتحها ؛ بلى ، لو جاء أيمن الله على ثلاثة أوجه ، أي بالرفع والنصب والجر ، كما جاء يمين الله رفعا ونصبا عند الجميع ، وجرّا ، أيضا عند الكوفيين ، جاز أن يقال : أتبع الميم النون فتحا وكسرا ؛
ويجوز أن يكون : من الله بفتحتين ، مقصورا من : يمين الله بإتباع الميم للنون بعد القصر ، ولا يجوز أن يكون : من الله بكسرتين مقصورا من يمين الله بإتباع النون للميم ، لأن حركة الإعراب لا تزال لأجل الاتباع ؛
وأمّا : أيم الله بفتح الهمزة وكسرها مع ضم الميم ، فمقصوران من : أيمن الله ، بفتح الهمزة وكسرها ؛
وقد يقال : هيم الله بقلب الهمزة هاء مفتوحة ؛ وقد تحذف الياء مع النون ، فيقال : أم الله بفتح الهمزة وكسرها ؛ وكل ما قصر من أيمن لا يستعمل إلا مع لفظة «الله» ، ولا يستعمل مع الكعبة ، كما استعمل أيمن ، معها ، وقد يقال : م الله ، وم الله ، بضم الميم وكسرها مقصورتين من «من» و «من» على ما قال سيبويه ؛ وقيل : هما مقصورتان من أيمن ، ففي كسر الميم ، إذن ، إشكال ؛ وقيل : المكسورة مقصورة من يمين ، وقيل : هما بدلان من الواو ، كالتاء ، لكون الميم والواو شفهيتين فاختصا بلفظ الله كالتاء ؛ وفيه نظر ، لأن الكلمة التي على حرف ، لم تجئ في كلامهم مضمومة ؛
وإذا حذف حرف القسم الأصلي ، أعني الباء ، فإن لم يبدل منها ، فالمختار النصب بفعل القسم ، ويختص لفظ «الله» بجواز الجر مع حذف الجارّ بلا عوض ؛ والكوفيون يجوّزون الجر في كل ما حذف منه الجارّ من المقسم به وإن كان بلا عوض ، نحو : الكعبة لأفعلن ، و : المصحف لآتينّ ؛
ويختص لفظ «الله» بتعويض «ها» ، أو همزة الاستفهام من الجارّ ، وكذا يعوّض من الجارّ فيها : قطع همزة «الله» في الدرج ، فكأنها حذفت للدرج ثم ردّت عوضا من الحرف ؛
وجار الله (١) ، جعل هذه الأحرف بدلا من الواو ، ولعلّ ذلك لاختصاصها بلفظة «الله» كالتاء ، فإذا جئت بهاء التنبيه بدلا ، فلا بدّ أن تجيء بلفظ «ذا» بعد المقسم به نحو : لا ، ها الله ذا ، وإي ها الله ذا ، وقوله :
تعلّمن ها لعمر الله ذا قسما |
|
فاقصد بذرعك وانظر أين تنسلك(٢) ـ ٤٠٠ |
والظاهر أن حرف التنبيه من تمام اسم الإشارة ، كما يأتي في حروف التنبيه ، قدّم على لفظ المقسم به عند حذف الحرف ، ليكون عوضا منه ؛
__________________
(١) أي الزمخشري وقوله هذا في المفصل الذي شرحه ابن يعيش ، في ج ٨ ص ٣٢ ؛
(٢) من شعر زهير بن أبي سلمى وتقدم في باب اسم الإشارة آخر الجزء الثاني ؛
وإذا دخلت «ها» على «الله» ففيه أربعة أوجه ؛ أكثرها إثبات ألف «ها» وحذف همزة الوصل من «الله» فيلتقي ساكنان : ألف «ها» واللام الأولى من «الله» ، وكان القياس حذف الألف لأن مثل ذلك إنما يغتفر في كلمة واحدة ، كالضالّين ، أمّا في كلمتين ، فالواجب الحذف نحو : ذا الله ، وما الله ، إلا أنه لم يحذف ، في الأغلب ، ههنا ، ليكون كالتنبيه على كون ألف «ها» من تمام «ذا» ، فإن : ها الله ذا ، بحذف ألف «ها» ، ربما يوهم أن الهاء عوض عن همزة «الله» ، كهرقت ، في أرقت ، وهيّاك في إياك ؛
والثانية ، وهي المتوسطة في القلة والكثرة ، ها الله ذا ، بحذف ألف «ها» ، للساكنين ، كما في : ذا الله ، وما الله ؛ ولكونها حرفا ، كلا وما وذا ،
والثالثة وهي دون الثانية في الكثرة : إثبات ألف «ها» وقطع همزة «الله» مع كونها في الدرج ، تنبيها على أن حقّ «ها» ، أن يكون مع «ذا» بعد «الله» ، فكأن الهمزة لم تفع في الدرج ؛
والرابعة حكاها أبو علي ، وهي أقل الجميع : هألله ، بحذف همزة الوصل وفتح ألف «ها» للساكنين بعد قلبها همزة ، كما في : الضألّين ودأبّة ،
قال الخليل (١) : ذا من جملة جواب القسم ، وهو خبر مبتدأ محذوف ، أي : الأمر ذا ، أو فاعل ، أي : ليكوننّ ذا ، أو لا يكون ذا ؛ والجواب الذي يأتي بعده نفيا أو إثباتا ، نحو : ها الله ذا لأفعلنّ ، أو : لا أفعل : بدل من الأول ، ولا يقاس عليه ، فلا يقال : ها الله أخوك ، أي لأنا أخوك ونحوه ،.
وقال الأخفش : ذا ، من تمام القسم ، إمّا صفة لله ، أي : الله الحاضر الناظر ، أو مبتدأ محذوف الخبر ، أي : ذا قسمي ، فبعد هذا إما أن يجيء الجواب ، أو يحذف مع القرينة ؛
__________________
(١) نقله عنه سيبويه في الكتاب. ج ٢ ص ١٤٥ ؛
وأمّا همزة الاستفهام ، فإما أن تكون للإنكار ، كقول الحجاج في الحسن البصري ، رحمه الله : آلله ليقومنّ عبد من العبيد فيقولنّ كذا وكذا ،
أو للاستفهام ، كما قال صلّى الله عليه وسلّم ، لعبد الله بن مسعود رضي الله عنه لمّا قال هذا رأس أبي جهل : آلله الذي لا إله غيره ؛
فإذا دخلت همزة الاستفهام على «الله» ، فإمّا أن تبدل الثانية ألفا صريحة ، وهو الأكثر ، أو تسهّل كما هو القياس في : آلرجل ، ونحوه (١) ، ولا تحذف للبّس ، ولا تبقى للاستثقال ؛
وأما قطع همزة «الله» ، فهو في مكان مخصوص ، وذلك إذا كان قبله فاء ، قبلها همزة الاستفهام ، تقول لشخص ، هل بعت دارك فيقول نعم ، فتقول : أفألله لقد كان كذا ؛ ويجوز دخول الفاء من غير استفهام نحو : فألله لقد كان كذا ؛ وهمزة الاستفهام ليست عوضا من حرف القسم ههنا ، للفصل بينها وبين «الله» بفاء العطف ؛
وعند الأخفش : الفاء : في : أفألله ، زائدة ؛
ودليل كون هذه الثلاثة أبدالا ، معاقبتها لحرف القسم ، ولزوم الجر معها دون النصب ، مع أن النصب بلا عوض أكثر ، كما تقدم ؛
واعلم أن الجملتين ، أعني القسم والجواب ، كالشرط والجزاء ، صارتا بقرينة القسم كجملة واحدة ؛
فإن كانت القسمية اسمية ، فإمّا أن يتعيّن الاسم الذي جعلته مبتدأ للقسم ، كأيمن الله ، ولعمرك ، أو ، لا ؛ فإن تعيّن وجب حذف الخبر ، كما مرّ في باب المبتدأ ، لدلالة
__________________
(١) ورد الوجهان المذكوران في قراءتين قرئ بهما قوله تعالى : (قُلْ آللهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ ؛) يونس ـ الآية ٥٦ ؛
ذلك اللفظ على تعيّن الخبر وهو : «ما اقسم به» (١) ؛ وسدّ الجواب مسدّ الخبر ؛ وإن لم يتعيّن ، كأمانة الله وعهد الله ، ويمين الله ، جاز لك حذف الخبر وإثباته ، نحو ؛ أمانة الله ، ويمين الله وعهد الله لأفعلن ؛ والمراد بأمانة الله : ما فرض الله على الخلق من طاعته ، كأنها أمانة له تعالى عندهم ، يجب عليهم أن يؤدّوها إليه تعالى سالمة ، قال تعالى : (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ ..)(٢) الآية ، ومعنى يمين الله تعالى : ما حلف به تعالى من قوله : (وَالشَّمْسِ وَضُحاها)(٣) ، و : (وَاللَّيْلِ)(٤) و : (وَالضُّحى)(٥) ، ونحوها ، أو اليمين التي تكون باسمائه تعالى نحو : والله ورب الكعبة ، والخالق ، ونحو ذلك ، والمعنى : يمين الله يميني ، ويجوز إثبات الخبر ، نحو : عليّ أمانة الله ، وعليّ عهد الله ، وعليّ يمين الله ، وكذا تقول : الكعبة أو المصحف لأفعلن ، أو : الكعبة يميني لأفعلنّ ؛
وقال الفراء : إن كان المبتدأ اسم معنى نحو : لعمرك وأيمن الله فجواب القسم : خبره ، ولا يحتاج إلى تقدير خبر آخر ، لأن : لعمرك : يمين ، ولأفعلن : يمين أيضا ، فهو هو ؛
وليس بشيء ، لأن العمر ، معناه البقاء فهو مقسم به ، و : لأفعلن ، مقسم عليه ، فكيف يكون هذا ذاك ، وكذا الكلام في : أمانة الله ، وأيمن الله ، ونحوه ؛
والمبتدأ المحذوف خبره ، إن اقترن بلام الابتداء ، نحو : لعمرك ولا يمن الله : وجب رفعه ؛
قال الجزولي : لم يسمع في لفظ «الله» إلا النصب أو الجر ، دون الرفع ، وجوّز الأندلسي الرفع قياسا ؛
__________________
(١) يعني أن التقدير مثلا : أيمن الله هو ما أقسم به ؛
(٢) الآية ٧٢ سورة الأحزاب ؛
(٣) أول سورة الشمس ؛
(٤) أول سورة الليل ؛
(٥) اول سورة الضحى ؛
وأيمن الله عند الكوفيين ، جمع يمين ، فهو مثل : يمين الله ، جعلت همزة القطع فيه وصلا ، تخفيفا لكثرة الاستعمال ، كما قال الخليل في همزة «أل» المعرّفة ؛ (١)
وعند سيبويه : هو مفرد مشتق من اليمن ، وهو البركة ، أي : بركة الله يميني ، وهمزته للوصل في الأصل ، والدليل عليه تجويز كسر همزته وإنما كان الأغلب فتح الهمزة لكثرة استعماله ، ويستبعد أن تكون الهمزة في الأصل مكسورة ثم فتحت تخفيفا ، لعدم «إفعل» بكسر الهمزة (٢) في الأسماء والأفعال ، ولذا قالوا في الأمر من : نصر : انصر بضم الهمزة ، ويستبعد أصالة «أفعل» في المفردات أيضا ، فيصدق ههنا قوله :
فأصبحت أنّى تأتها تشتجر بها |
|
كلا مركبيها تحت رجليك شاجر(٣) ـ ٥٠٢ |
وإذا تكررت الواو بعد واو القسم ، نحو قوله تعالى : (وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى ، وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى)(٤) ، فمذهب سيبويه والخليل (٥) ، أن المتكررة واو العطف وقال بعضهم هي واو القسم ، والأوّل أقوى ، وذلك لأنها لو كانت واو القسم لكانت بدلا من الباء ولم تفد العطف وربط المقسم به الثاني وما بعده بالأول ، بل يكون التقدير : أقسم بالليل ، أقسم بالنهار : أقسم بما خلق ، فهذه ثلاثة أيمان كل واحد منها مستقل ، وكل قسم لا بدّ له من جواب ، فتطلب ثلاثة أجوبة ؛ فإن قلنا حذف جوابان استغناء بما بقي بعد الحذف ، فالحذف خلاف الأصل ، وإن جعلنا هذا الواحد جوابا للمجموع ، مع أن كل واحد منها ، لاستقلاله ، يطلب جوابا مستقلا ، فهو ، أيضا ، خلاف الأصل ، فلم يبق إلا أن نقول : القسم شيء واحد ، والمقسم به ثلاثة ، والقسم هو الطالب للجواب ، لا المقسم به ، فيكفيه جواب واحد ،
__________________
(١) انظر باب المعرفة والنكرة في الجزء الثالث ؛
(٢) أي بكسر الهمزة وضم العين ؛
(٣) تقدم هذا الشاهد في باب الظروف المبنية ، في الجزء الثالث ، وهو من شعر لبيد بن ربيعة ، ومن شواهد سيبويه ج ١ ص ٤٣٢ والقصد منه هنا أن اعتبار أيمن مفردا يوقع في إشكال سواء فتحت الهمزة أو كسرت ؛
(٤) الآيتان الأولى والثانية من سورة الليل ؛
(٥) في سيبويه ج ٢ ص ١٤٦ ؛
فكأنه قال : (أقسم بالليل والنهار وما خلق) (١) ، أي أقسم بهذه الثلاثة : ان الأمر كذا ، وأيضا ، فانك تقول مصرحا بالعطف : بالله فالله لأفعلن ، وبحياتك ثم حياتك لأفعلن ، ولا تقول : أقسم بالله ، أقسم بالنبي صلّى الله عليه وسلّم لأفعلنّ ، والحمل على ما ثبت في كلامهم أولى ،
واعترض على كون واو العطف ، بلزوم العطف على عاملين ، لأن النهار اذن ، يكون معطوفا على الليل ، (إِذا تَجَلَّى ،) معطوف على : (إِذا يَغْشى ،) والعاطف واحد (٢) ؛
أجاب جار الله (٣) بأن قال : الواو كأنها عوض عن حرف القسم وفعله معا ، وذلك لأنه ، لكثرة ما استعمل في القسم ، لم يستعمل الفعل معه ، فصار ، لمّا لم يجامع الفعل ، كأنه عوض من الفعل ، أيضا ، كما أنه عوض من الحرف ، فقوله : والنهار ، كأنه معطوف على عامل واحد ، هو الواو ؛
قال المصنف : فيلزم على هذا : ألّا يجيز : بالليل إذا يغشى والنهار إذا تجلى ، وقد جاء قوله تعالى : (فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ ، الْجَوارِ الْكُنَّسِ ، وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ)(٤) ، فقوله تعالى : (وَاللَّيْلِ ،) وإن لم يكن قبله معمولان ، إلا أنه يكون الواو فيه قائمة مقام أقسم والباء ؛ حتى كأنه يجرّ وينصب ، وهو المحذور ؛
وقال المصنف : إنما جاز هذا ، لأنه مثل : انّ في الدار زيدا والحجرة عمرا ، كما مرّ في باب العطف ؛
وعلى ما قدّمنا في باب الظروف المبنية : ان التقدير : وعظمة الليل (إِذا يَغْشى ،) فالعامل في الليل ، في الحقيقة ، هو العظمة المقدّرة ، وكذا في : (إِذا يَغْشى ،) فيكون الواو قائما
__________________
(١) الآية ٤ في سورة الليل ؛
(٢) انظر بحث العطف على معمولي عاملين في الجزء الثاني ؛
(٣) انظر شرح ابن يعيش على المفصل ج ٨ ص ٣٢ وما بعدها ؛
(٤) الآيات ١٥ ، ١٦ ، ١٧ في سورة التكوير ؛
مقام العظمة ، وهي عامل واحد ، فيكون التقدير : بعظمة الليل وقت عسعسته (١) ، فالعامل في المجرور والمنصوب شيء واحد ؛
واعلم أن القسم على ضربين : إمّا قسم السؤال ، وهو : نشدتك الله ، وعمّرتك الله ، وعمرك الله ، وقعدك الله ، وبالله ، لتفعلنّ ؛ وقد يستعمل «لعمرك» في قسم السؤال ، فجواب قسم السؤال : أمر أو نهى ، أو استفهام كقوله :
٧٩٤ ـ بدينك هل ضممت إليك ليلى |
|
قبيل الصبح أو قبّلت فاها (٢) |
ويجاب بإلّا ، ولمّا ، أيضا ، نحو : نشدتك بالله الّا فعلت ، أو : لمّا فعلت ، وقد مضى في باب الاستثناء (٣) ؛
وقوله :
فعيدك ألّا تسمعيني ملامة |
|
ولا تنكئي قرح الفؤاد فييجعا (٤) ـ ٨٥ |
أن فيه زائدة ؛
وربما قيل في قسم الطلب ، أيضا : لتفعلنّ ، ولنفعلنّ ، فيكون خبرا بمعنى الأمر ؛
قوله : «ويتلقّى القسم باللام ، وإنّ ، وحروف النفي» ، معنى يتلقّى : أي يستقبل ، والمعنى : يجاب القسم ؛ يقال : تلقّاه بكذا واستقبله به ، أي أجابه به ؛
اعلم أن جواب القسم : إمّا اسمية أو فعلية ، والاسمية إمّا مثبتة ، أو منفية ؛ فالمثبتة تصدّر بإنّ مشدّدة ، أو مخففة ؛ أو باللام ، وهذه اللام : لام الابتداء المفيدة للتأكيد ، لا فرق بينها وبين «إنّ» ، إلّا من حيث العمل ؛
__________________
(١) المناسب للشرح أن يقول بعظمة الخنس والكنس والليل وقت عسعسته ؛
(٢) مما نسب إلى مجنون بني عامر : قيس بن الملوّح ،
(٣) في الجزء الثاني ؛
(٤) تقدم ذكره في باب المفعول المطلق في الجزء الأول ؛
وإنما أجيب القسم بهما لأنهما مفيدان للتأكيد الذي لأجله جاء القسم ، واللام الداخلة بعد «إنّ» المكسورة ، في الأصل لام الابتداء ، أيضا ، كما يجيء في باب «إنّ» ، فلا؟؟؟ هذه اللام ، أعني لام جواب القسم ، إلا على ما تدخل عليه اللام الواقعة بعد «إنّ» ؛
؟؟؟ ب الكوفيين أن اللام في مثل ، لزيد قائم ، جواب القسم أيضا ، والقسم قبله مقدر ، فعلى هذا ، ليس في الوجود ، عندهم ، لام الابتداء ، قالوا : لأنك تقول : لطعامك زيد آكل ، فقد دخلت على غير المبتدأ ؛
وأجيب بأنها في التقدير داخلة على المبتدأ ؛ وردّ عليهم بنحو : ظننت لزيد قائم ، ولام القسم لا مدخل له بعد «ظننت» المفيد للشك ،
ويجوز أن يعتذروا بأن الظن الغالب قائم مقام العلم ، فهو مثل قولهم : يعلم الله إن زيدا قائم ، بكسر «إن» ، ولهذا قال بعضهم : ان قوله تعالى : (وَظَنُّوا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ)(١) : «ظنوا» كالقسم ، و : ما لهم جوابه ، وليس بنصّ ، إذ يحتمل التعليق ؛ بلى ، لو جاء مثل : ظننت لقد فعل ، لكان نصّا في إجراء ظننت مجرى القسم (٢) ؛
ثم نقول : ان الأولى كون اللام في : لزيد قائم : لام الابتداء ، مفيدة للتأكيد ، ولا نقدّر القسم كما فعله الكوفية ، لأن الأصل : عدم التقدير ، والتأكيد المطلوب من القسم : حاصل من اللام ؛
ثم انها لا تجامع حرف النفي ، وإن جاز أن تؤكد الجملة التي في خبرها حرف النفي نحو : لزيد ما هو قائم ، ولا يقال : لما زيد قائم ، وذلك لأن اللام للتقرير والإثبات ، وحرف النفي للرفع والإزالة ، فبينهما في ظاهر الأمر تناف ؛ وأمّا قولك : لزيد ما هو قائم ، وإن زيدا لم يقم ، فإنّ ، واللام : أثبتا نفي مضمون الجملة بلا مجامعة بين الحرفين ؛
__________________
(١) الآية ٤٨ سورة فصلت ؛
(٢) لأنه لا يكون من التعليق بسبب وجود قد بعد اللام ؛
ثم إن لام الابتداء تدخل على المضارع لمشابهته للمبتدأ في كونه أول جزأي الجملة مثله مع مضارعته لمطلق الاسم ؛ قال المتلمس :
٧٩٥ ـ لأورث بعدي سنة يقتدى بها |
|
وأجلو عمى ذي شبهة إن توهّما (١) |
وتدخل على مضارع مصدّر بحرف التنفيس نحو : (وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ)(٢) ، خلافا للكوفيين ، كما مرّ ؛ ولا تدخل على الماضي وإن كان أوّل جزأي الجملة ، لبعده عن مشابهة الاسم ، فإذا دخله «قد» ، كثر دخول لام الابتداء عليه ، نحو : (لَقَدْ سَمِعَ)(٣) ، و : (وَلَقَدْ آتَيْنا)(٤) ، وذلك لأنها تقرّب الماضي من الحال ، فتصيّر الماضي كالمضارع ، مع تناسب معنى اللام ومعنى «قد» ، لأن في «قد» ، أيضا ، معنى التحقيق والتأكيد ؛
وتدخل ، أيضا ، لام الابتداء ، على خبر المبتدأ ، إذا وقع موقع المبتدأ ، أي تقدّم عليه نحو : لقائم زيد ، ولفي الدار زيد ، وعلى معمول خبر المبتدأ ، أيضا ، إذا وقع موقع المبتدأ ، نحو : لطعامك زيد آكل ، ولفي الدار زيد قائم ، بشرط كون العامل اسما ، كما ذكرنا ؛ أو فعلا مضارعا نحو : لطعامك زيد يأكل ؛ أو ماضيا مع «قد» نحو : لطعامك زيد قد أكل ، ولا يقال : لطعامك زيد أكل ،
ولا تدخل على غير ما ذكرنا ، من حرف الشرط وغيره ؛ وإنما تدخل على نعم وبئس ، وإن كانا في الأصل ماضيين ، بلا «قد» ، لما ذكرنا في بابهما من صيرورتهما بمعنى الاسم ، فقولك : لنعم الرجل زيد ، كقولك : لحسن زيد ؛
__________________
(١) هذا أحد أبيات من قصيدة جيدة من شعر المتلمس كما قال الشارح ، واسمه جرير بن عبد المسيح وكان عمرو بن هند ملك الحيرة سأل خال المتلمس عن نسب المتلمس فأجابه الحارث بما يشكك في نسبه ، وكان لذلك أثره في نفس المتلمس فقال هذه القصيدة التي ضمنها عتابا لخاله وفخرا بأمه حيث يقول :
وهل لي أم غيرها إن ذكرتها |
|
أبى الله إلا أن أكون لها ابنما |
(٢) الآية ٥ سورة الضحى ؛
(٣) الآية ١٨١ سورة آل عمران ؛
(٤) من الآية ١٠ سورة سبأ ؛
وإذا وقع لام الابتداء بعد «إنّ» ، جاز وقوعها في غير هذه المواقع أيضا ، نحو : خبر المبتدأ المؤخر ، نحو ان زيدا لقائم ، كما يجيء في باب «إنّ» ؛
واللام في جميع ما ذكرنا ليست جوابا لقسم مقدر ، خلافا للكوفية ، بل هي لام الابتداء ؛
والاسمية المنفية مصدّرة بما ، معملة عند أهل الحجاز ، مهملة عند غيرهم أو بلا التبرئة ، على اختلاف أحوالها ، نحو : والله لا زيد فيها ولا عمرو ، و : والله لا رجل في الدار ، و : والله لا فيها رجل ولا امرأة ؛ وإمّا مصدّرة بإن نحو : والله إن زيد قائم ؛
وإن كانت الجملة فعلية ، فإن كان الفعل مضارعا مثبتا ، فالأكثر تصديره باللام وكسعه (١) بالنون ، نحو : لأضربنّ ، الّا أن تدخل اللام على متعلق للمضارع مقدّم عليه ، كقوله تعالى : (وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللهِ تُحْشَرُونَ)(٢) ؛ فإن فيه اللام فقط ؛ وكذا إن دخل على حرف التنفيس ، نحو : والله لسوف أخرج ، فلا يؤتى بالنون ، اكتفاء بإحدى علامتي الاستقبال عن الأخرى ، وقلّ خلوّ المضارع من اللام ، اكتفاء بالنون ، وقد جاء :
٧٩٦ ـ وقتيل مرّة أثأرنّ فإنه |
|
فرع وإن أخاهم لم يقصد (٣) |
ولا يجوز عند البصريين الاكتفاء باللام عن النون إلا في الضرورة ، والكوفيون أجازوه
__________________
(١) الكسع : الضرب بالرجل على مؤخرة الانسان ، ويستعمل الرضي هذا الفعل مريدا به إضافة شيء إلى ما قبله ، ويريد هنا ضم نون التوكيد إلى آخر الفعل المبدوء باللام ؛
(٢) الآية ١٥٨ سورة آل عمران ؛
(٣) من قصيدة لعامر بن الطفيل قالها في ذكر ما حدث يوم الرقم ، يوم من أيام العرب ، منها الشاهد رقم ١٦٢ المتقدم في الجزء الأول باب المفعول فيه وهو قوله :
فلأبغينكم قنا وعوارضا |
|
ولأقيلنّ الخيل لابة ضرغد |
والمراد بقتيل مرة : أخوه الحكم بن الطفيل ، قالوا انه شنق نفسه على شجرة في هذا اليوم خوفا من الأسر ، وفرغ بالغين المعجمة أي ذهب دمه هدرا لم يقتل به أحد ، لأنه قتل نفسه ، أو بالعين المهملة ومعناه الشريف العالي المنزلة في قومه ؛ ولهذا اليوم قصة طويلة ، ذكرها البغدادي وأورد كثيرا من أبيات القصيدة ؛
بلا ضرورة ؛ ويحكى عن أبي علي موافقتهم في تجويز التعاقب بين اللام والنون ، قال :
٧٩٧ ـ تألّى ابن أوس حلفة ليرّدني |
|
إلى نسوة كأنهن مفائد (١) |
بفتح اللام وضم الدال ، ويروى : ليردّني بكسر اللام ونصب الدال ،
وبعض العرب يكسر لام القسم الداخلة على الفعل المضارع نحو : والله لتفعلنّ ، هذا كله إن كان المضارع استقبالا ، فإن كان حالا ، فالجمهور جوّزوا وقوعه جوابا للقسم ، خلافا للمبرد ؛ وذلك لأنه متحقق الوجود ، فلا يحتاج إلى تأكيده بالقسم كما مرّ في المضارع ، والأولى الجواز ، إذ ربّ موجود غير مشاهد ، يصح إنكاره. وأنشد الفراء :
٧٩٨ ـ لئن تك قد ضاقت عليكم بيوتكم |
|
ليعلم ربّي أن بيتي واسع (٢) |
وتقول : والله ليصلّي زيد ، فيجب الاكتفاء باللام ، ولا يؤتى بالنون لأنها علامة الاستقبال ، كما مرّ في المضارع ؛
وإن كان المضارع منفيا فنفيه بما ، وإن ، ولا ، على ما مضى ، لكن «ما» و «إن» إذا لم يتقيّدا بالزمان المستقبل فظاهرهما نفي الحال على ما تقدم في الأفعال الناقصة ؛ فالمبرد لا يجوّز : والله ما أقوم ، وإن أقوم ، لكونه ، إذن ، ظاهرا في الحال ، ومذهبه أن المقسم عليه لا يكون حالا ؛
ولا يجوز نفي المضارع بلم ، ولن ، في جواب القسم ، لأنهم ينفونه بما يجوز حذفه للاختصار ، كما يجيء ، والعامل الحرفي لا يحذف مع بقاء عمله ، وإن أبطلوا العمل لم يتعيّن النافي المحذوف ؛
__________________
(١) قاله زيد الفوارس الضبي ، من أبيات أوردها أبو تمام في الحماسة. وابن أوس خصم لزيد ، تألى أي حلف حلفة : ليردني أي يأسرني ويدفعني إلى نسوة كأنهن أسياخ الحديد التي يشوى عليها اللحم ، وهو معنى مفائد جمع مفاد وهو السفود ؛
(٢) من شعر الكميت بن معروف شاعر أدرك الإسلام ، وهو غير الكميت بن زيد الشاعر صاحب الهاشميات التي مدح بها آل البيت ، ونسبة البيت إلى الكميت بن معروف نقلها الفراء عن الكسائي ؛
وإن كان الفعل ماضيا مثبتا ، فالأولى الجمع بين اللام و «قد» نحو : والله لقد خرج ؛
وأمّا في نعم وبئس ، فباللام وحدها ، إذ لا يدخلهما «قد» لعدم تصرفهما ، قال :
يمينا ، لنعم السيدان وجدتما |
|
على كل حال من سحيل ومبرم (١) ـ ٧٤٥ |
وإن طال الكلام أو كان ضرورة الشعر ، جاز الاقتصار على أحدهما ، قال تعالى في الاستطالة : (وَالشَّمْسِ وَضُحاها) ، إلى قوله : (قَدْ أَفْلَحَ)(٢) ، فلم يأت باللام ، للطول ، وقال الشاعر :
٧٩٩ ـ حلفت لها بالله حلفة فاجر |
|
لتاموا فما إن من حديث ولا صال (٣) |
ويجب تقدير «قد» بعد اللام ، لأن لام الابتداء لا تدخل على الماضي المجرد كما مرّ ، والاقتصار على اللام أكثر من العكس ؛
وأمّا نحو قوله :
٨٠٠ ـ وأقسم أن لو التقينا وأنتم |
|
لكان لكم يوم من الشر مظلم (٤) |
فمذهب سيبويه (٥) : أنّ «أن» موطئة كاللام في : لئن جئتني لأكرمنّك ، فاللام في : لكان ، إذن ، جواب القسم ، لا جواب «لو» ، فيكون جواب القسم في قوله :
٨٠١ ـ وأقسم لو شيء أتانا رسوله |
|
سواك ، ولكن لم نجد لك مدفعا (٦) |
__________________
(١) تقدم هذا الشاهد في أفعال المدح والذم ، في هذا الجزء ؛
(٢) من أول سورة الشمس إلى أول الآية ٩ منها ؛
(٣) من قصيدة امرئ القيس التي أولها : الاعم صباحا أيها الطلل البالي ، ومن أبياتها عدد من الشواهد في هذا الشرح ؛
(٤) للمسيّب بن علس يخاطب بني عامر بن ذهل من أبيات يذكر فيها ما بينهم من العداوة ؛
(٥) سيبويه ج ١ ص ٤٥٥ وفيه الشاهد المتقدم ؛
(٦) من قصيدة لامرئ القيس ويروى : وجدّك لو شيء .. وجواب القسم في بيت بعده وهو :
إذن لرددناه ، ولو طال مكثه |
|
لدينا ولكنا بحبك ولّعا |
وجملة ولكن لم نجد لك مدفعا. معترضة بين القسم وجوابه أو بين لو الشرطية وجوابها ؛
محذوفا ، وسيجيء الكلام عليه في حروف الشرط.
وإن كان الماضي منفيا ، فبما ، نحو : والله ما قام ، وأمّا إن نفي بلا ، وإن (١) انقلب إلى معنى المستقبل كما ذكرنا في باب الماضي قال :
حسب المحبين في الدنيا عذابهم |
|
تالله لا عذّبتهم بعدها سقر (٢) ـ ٦١٤ |
أي لا تعذّبهم ، فلا (٣) يلزم تكرير «لا» ، كما لا يلزم تكريرها إذا كانت في الماضي الذي للدعاء نحو : لا رحمه الله ، وذلك لأن الماضي في الموضعين ، بمعنى المستقبل ؛ وفي غيرهما يجب تكريرها ، نحو : (فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى)(٤)
وربّما جاءت في الشعر غير مكررة ، كقوله :
٨٠٢ ـ وأيّ أمر سيّئ لا فعله (٥)
وأمّا قوله تعالى : (فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ)(٦) ، فإنما لم يكرر فيه ، لتكرير تفسير العقبة ؛ وهو قوله : (فَكُّ رَقَبَةٍ)(٧) ، إلى آخره ، فكأنه قال : لا فكّ رقبة ولا أطعم مسكينا ؛
وإن كان المقسم عليه جواب شرط مستقبل ، وقبل ذلك الشرط قسم ، قرنت أداة الشرط ، كثيرا ، بلام مفتوحة تسمّى موطّئة ، أي : ممهّدة ، ومعيّنة لكون الجواب للقسم ،
__________________
(١) جملة معترضة ، لأن نفي الماضي المقصود به الدعاء يحوله إلى مستقبل ؛
(٢) تقدم في الفعل الماضي أول هذا الجزء ؛
(٣) جواب قوله وإن كان الماضي منفيا .. الخ ؛
(٤) الآية ٣١ سورة القيامة ؛
(٥) قائله شهاب بن العيف العبدي ، شاعر جاهلي أمره المنذر الأكبر أن يهجو الحارث بن جبلة فقال :
لا همّ إن الحارث بن جبلة |
|
زنّا على أبيه ثم قتله .. الخ |
زنا بتشديد النون معناه ضيّق عليه حتى قتله ، أو مضعف من الزنا ، يتهمه بأنه زنى بامرأة أبيه ثم قتله ؛ وفيه توجيهات أخرى ذكرها البغدادي ؛ وقد أسره الحارث وانتقم منه ؛
(٦) الآية ١١ سورة البلد ؛
(٧) الآية ١٣ سورة البلد ؛
لا للشرط ، نحو قولك : والله لئن أتيتني لآتينك ، ويجوز : والله إن تأتني لآتينك ، بلا لام ؛
فإن حذف القسم وقدّر ، فالأكثر : المجيء باللام الموطئة ، تنبيها على القسم المقدّر من أول الأمر ؛
وقد يجيء من غير لام كقوله تعالى : (وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ)(١) ،
وإن تقدم القسم على الشرط الماضي ، وهو ما يكون بلو ، فسيجيء حكمه في حروف الشرط ؛
ويجوز حذف النافي من المضارع الذي هو جواب القسم ، ولا يجوز من الماضي ، والاسمية ، سواء كان المضارع : لا يزال وأخواته ، أو غيرها ، قال :
٨٠٣ ـ فقلت يمين الله أبرح قاعدا |
|
ولو قطعوا رأسي لديك وأوصالي (٢) |
وقال :
٨٠٤ ـ تالله يبقى على الأيام ذو حيد |
|
بمشمخرّ به الظيّان والآس (٣) |
وإنما لم يحذف من الاسمية ، لأنها أقل استعمالا في جواب القسم من الفعلية ، والحذف لأجل التخفيف ، وحذف من المضارع دون الماضي ، لكونه في القسم أكثر استعمالا منه ، مع أنّ لفظ المضارع أثقل ، ومن ثمّ جاز حذف حرف النفي في غير القسم من : لا يزال وأخواته ، قال :
__________________
(١) من الآية ١٢١ سورة الأنعام ؛
(٢) من قصيدة امرئ القيس التي تقدمت الإشارة إليها قريبا وذكرنا أن من أبياتها عددا من الشواهد في هذا الشرح ؛
(٣) من قصيدة من جيّد شعر أبي ذؤيب الهذلي ونسبها بعضهم إلى ساعدة بن جؤية الهذلي وهي في ديوان أشعار الهذليين ، وأولها :
يا ميّ ان تفقدي قوما ولدتهم |
|
أو تخلسيهم فإن الدهر خلّاس |
وهو في سيبويه ج ٢ ص ١٤٤ برواية لله على أن اللام حرف قسم ، والمراد بذي الحيد : الوعل المتحصن بشواهق الجبال ، والظبيان والآس من أنواع الزهور الجبلية ؛
تنفك تسمع ما حييت |
|
بها لك حتى تكونه (١) ـ ٧١٧ |
وإنما جاز فيها خاصة ، للزوم النفي إيّاها فلا يلتبس بالإيجاب ؛
وأما قوله :
فلا وأبي دهماء ، زالت عزيزة |
|
على قومها ، ما فتّل الزند قادح(٢) ـ ٧١٦ |
فلم يحذف النافي ، بل فصل بينه وبين الفعل ، كما مرّ في الأفعال الناقصة ،
وإنما جاز حذف علامة النفي في المضارع دون علامة الإثبات ، لأنها تكون في الأغلب علامتين : اللام والنون ، كما ذكرنا ، فحذف إحداهما يستلزم حذف الأخرى ، فيكثر الحذف ؛
وإنما حكم بأن المحذوفة من المضارع «لا» ، دون «ما» لأنها أكثر استعمالا في نفي المضارع من «ما» ؛
قوله : «ويحذف جوابه ، إذا اعترض ، أو تقدم ما يدل عليه» ، أي إذا اعترض القسم ، أي توسّط الكلام ، نحو : زيد والله قائم ، و : قام والله زيد ، وفي نهج البلاغة : «قد والله ، لقوا الله» (٣) ؛
قوله : «أو تقدمه ما يدل عليه» ، نحو : زيد قائم ، والله ، و : قام زيد والله ، وهذا الكلام الذي توسطه القسم ، أو تأخر عنه ، هو من حيث المعنى جواب القسم ، وهو كالعوض من ذلك الجواب ، مثل جواب الشرط في : أكرمك أن تأتني ، كما مرّ في بابه (٤) ؛
__________________
(١) تقدم في الأفعال الناقصة بهذا الجزء ؛
(٢) كالذي قبله تقدم في الأفعال الناقصة ؛
(٣) من خطبة لعلي رضي الله عنه تحدث فيها عن شهداء صفين ، ص ٢١٢ من نهج البلاغة طبع دار الشعب بالقاهرة ؛
(٤) في هذا الجزء عند الكلام على الجوازم ؛
وقد يجيء بعد الجملة الاسمية قرينة دالة على الجواب ، فيحذف ، وليست من حيث المعنى بجواب كالمذكورين ، وذلك كقوله تعالى : (وَالْفَجْرِ. وَلَيالٍ عَشْرٍ)(١) ، أي : ليؤخذنّ ، وليعاقبنّ ، لدلالة قوله : (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ)(٢) ، الآية ، عليه (٣) ؛
وقد تحذف الجملة القسمية ، لكون ظرف من معمولات الفعل الواقع جوابا ، دالّا عليها ، نحو : لا أفعله عوض ، وعوض العائضين ، وإنما كان كذلك لكثرة استعمال «عوض» مع القسم ، مع أن معناه : أبدا ، والبتّة ، ففيه من التأكيد ما يفيد فائدة القسم ، ولأجل إفادته فائدته قد يقدّم على عامله قائما مقام الجملة القسمية وإن كان عامله مقترنا بحرف يمنع عمله فيما تقدمه ، كنون التأكيد و «ما» ، فيقال : عوض لآتينك ، وعوض ما آتيك لغرض سدّه مسدّ القسم ؛ كما يجيء في حروف الشرط نحو : أمّا يوم الجمعة فإن زيدا قادم ، وقد يستعمل في غير القسم كقوله :
٨٠٥ ـ هذا ثنائي بما أوليت من حسن |
|
لا زلت عوض قرير العين محسودا (٤) |
ويقوم مقام الجملة القسمية ، أيضا ، بعض حروف التصديق ، وهو : «جير» بمعنى «نعم» ، والجامع (٥) : أن التصديق توكيد وتوثيق كالقسم ، تقول : جير ، لأفعلنّ ، كأنك قلت : والله لأفعلنّ ؛ وهي مبنيّة على الكسر ، وقد تفتح ككيف ، وليست اسما بمعنى «حقّا» خلافا لقوم ، وبناؤهما عندهم ، لموافقة «جير» الحرفية لفظا ومعنى ؛ ولا يكفي في البناء : الموافقة اللفظية ، ألا ترى إعراب «إلى» بمعنى النعمة ؛
__________________
(١) الآيتان : الأولى والثانية من سورة الفجر ؛
(٢) الآية ٦ من سورة الفجر ؛
(٣) متعلق بقوله : لدلالة ؛ يعني أن الآية : ألم تر كيف دليل على جواب القسم الذي قدره ؛
(٤) من أبيات قالها ربيعة بن مقروم الضبيّ في مدح مسعود بن سالم بن أبي سلمى ، وكان ربيعة قد وقع فى الأسر وأخذ ماله مخلصه مسعود وردّ إليه ماله فقال هذه الأبيات التي يقول فيها : متحدثا عن راحلته.
لما تشكت إلي الأين قلت لها |
|
لا تستر بحين ما لم ألق مسعودا |
وحتمها بالبيت المستشهد به.
(٥) أي الوجه المشترك بين القسم وبعض حروف التصديق التى يقوم مقامه
وقد يؤتى بها دون قسم ، قال :
٨٠٦ ـ وقلن على الفردوس أوّل مشرب |
|
أجل جير إن كانت أبيحت دعاثره (١) |
وربما نوّنت ضرورة ، قال :
٨٠٧ ـ وقائلة أسيت فقلت جير |
|
أسيّ ، إنني من ذاك ، انّه (٢) |
وبه استدلّ من ذهب إلى اسميته ؛
قال عبد القاهر : هو اسم فعل ، بمعنى أعترف ؛ ولا يتعذّر ما ارتكبه في جميع حروف التصديق ؛
وقد يستغنى بذكر القسم عن ذكر المقسم به كقوله :
وأقسم لو شيء أتانا رسوله ... (٣) ـ ٨٠١
أي : أقسم بما يقسم به ؛
ويستغنى ، كثيرا ، عن القسم بجوابه ، إن أكّد بالنون ، نحو : لأضربنّك ، لأن النون لها مواضع ، كما يجيء ، ولا تجيء في الخبر الصّرف ، نحو : تضربنّ زيدا ، وأمّا
__________________
(١) من أبيات لمضرّس بن ربعيّ الأسدي أولها :
تحمّل عن ذات التنانير أهلها |
|
وقلّص عن نهى الدفينة حاضره |
ذات التنانير موضع ، ونهى الدفينة اسم ماء بموضع اسمه الدفينة. والضمير في قلن على الفردوس : للنسوة ، أي أنهن قلن ان ارتحلنا عن هذا الماء فإن أول ماء نرده هو الفردوس ، وهو ماء لبني تميم ، والدعاثر : الحياض المتهدمة. مفردها دعثور ، وقياسه في الجمع دعاثير ؛ وفي رواية للبيت الشاهد : وقلن ألا الفردوس .. على أن ألا استفتاح والفردوس مبتدأ خبره : أول مشرب ؛
(٢) أحد أبيات أنشدها يعقوب بن السكيت وشرحها ولم ينسبها هو ولا غيره وهي في التحسر على قوم ماتوا قبل الشاعر ، ومعنى البيت : رب سائلة تقول لي حزنت فقلت نعم : أسيّ أي أنا أسيّ ، وقوله انني من ذاك ، إما تقديره أنني أسيّ من أجل ذلك ، أو معناه : أنني من ذلك الأسى أي مخلوق منه ، وقوله انه في الآخر بمعنى نعم فهو تأكيد للجواب ، أو تقديره : انه كذلك فتكون الهاء : اسم إنّ ؛
(٣) بيت امرئ القيس المتقدم ؛
نحو : (لَقَدْ سَمِعَ اللهُ)(١) ولزيد قائم ، فلم يقم دليل على كونهما جوابي القسم ، خلافا للكوفيين ، كما تقدم ؛
وقد يقوم مقام القسم : حقّا ، ويقينا ، وقطعا ، وما أشبهها ، نحو : حقا لأفعلنّ ؛ وكذا «كلّا» ، إذا لم يكن ردعا نحو : (كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ)(٢) وكذا الالتزام ؛ إما نذر ، نحو : لله عليّ كذا لأفعلنّ ، أو : عهد ، نحو : عاهدت الله لأفعلنّ ، وعليّ عهد الله لأقومنّ ؛
[بقية حروف الجر]
[عن ، على ، الكاف ، مذ ومنذ ،]
[حاشا وعدا وخلا]
[قال ابن الحاجب :]
«وعن للمجاوزة ، وعلى للاستعلاء ، وقد يكونان اسمين»
«بدخول من ، والكاف للتشبيه ، وزائدة ، وقد تكون اسما ،»
«ومذ ومنذ للزمان : للابتداء في الماضي والظرفية في الحاضر ،»
«نحو : ما رأيته مذ شهرنا ومذ يومنا ، وحاشا وعدا وخلا»
«للاستثناء» ؛
[قال الرضي :]
قوله : «وعن للمجاوزة» ، أي لبعد شيء عن المجرور بها بسبب إيجاد مصدر المعدّى بها ؛ نحو : رميت عن القوس ، أي : بعد السهم عن القوس بسبب الرّمي ؛ وكذا ، أطعمه
__________________
(١) الآية ١٨١ سورة آل عمران ؛
(٢) الآية ٤ سورة الهمزة ؛
عن الجوع ، أي : بعّده عن الجوع بسبب الاطعام ، وكذا : أدّيت الدّين عن زيد ؛ وقولهم : رويت عنه علما ، وأخذته عنه : مجاز ، كأنك نقلته عنه ؛ وقولك : جلست عن يمينه ، أي : تراخيت عن موضع يمينه بالجلوس ؛ وقوله تعالى : (يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ)(١) ، مضمّن معنى : يتجاوزون ، و : (طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ)(٢) ، أي طبقا متجاوزا في الشدّة عن طبق آخر دونه في الشدّة ، فيكون كل طبق أعظم في الشدّة ممّا قبله ، وقوله : عن طبق ، صفة لطبقا ، وليس المراد : طبقين فقط ، بل المقصود حنس أطباق ، كل واحد منها أعظم من الآخر ، فهو مثل التثنية في لبّيك ، وقوله تعالى : (كَرَّتَيْنِ)(٣) ، والمراد في الكل : التكثير والتكرير ، فاقتصر على أقلّ مراتب التكرير وهو الاثنان ؛ تخفيفا ، وكذا قولهم :
٨٠٨ ـ ورث السيادة كابرا عن كابر (٤)
أي كابرا متجاوزا في الفضل عن كابر آخر ، وقال بعضهم : أي كابرا بعد كابر ، والأولى : إبقاء الحروف على معناها ما أمكن ؛
وقوله :
لاه ابن عمك لا أفضلت في حسب |
|
عي ولا أنت ديّاني فتخزوني (٥) ـ ٥١١ |
ضمّن فيه «أفضلت» معنى : تجاوزت في الفضل ؛
__________________
(١) الآية ٦٣ سورة النور ؛
(٢) الآية ١٩ سورة الانشقاق ؛
(٣) الآية ٣ سورة الملك ؛
(٤) صدر بيت ورد بلفظ : ورث ، في شعر الفرزدق وتمامه : ضخم الدسيعة كلّ يوم فخار. وورد بلفظ : ورثوا ، في قصيدة لكعب بن زهير في مدح الأنصار ، حيث عتبوا عليه بعد أن أشاد بالمهاجرين في قصيدته بانت سعاد ، فأنشأ قصيدة خاصة في مدحهم ، يقول فيها :
من سرّه كرم الحياة فلا يزل |
|
في مقنب من صالحي الأنصار |
ورثوا السيادة كابرا عن كابر |
|
إن الخيارهم بنو الأخيار |
(٥) من قصيدة لذي الأصبع العدواني ، وتقدم الاستشهاد به في باب الظروف المبنية ، الجزء الثالث ؛