شرح الرضيّ على الكافية

محمّد بن الحسن الرضي الاسترآبادي

شرح الرضيّ على الكافية

المؤلف:

محمّد بن الحسن الرضي الاسترآبادي


المحقق: يوسف حسن عمر
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: منشورات مؤسّسة الصادق
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥١٢

وفيه نظر ؛ لأن «أيمن» كما يجيء ، مختص بالله أو بالكعبة ، و «من» مختصة بلفظ «ربّي» ؛

ولا منع أن يقال : تغيّر حكمه عند اختصاره ؛ ويمكن أن يستدلّ ببنائه على أنه ليس محذوفا من «أيمن» المعرب ، لأن اختصار المعرب ورده إلى حرفين ، لا يوجب البناء ، كما في : يد ، ودم ؛

والأولى أن يقال إن ما روي من قولهم : من الله ، مضموم الميم والنون ، ومكسورهما مع لفظ «الله» وحدها : هي «من» الجارة ، المستعملة مع «ربي» ، اتبعت النون الميم ضما وكسرا ، للساكنين ؛

وأمّا : من الله بفتحتين ، فنقول : أصلها : من الله بكسر الميم وفتح النون ، اتبع الميم النون وإن كانت فتحتها عارضة للساكنين ، طلبا للتخفيف ، فعلى هذا ، «من» الجارة تختص في القسم بربّي ، أو بالله ،

وقيل : بل الثلاثة ، أي مضموم الميم والنون ومكسورهما ومفتوحهما مع لفظة «الله» مقصورة من أيمن ؛

أمّا اختصار : من الله بضمتين ، فظاهر ؛ وأما المكسورتهما والمفتوحتهما فلا أرى لكونهما مقصورتين منه وجها ، لأن «أيمن» ، عندهم واجب الرفع سماعا ، كما يجيء والقصر لا يوجب البناء ، فمن أين جاء كسر النون وفتحها ؛ بلى ، لو جاء أيمن الله على ثلاثة أوجه ، أي بالرفع والنصب والجر ، كما جاء يمين الله رفعا ونصبا عند الجميع ، وجرّا ، أيضا عند الكوفيين ، جاز أن يقال : أتبع الميم النون فتحا وكسرا ؛

ويجوز أن يكون : من الله بفتحتين ، مقصورا من : يمين الله بإتباع الميم للنون بعد القصر ، ولا يجوز أن يكون : من الله بكسرتين مقصورا من يمين الله بإتباع النون للميم ، لأن حركة الإعراب لا تزال لأجل الاتباع ؛

وأمّا : أيم الله بفتح الهمزة وكسرها مع ضم الميم ، فمقصوران من : أيمن الله ، بفتح الهمزة وكسرها ؛

٣٠١

وقد يقال : هيم الله بقلب الهمزة هاء مفتوحة ؛ وقد تحذف الياء مع النون ، فيقال : أم الله بفتح الهمزة وكسرها ؛ وكل ما قصر من أيمن لا يستعمل إلا مع لفظة «الله» ، ولا يستعمل مع الكعبة ، كما استعمل أيمن ، معها ، وقد يقال : م الله ، وم الله ، بضم الميم وكسرها مقصورتين من «من» و «من» على ما قال سيبويه ؛ وقيل : هما مقصورتان من أيمن ، ففي كسر الميم ، إذن ، إشكال ؛ وقيل : المكسورة مقصورة من يمين ، وقيل : هما بدلان من الواو ، كالتاء ، لكون الميم والواو شفهيتين فاختصا بلفظ الله كالتاء ؛ وفيه نظر ، لأن الكلمة التي على حرف ، لم تجئ في كلامهم مضمومة ؛

وإذا حذف حرف القسم الأصلي ، أعني الباء ، فإن لم يبدل منها ، فالمختار النصب بفعل القسم ، ويختص لفظ «الله» بجواز الجر مع حذف الجارّ بلا عوض ؛ والكوفيون يجوّزون الجر في كل ما حذف منه الجارّ من المقسم به وإن كان بلا عوض ، نحو : الكعبة لأفعلن ، و : المصحف لآتينّ ؛

ويختص لفظ «الله» بتعويض «ها» ، أو همزة الاستفهام من الجارّ ، وكذا يعوّض من الجارّ فيها : قطع همزة «الله» في الدرج ، فكأنها حذفت للدرج ثم ردّت عوضا من الحرف ؛

وجار الله (١) ، جعل هذه الأحرف بدلا من الواو ، ولعلّ ذلك لاختصاصها بلفظة «الله» كالتاء ، فإذا جئت بهاء التنبيه بدلا ، فلا بدّ أن تجيء بلفظ «ذا» بعد المقسم به نحو : لا ، ها الله ذا ، وإي ها الله ذا ، وقوله :

تعلّمن ها لعمر الله ذا قسما

فاقصد بذرعك وانظر أين تنسلك(٢) ـ ٤٠٠

والظاهر أن حرف التنبيه من تمام اسم الإشارة ، كما يأتي في حروف التنبيه ، قدّم على لفظ المقسم به عند حذف الحرف ، ليكون عوضا منه ؛

__________________

(١) أي الزمخشري وقوله هذا في المفصل الذي شرحه ابن يعيش ، في ج ٨ ص ٣٢ ؛

(٢) من شعر زهير بن أبي سلمى وتقدم في باب اسم الإشارة آخر الجزء الثاني ؛

٣٠٢

وإذا دخلت «ها» على «الله» ففيه أربعة أوجه ؛ أكثرها إثبات ألف «ها» وحذف همزة الوصل من «الله» فيلتقي ساكنان : ألف «ها» واللام الأولى من «الله» ، وكان القياس حذف الألف لأن مثل ذلك إنما يغتفر في كلمة واحدة ، كالضالّين ، أمّا في كلمتين ، فالواجب الحذف نحو : ذا الله ، وما الله ، إلا أنه لم يحذف ، في الأغلب ، ههنا ، ليكون كالتنبيه على كون ألف «ها» من تمام «ذا» ، فإن : ها الله ذا ، بحذف ألف «ها» ، ربما يوهم أن الهاء عوض عن همزة «الله» ، كهرقت ، في أرقت ، وهيّاك في إياك ؛

والثانية ، وهي المتوسطة في القلة والكثرة ، ها الله ذا ، بحذف ألف «ها» ، للساكنين ، كما في : ذا الله ، وما الله ؛ ولكونها حرفا ، كلا وما وذا ،

والثالثة وهي دون الثانية في الكثرة : إثبات ألف «ها» وقطع همزة «الله» مع كونها في الدرج ، تنبيها على أن حقّ «ها» ، أن يكون مع «ذا» بعد «الله» ، فكأن الهمزة لم تفع في الدرج ؛

والرابعة حكاها أبو علي ، وهي أقل الجميع : هألله ، بحذف همزة الوصل وفتح ألف «ها» للساكنين بعد قلبها همزة ، كما في : الضألّين ودأبّة ،

قال الخليل (١) : ذا من جملة جواب القسم ، وهو خبر مبتدأ محذوف ، أي : الأمر ذا ، أو فاعل ، أي : ليكوننّ ذا ، أو لا يكون ذا ؛ والجواب الذي يأتي بعده نفيا أو إثباتا ، نحو : ها الله ذا لأفعلنّ ، أو : لا أفعل : بدل من الأول ، ولا يقاس عليه ، فلا يقال : ها الله أخوك ، أي لأنا أخوك ونحوه ،.

وقال الأخفش : ذا ، من تمام القسم ، إمّا صفة لله ، أي : الله الحاضر الناظر ، أو مبتدأ محذوف الخبر ، أي : ذا قسمي ، فبعد هذا إما أن يجيء الجواب ، أو يحذف مع القرينة ؛

__________________

(١) نقله عنه سيبويه في الكتاب. ج ٢ ص ١٤٥ ؛

٣٠٣

وأمّا همزة الاستفهام ، فإما أن تكون للإنكار ، كقول الحجاج في الحسن البصري ، رحمه الله : آلله ليقومنّ عبد من العبيد فيقولنّ كذا وكذا ،

أو للاستفهام ، كما قال صلّى الله عليه وسلّم ، لعبد الله بن مسعود رضي الله عنه لمّا قال هذا رأس أبي جهل : آلله الذي لا إله غيره ؛

فإذا دخلت همزة الاستفهام على «الله» ، فإمّا أن تبدل الثانية ألفا صريحة ، وهو الأكثر ، أو تسهّل كما هو القياس في : آلرجل ، ونحوه (١) ، ولا تحذف للبّس ، ولا تبقى للاستثقال ؛

وأما قطع همزة «الله» ، فهو في مكان مخصوص ، وذلك إذا كان قبله فاء ، قبلها همزة الاستفهام ، تقول لشخص ، هل بعت دارك فيقول نعم ، فتقول : أفألله لقد كان كذا ؛ ويجوز دخول الفاء من غير استفهام نحو : فألله لقد كان كذا ؛ وهمزة الاستفهام ليست عوضا من حرف القسم ههنا ، للفصل بينها وبين «الله» بفاء العطف ؛

وعند الأخفش : الفاء : في : أفألله ، زائدة ؛

ودليل كون هذه الثلاثة أبدالا ، معاقبتها لحرف القسم ، ولزوم الجر معها دون النصب ، مع أن النصب بلا عوض أكثر ، كما تقدم ؛

واعلم أن الجملتين ، أعني القسم والجواب ، كالشرط والجزاء ، صارتا بقرينة القسم كجملة واحدة ؛

فإن كانت القسمية اسمية ، فإمّا أن يتعيّن الاسم الذي جعلته مبتدأ للقسم ، كأيمن الله ، ولعمرك ، أو ، لا ؛ فإن تعيّن وجب حذف الخبر ، كما مرّ في باب المبتدأ ، لدلالة

__________________

(١) ورد الوجهان المذكوران في قراءتين قرئ بهما قوله تعالى : (قُلْ آللهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ ؛) يونس ـ الآية ٥٦ ؛

٣٠٤

ذلك اللفظ على تعيّن الخبر وهو : «ما اقسم به» (١) ؛ وسدّ الجواب مسدّ الخبر ؛ وإن لم يتعيّن ، كأمانة الله وعهد الله ، ويمين الله ، جاز لك حذف الخبر وإثباته ، نحو ؛ أمانة الله ، ويمين الله وعهد الله لأفعلن ؛ والمراد بأمانة الله : ما فرض الله على الخلق من طاعته ، كأنها أمانة له تعالى عندهم ، يجب عليهم أن يؤدّوها إليه تعالى سالمة ، قال تعالى : (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ ..)(٢) الآية ، ومعنى يمين الله تعالى : ما حلف به تعالى من قوله : (وَالشَّمْسِ وَضُحاها)(٣) ، و : (وَاللَّيْلِ)(٤) و : (وَالضُّحى)(٥) ، ونحوها ، أو اليمين التي تكون باسمائه تعالى نحو : والله ورب الكعبة ، والخالق ، ونحو ذلك ، والمعنى : يمين الله يميني ، ويجوز إثبات الخبر ، نحو : عليّ أمانة الله ، وعليّ عهد الله ، وعليّ يمين الله ، وكذا تقول : الكعبة أو المصحف لأفعلن ، أو : الكعبة يميني لأفعلنّ ؛

وقال الفراء : إن كان المبتدأ اسم معنى نحو : لعمرك وأيمن الله فجواب القسم : خبره ، ولا يحتاج إلى تقدير خبر آخر ، لأن : لعمرك : يمين ، ولأفعلن : يمين أيضا ، فهو هو ؛

وليس بشيء ، لأن العمر ، معناه البقاء فهو مقسم به ، و : لأفعلن ، مقسم عليه ، فكيف يكون هذا ذاك ، وكذا الكلام في : أمانة الله ، وأيمن الله ، ونحوه ؛

والمبتدأ المحذوف خبره ، إن اقترن بلام الابتداء ، نحو : لعمرك ولا يمن الله : وجب رفعه ؛

قال الجزولي : لم يسمع في لفظ «الله» إلا النصب أو الجر ، دون الرفع ، وجوّز الأندلسي الرفع قياسا ؛

__________________

(١) يعني أن التقدير مثلا : أيمن الله هو ما أقسم به ؛

(٢) الآية ٧٢ سورة الأحزاب ؛

(٣) أول سورة الشمس ؛

(٤) أول سورة الليل ؛

(٥) اول سورة الضحى ؛

٣٠٥

وأيمن الله عند الكوفيين ، جمع يمين ، فهو مثل : يمين الله ، جعلت همزة القطع فيه وصلا ، تخفيفا لكثرة الاستعمال ، كما قال الخليل في همزة «أل» المعرّفة ؛ (١)

وعند سيبويه : هو مفرد مشتق من اليمن ، وهو البركة ، أي : بركة الله يميني ، وهمزته للوصل في الأصل ، والدليل عليه تجويز كسر همزته وإنما كان الأغلب فتح الهمزة لكثرة استعماله ، ويستبعد أن تكون الهمزة في الأصل مكسورة ثم فتحت تخفيفا ، لعدم «إفعل» بكسر الهمزة (٢) في الأسماء والأفعال ، ولذا قالوا في الأمر من : نصر : انصر بضم الهمزة ، ويستبعد أصالة «أفعل» في المفردات أيضا ، فيصدق ههنا قوله :

فأصبحت أنّى تأتها تشتجر بها

كلا مركبيها تحت رجليك شاجر(٣) ـ ٥٠٢

وإذا تكررت الواو بعد واو القسم ، نحو قوله تعالى : (وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى ، وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى)(٤) ، فمذهب سيبويه والخليل (٥) ، أن المتكررة واو العطف وقال بعضهم هي واو القسم ، والأوّل أقوى ، وذلك لأنها لو كانت واو القسم لكانت بدلا من الباء ولم تفد العطف وربط المقسم به الثاني وما بعده بالأول ، بل يكون التقدير : أقسم بالليل ، أقسم بالنهار : أقسم بما خلق ، فهذه ثلاثة أيمان كل واحد منها مستقل ، وكل قسم لا بدّ له من جواب ، فتطلب ثلاثة أجوبة ؛ فإن قلنا حذف جوابان استغناء بما بقي بعد الحذف ، فالحذف خلاف الأصل ، وإن جعلنا هذا الواحد جوابا للمجموع ، مع أن كل واحد منها ، لاستقلاله ، يطلب جوابا مستقلا ، فهو ، أيضا ، خلاف الأصل ، فلم يبق إلا أن نقول : القسم شيء واحد ، والمقسم به ثلاثة ، والقسم هو الطالب للجواب ، لا المقسم به ، فيكفيه جواب واحد ،

__________________

(١) انظر باب المعرفة والنكرة في الجزء الثالث ؛

(٢) أي بكسر الهمزة وضم العين ؛

(٣) تقدم هذا الشاهد في باب الظروف المبنية ، في الجزء الثالث ، وهو من شعر لبيد بن ربيعة ، ومن شواهد سيبويه ج ١ ص ٤٣٢ والقصد منه هنا أن اعتبار أيمن مفردا يوقع في إشكال سواء فتحت الهمزة أو كسرت ؛

(٤) الآيتان الأولى والثانية من سورة الليل ؛

(٥) في سيبويه ج ٢ ص ١٤٦ ؛

٣٠٦

فكأنه قال : (أقسم بالليل والنهار وما خلق) (١) ، أي أقسم بهذه الثلاثة : ان الأمر كذا ، وأيضا ، فانك تقول مصرحا بالعطف : بالله فالله لأفعلن ، وبحياتك ثم حياتك لأفعلن ، ولا تقول : أقسم بالله ، أقسم بالنبي صلّى الله عليه وسلّم لأفعلنّ ، والحمل على ما ثبت في كلامهم أولى ،

واعترض على كون واو العطف ، بلزوم العطف على عاملين ، لأن النهار اذن ، يكون معطوفا على الليل ، (إِذا تَجَلَّى ،) معطوف على : (إِذا يَغْشى ،) والعاطف واحد (٢) ؛

أجاب جار الله (٣) بأن قال : الواو كأنها عوض عن حرف القسم وفعله معا ، وذلك لأنه ، لكثرة ما استعمل في القسم ، لم يستعمل الفعل معه ، فصار ، لمّا لم يجامع الفعل ، كأنه عوض من الفعل ، أيضا ، كما أنه عوض من الحرف ، فقوله : والنهار ، كأنه معطوف على عامل واحد ، هو الواو ؛

قال المصنف : فيلزم على هذا : ألّا يجيز : بالليل إذا يغشى والنهار إذا تجلى ، وقد جاء قوله تعالى : (فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ ، الْجَوارِ الْكُنَّسِ ، وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ)(٤) ، فقوله تعالى : (وَاللَّيْلِ ،) وإن لم يكن قبله معمولان ، إلا أنه يكون الواو فيه قائمة مقام أقسم والباء ؛ حتى كأنه يجرّ وينصب ، وهو المحذور ؛

وقال المصنف : إنما جاز هذا ، لأنه مثل : انّ في الدار زيدا والحجرة عمرا ، كما مرّ في باب العطف ؛

وعلى ما قدّمنا في باب الظروف المبنية : ان التقدير : وعظمة الليل (إِذا يَغْشى ،) فالعامل في الليل ، في الحقيقة ، هو العظمة المقدّرة ، وكذا في : (إِذا يَغْشى ،) فيكون الواو قائما

__________________

(١) الآية ٤ في سورة الليل ؛

(٢) انظر بحث العطف على معمولي عاملين في الجزء الثاني ؛

(٣) انظر شرح ابن يعيش على المفصل ج ٨ ص ٣٢ وما بعدها ؛

(٤) الآيات ١٥ ، ١٦ ، ١٧ في سورة التكوير ؛

٣٠٧

مقام العظمة ، وهي عامل واحد ، فيكون التقدير : بعظمة الليل وقت عسعسته (١) ، فالعامل في المجرور والمنصوب شيء واحد ؛

واعلم أن القسم على ضربين : إمّا قسم السؤال ، وهو : نشدتك الله ، وعمّرتك الله ، وعمرك الله ، وقعدك الله ، وبالله ، لتفعلنّ ؛ وقد يستعمل «لعمرك» في قسم السؤال ، فجواب قسم السؤال : أمر أو نهى ، أو استفهام كقوله :

٧٩٤ ـ بدينك هل ضممت إليك ليلى

قبيل الصبح أو قبّلت فاها (٢)

ويجاب بإلّا ، ولمّا ، أيضا ، نحو : نشدتك بالله الّا فعلت ، أو : لمّا فعلت ، وقد مضى في باب الاستثناء (٣) ؛

وقوله :

فعيدك ألّا تسمعيني ملامة

ولا تنكئي قرح الفؤاد فييجعا (٤) ـ ٨٥

أن فيه زائدة ؛

وربما قيل في قسم الطلب ، أيضا : لتفعلنّ ، ولنفعلنّ ، فيكون خبرا بمعنى الأمر ؛

قوله : «ويتلقّى القسم باللام ، وإنّ ، وحروف النفي» ، معنى يتلقّى : أي يستقبل ، والمعنى : يجاب القسم ؛ يقال : تلقّاه بكذا واستقبله به ، أي أجابه به ؛

اعلم أن جواب القسم : إمّا اسمية أو فعلية ، والاسمية إمّا مثبتة ، أو منفية ؛ فالمثبتة تصدّر بإنّ مشدّدة ، أو مخففة ؛ أو باللام ، وهذه اللام : لام الابتداء المفيدة للتأكيد ، لا فرق بينها وبين «إنّ» ، إلّا من حيث العمل ؛

__________________

(١) المناسب للشرح أن يقول بعظمة الخنس والكنس والليل وقت عسعسته ؛

(٢) مما نسب إلى مجنون بني عامر : قيس بن الملوّح ،

(٣) في الجزء الثاني ؛

(٤) تقدم ذكره في باب المفعول المطلق في الجزء الأول ؛

٣٠٨

وإنما أجيب القسم بهما لأنهما مفيدان للتأكيد الذي لأجله جاء القسم ، واللام الداخلة بعد «إنّ» المكسورة ، في الأصل لام الابتداء ، أيضا ، كما يجيء في باب «إنّ» ، فلا؟؟؟ هذه اللام ، أعني لام جواب القسم ، إلا على ما تدخل عليه اللام الواقعة بعد «إنّ» ؛

؟؟؟ ب الكوفيين أن اللام في مثل ، لزيد قائم ، جواب القسم أيضا ، والقسم قبله مقدر ، فعلى هذا ، ليس في الوجود ، عندهم ، لام الابتداء ، قالوا : لأنك تقول : لطعامك زيد آكل ، فقد دخلت على غير المبتدأ ؛

وأجيب بأنها في التقدير داخلة على المبتدأ ؛ وردّ عليهم بنحو : ظننت لزيد قائم ، ولام القسم لا مدخل له بعد «ظننت» المفيد للشك ،

ويجوز أن يعتذروا بأن الظن الغالب قائم مقام العلم ، فهو مثل قولهم : يعلم الله إن زيدا قائم ، بكسر «إن» ، ولهذا قال بعضهم : ان قوله تعالى : (وَظَنُّوا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ)(١) : «ظنوا» كالقسم ، و : ما لهم جوابه ، وليس بنصّ ، إذ يحتمل التعليق ؛ بلى ، لو جاء مثل : ظننت لقد فعل ، لكان نصّا في إجراء ظننت مجرى القسم (٢) ؛

ثم نقول : ان الأولى كون اللام في : لزيد قائم : لام الابتداء ، مفيدة للتأكيد ، ولا نقدّر القسم كما فعله الكوفية ، لأن الأصل : عدم التقدير ، والتأكيد المطلوب من القسم : حاصل من اللام ؛

ثم انها لا تجامع حرف النفي ، وإن جاز أن تؤكد الجملة التي في خبرها حرف النفي نحو : لزيد ما هو قائم ، ولا يقال : لما زيد قائم ، وذلك لأن اللام للتقرير والإثبات ، وحرف النفي للرفع والإزالة ، فبينهما في ظاهر الأمر تناف ؛ وأمّا قولك : لزيد ما هو قائم ، وإن زيدا لم يقم ، فإنّ ، واللام : أثبتا نفي مضمون الجملة بلا مجامعة بين الحرفين ؛

__________________

(١) الآية ٤٨ سورة فصلت ؛

(٢) لأنه لا يكون من التعليق بسبب وجود قد بعد اللام ؛

٣٠٩

ثم إن لام الابتداء تدخل على المضارع لمشابهته للمبتدأ في كونه أول جزأي الجملة مثله مع مضارعته لمطلق الاسم ؛ قال المتلمس :

٧٩٥ ـ لأورث بعدي سنة يقتدى بها

وأجلو عمى ذي شبهة إن توهّما (١)

وتدخل على مضارع مصدّر بحرف التنفيس نحو : (وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ)(٢) ، خلافا للكوفيين ، كما مرّ ؛ ولا تدخل على الماضي وإن كان أوّل جزأي الجملة ، لبعده عن مشابهة الاسم ، فإذا دخله «قد» ، كثر دخول لام الابتداء عليه ، نحو : (لَقَدْ سَمِعَ)(٣) ، و : (وَلَقَدْ آتَيْنا)(٤) ، وذلك لأنها تقرّب الماضي من الحال ، فتصيّر الماضي كالمضارع ، مع تناسب معنى اللام ومعنى «قد» ، لأن في «قد» ، أيضا ، معنى التحقيق والتأكيد ؛

وتدخل ، أيضا ، لام الابتداء ، على خبر المبتدأ ، إذا وقع موقع المبتدأ ، أي تقدّم عليه نحو : لقائم زيد ، ولفي الدار زيد ، وعلى معمول خبر المبتدأ ، أيضا ، إذا وقع موقع المبتدأ ، نحو : لطعامك زيد آكل ، ولفي الدار زيد قائم ، بشرط كون العامل اسما ، كما ذكرنا ؛ أو فعلا مضارعا نحو : لطعامك زيد يأكل ؛ أو ماضيا مع «قد» نحو : لطعامك زيد قد أكل ، ولا يقال : لطعامك زيد أكل ،

ولا تدخل على غير ما ذكرنا ، من حرف الشرط وغيره ؛ وإنما تدخل على نعم وبئس ، وإن كانا في الأصل ماضيين ، بلا «قد» ، لما ذكرنا في بابهما من صيرورتهما بمعنى الاسم ، فقولك : لنعم الرجل زيد ، كقولك : لحسن زيد ؛

__________________

(١) هذا أحد أبيات من قصيدة جيدة من شعر المتلمس كما قال الشارح ، واسمه جرير بن عبد المسيح وكان عمرو بن هند ملك الحيرة سأل خال المتلمس عن نسب المتلمس فأجابه الحارث بما يشكك في نسبه ، وكان لذلك أثره في نفس المتلمس فقال هذه القصيدة التي ضمنها عتابا لخاله وفخرا بأمه حيث يقول :

وهل لي أم غيرها إن ذكرتها

أبى الله إلا أن أكون لها ابنما

(٢) الآية ٥ سورة الضحى ؛

(٣) الآية ١٨١ سورة آل عمران ؛

(٤) من الآية ١٠ سورة سبأ ؛

٣١٠

وإذا وقع لام الابتداء بعد «إنّ» ، جاز وقوعها في غير هذه المواقع أيضا ، نحو : خبر المبتدأ المؤخر ، نحو ان زيدا لقائم ، كما يجيء في باب «إنّ» ؛

واللام في جميع ما ذكرنا ليست جوابا لقسم مقدر ، خلافا للكوفية ، بل هي لام الابتداء ؛

والاسمية المنفية مصدّرة بما ، معملة عند أهل الحجاز ، مهملة عند غيرهم أو بلا التبرئة ، على اختلاف أحوالها ، نحو : والله لا زيد فيها ولا عمرو ، و : والله لا رجل في الدار ، و : والله لا فيها رجل ولا امرأة ؛ وإمّا مصدّرة بإن نحو : والله إن زيد قائم ؛

وإن كانت الجملة فعلية ، فإن كان الفعل مضارعا مثبتا ، فالأكثر تصديره باللام وكسعه (١) بالنون ، نحو : لأضربنّ ، الّا أن تدخل اللام على متعلق للمضارع مقدّم عليه ، كقوله تعالى : (وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللهِ تُحْشَرُونَ)(٢) ؛ فإن فيه اللام فقط ؛ وكذا إن دخل على حرف التنفيس ، نحو : والله لسوف أخرج ، فلا يؤتى بالنون ، اكتفاء بإحدى علامتي الاستقبال عن الأخرى ، وقلّ خلوّ المضارع من اللام ، اكتفاء بالنون ، وقد جاء :

٧٩٦ ـ وقتيل مرّة أثأرنّ فإنه

فرع وإن أخاهم لم يقصد (٣)

ولا يجوز عند البصريين الاكتفاء باللام عن النون إلا في الضرورة ، والكوفيون أجازوه

__________________

(١) الكسع : الضرب بالرجل على مؤخرة الانسان ، ويستعمل الرضي هذا الفعل مريدا به إضافة شيء إلى ما قبله ، ويريد هنا ضم نون التوكيد إلى آخر الفعل المبدوء باللام ؛

(٢) الآية ١٥٨ سورة آل عمران ؛

(٣) من قصيدة لعامر بن الطفيل قالها في ذكر ما حدث يوم الرقم ، يوم من أيام العرب ، منها الشاهد رقم ١٦٢ المتقدم في الجزء الأول باب المفعول فيه وهو قوله :

فلأبغينكم قنا وعوارضا

ولأقيلنّ الخيل لابة ضرغد

والمراد بقتيل مرة : أخوه الحكم بن الطفيل ، قالوا انه شنق نفسه على شجرة في هذا اليوم خوفا من الأسر ، وفرغ بالغين المعجمة أي ذهب دمه هدرا لم يقتل به أحد ، لأنه قتل نفسه ، أو بالعين المهملة ومعناه الشريف العالي المنزلة في قومه ؛ ولهذا اليوم قصة طويلة ، ذكرها البغدادي وأورد كثيرا من أبيات القصيدة ؛

٣١١

بلا ضرورة ؛ ويحكى عن أبي علي موافقتهم في تجويز التعاقب بين اللام والنون ، قال :

٧٩٧ ـ تألّى ابن أوس حلفة ليرّدني

إلى نسوة كأنهن مفائد (١)

بفتح اللام وضم الدال ، ويروى : ليردّني بكسر اللام ونصب الدال ،

وبعض العرب يكسر لام القسم الداخلة على الفعل المضارع نحو : والله لتفعلنّ ، هذا كله إن كان المضارع استقبالا ، فإن كان حالا ، فالجمهور جوّزوا وقوعه جوابا للقسم ، خلافا للمبرد ؛ وذلك لأنه متحقق الوجود ، فلا يحتاج إلى تأكيده بالقسم كما مرّ في المضارع ، والأولى الجواز ، إذ ربّ موجود غير مشاهد ، يصح إنكاره. وأنشد الفراء :

٧٩٨ ـ لئن تك قد ضاقت عليكم بيوتكم

ليعلم ربّي أن بيتي واسع (٢)

وتقول : والله ليصلّي زيد ، فيجب الاكتفاء باللام ، ولا يؤتى بالنون لأنها علامة الاستقبال ، كما مرّ في المضارع ؛

وإن كان المضارع منفيا فنفيه بما ، وإن ، ولا ، على ما مضى ، لكن «ما» و «إن» إذا لم يتقيّدا بالزمان المستقبل فظاهرهما نفي الحال على ما تقدم في الأفعال الناقصة ؛ فالمبرد لا يجوّز : والله ما أقوم ، وإن أقوم ، لكونه ، إذن ، ظاهرا في الحال ، ومذهبه أن المقسم عليه لا يكون حالا ؛

ولا يجوز نفي المضارع بلم ، ولن ، في جواب القسم ، لأنهم ينفونه بما يجوز حذفه للاختصار ، كما يجيء ، والعامل الحرفي لا يحذف مع بقاء عمله ، وإن أبطلوا العمل لم يتعيّن النافي المحذوف ؛

__________________

(١) قاله زيد الفوارس الضبي ، من أبيات أوردها أبو تمام في الحماسة. وابن أوس خصم لزيد ، تألى أي حلف حلفة : ليردني أي يأسرني ويدفعني إلى نسوة كأنهن أسياخ الحديد التي يشوى عليها اللحم ، وهو معنى مفائد جمع مفاد وهو السفود ؛

(٢) من شعر الكميت بن معروف شاعر أدرك الإسلام ، وهو غير الكميت بن زيد الشاعر صاحب الهاشميات التي مدح بها آل البيت ، ونسبة البيت إلى الكميت بن معروف نقلها الفراء عن الكسائي ؛

٣١٢

وإن كان الفعل ماضيا مثبتا ، فالأولى الجمع بين اللام و «قد» نحو : والله لقد خرج ؛

وأمّا في نعم وبئس ، فباللام وحدها ، إذ لا يدخلهما «قد» لعدم تصرفهما ، قال :

يمينا ، لنعم السيدان وجدتما

على كل حال من سحيل ومبرم (١) ـ ٧٤٥

وإن طال الكلام أو كان ضرورة الشعر ، جاز الاقتصار على أحدهما ، قال تعالى في الاستطالة : (وَالشَّمْسِ وَضُحاها) ، إلى قوله : (قَدْ أَفْلَحَ)(٢) ، فلم يأت باللام ، للطول ، وقال الشاعر :

٧٩٩ ـ حلفت لها بالله حلفة فاجر

لتاموا فما إن من حديث ولا صال (٣)

ويجب تقدير «قد» بعد اللام ، لأن لام الابتداء لا تدخل على الماضي المجرد كما مرّ ، والاقتصار على اللام أكثر من العكس ؛

وأمّا نحو قوله :

٨٠٠ ـ وأقسم أن لو التقينا وأنتم

لكان لكم يوم من الشر مظلم (٤)

فمذهب سيبويه (٥) : أنّ «أن» موطئة كاللام في : لئن جئتني لأكرمنّك ، فاللام في : لكان ، إذن ، جواب القسم ، لا جواب «لو» ، فيكون جواب القسم في قوله :

٨٠١ ـ وأقسم لو شيء أتانا رسوله

سواك ، ولكن لم نجد لك مدفعا (٦)

__________________

(١) تقدم هذا الشاهد في أفعال المدح والذم ، في هذا الجزء ؛

(٢) من أول سورة الشمس إلى أول الآية ٩ منها ؛

(٣) من قصيدة امرئ القيس التي أولها : الاعم صباحا أيها الطلل البالي ، ومن أبياتها عدد من الشواهد في هذا الشرح ؛

(٤) للمسيّب بن علس يخاطب بني عامر بن ذهل من أبيات يذكر فيها ما بينهم من العداوة ؛

(٥) سيبويه ج ١ ص ٤٥٥ وفيه الشاهد المتقدم ؛

(٦) من قصيدة لامرئ القيس ويروى : وجدّك لو شيء .. وجواب القسم في بيت بعده وهو :

إذن لرددناه ، ولو طال مكثه

لدينا ولكنا بحبك ولّعا

وجملة ولكن لم نجد لك مدفعا. معترضة بين القسم وجوابه أو بين لو الشرطية وجوابها ؛

٣١٣

محذوفا ، وسيجيء الكلام عليه في حروف الشرط.

وإن كان الماضي منفيا ، فبما ، نحو : والله ما قام ، وأمّا إن نفي بلا ، وإن (١) انقلب إلى معنى المستقبل كما ذكرنا في باب الماضي قال :

حسب المحبين في الدنيا عذابهم

تالله لا عذّبتهم بعدها سقر (٢) ـ ٦١٤

أي لا تعذّبهم ، فلا (٣) يلزم تكرير «لا» ، كما لا يلزم تكريرها إذا كانت في الماضي الذي للدعاء نحو : لا رحمه الله ، وذلك لأن الماضي في الموضعين ، بمعنى المستقبل ؛ وفي غيرهما يجب تكريرها ، نحو : (فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى)(٤)

وربّما جاءت في الشعر غير مكررة ، كقوله :

٨٠٢ ـ وأيّ أمر سيّئ لا فعله (٥)

وأمّا قوله تعالى : (فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ)(٦) ، فإنما لم يكرر فيه ، لتكرير تفسير العقبة ؛ وهو قوله : (فَكُّ رَقَبَةٍ)(٧) ، إلى آخره ، فكأنه قال : لا فكّ رقبة ولا أطعم مسكينا ؛

وإن كان المقسم عليه جواب شرط مستقبل ، وقبل ذلك الشرط قسم ، قرنت أداة الشرط ، كثيرا ، بلام مفتوحة تسمّى موطّئة ، أي : ممهّدة ، ومعيّنة لكون الجواب للقسم ،

__________________

(١) جملة معترضة ، لأن نفي الماضي المقصود به الدعاء يحوله إلى مستقبل ؛

(٢) تقدم في الفعل الماضي أول هذا الجزء ؛

(٣) جواب قوله وإن كان الماضي منفيا .. الخ ؛

(٤) الآية ٣١ سورة القيامة ؛

(٥) قائله شهاب بن العيف العبدي ، شاعر جاهلي أمره المنذر الأكبر أن يهجو الحارث بن جبلة فقال :

لا همّ إن الحارث بن جبلة

زنّا على أبيه ثم قتله .. الخ

زنا بتشديد النون معناه ضيّق عليه حتى قتله ، أو مضعف من الزنا ، يتهمه بأنه زنى بامرأة أبيه ثم قتله ؛ وفيه توجيهات أخرى ذكرها البغدادي ؛ وقد أسره الحارث وانتقم منه ؛

(٦) الآية ١١ سورة البلد ؛

(٧) الآية ١٣ سورة البلد ؛

٣١٤

لا للشرط ، نحو قولك : والله لئن أتيتني لآتينك ، ويجوز : والله إن تأتني لآتينك ، بلا لام ؛

فإن حذف القسم وقدّر ، فالأكثر : المجيء باللام الموطئة ، تنبيها على القسم المقدّر من أول الأمر ؛

وقد يجيء من غير لام كقوله تعالى : (وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ)(١) ،

وإن تقدم القسم على الشرط الماضي ، وهو ما يكون بلو ، فسيجيء حكمه في حروف الشرط ؛

ويجوز حذف النافي من المضارع الذي هو جواب القسم ، ولا يجوز من الماضي ، والاسمية ، سواء كان المضارع : لا يزال وأخواته ، أو غيرها ، قال :

٨٠٣ ـ فقلت يمين الله أبرح قاعدا

ولو قطعوا رأسي لديك وأوصالي (٢)

وقال :

٨٠٤ ـ تالله يبقى على الأيام ذو حيد

بمشمخرّ به الظيّان والآس (٣)

وإنما لم يحذف من الاسمية ، لأنها أقل استعمالا في جواب القسم من الفعلية ، والحذف لأجل التخفيف ، وحذف من المضارع دون الماضي ، لكونه في القسم أكثر استعمالا منه ، مع أنّ لفظ المضارع أثقل ، ومن ثمّ جاز حذف حرف النفي في غير القسم من : لا يزال وأخواته ، قال :

__________________

(١) من الآية ١٢١ سورة الأنعام ؛

(٢) من قصيدة امرئ القيس التي تقدمت الإشارة إليها قريبا وذكرنا أن من أبياتها عددا من الشواهد في هذا الشرح ؛

(٣) من قصيدة من جيّد شعر أبي ذؤيب الهذلي ونسبها بعضهم إلى ساعدة بن جؤية الهذلي وهي في ديوان أشعار الهذليين ، وأولها :

يا ميّ ان تفقدي قوما ولدتهم

أو تخلسيهم فإن الدهر خلّاس

وهو في سيبويه ج ٢ ص ١٤٤ برواية لله على أن اللام حرف قسم ، والمراد بذي الحيد : الوعل المتحصن بشواهق الجبال ، والظبيان والآس من أنواع الزهور الجبلية ؛

٣١٥

تنفك تسمع ما حييت

بها لك حتى تكونه (١) ـ ٧١٧

وإنما جاز فيها خاصة ، للزوم النفي إيّاها فلا يلتبس بالإيجاب ؛

وأما قوله :

فلا وأبي دهماء ، زالت عزيزة

على قومها ، ما فتّل الزند قادح(٢) ـ ٧١٦

فلم يحذف النافي ، بل فصل بينه وبين الفعل ، كما مرّ في الأفعال الناقصة ،

وإنما جاز حذف علامة النفي في المضارع دون علامة الإثبات ، لأنها تكون في الأغلب علامتين : اللام والنون ، كما ذكرنا ، فحذف إحداهما يستلزم حذف الأخرى ، فيكثر الحذف ؛

وإنما حكم بأن المحذوفة من المضارع «لا» ، دون «ما» لأنها أكثر استعمالا في نفي المضارع من «ما» ؛

قوله : «ويحذف جوابه ، إذا اعترض ، أو تقدم ما يدل عليه» ، أي إذا اعترض القسم ، أي توسّط الكلام ، نحو : زيد والله قائم ، و : قام والله زيد ، وفي نهج البلاغة : «قد والله ، لقوا الله» (٣) ؛

قوله : «أو تقدمه ما يدل عليه» ، نحو : زيد قائم ، والله ، و : قام زيد والله ، وهذا الكلام الذي توسطه القسم ، أو تأخر عنه ، هو من حيث المعنى جواب القسم ، وهو كالعوض من ذلك الجواب ، مثل جواب الشرط في : أكرمك أن تأتني ، كما مرّ في بابه (٤) ؛

__________________

(١) تقدم في الأفعال الناقصة بهذا الجزء ؛

(٢) كالذي قبله تقدم في الأفعال الناقصة ؛

(٣) من خطبة لعلي رضي الله عنه تحدث فيها عن شهداء صفين ، ص ٢١٢ من نهج البلاغة طبع دار الشعب بالقاهرة ؛

(٤) في هذا الجزء عند الكلام على الجوازم ؛

٣١٦

وقد يجيء بعد الجملة الاسمية قرينة دالة على الجواب ، فيحذف ، وليست من حيث المعنى بجواب كالمذكورين ، وذلك كقوله تعالى : (وَالْفَجْرِ. وَلَيالٍ عَشْرٍ)(١) ، أي : ليؤخذنّ ، وليعاقبنّ ، لدلالة قوله : (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ)(٢) ، الآية ، عليه (٣) ؛

وقد تحذف الجملة القسمية ، لكون ظرف من معمولات الفعل الواقع جوابا ، دالّا عليها ، نحو : لا أفعله عوض ، وعوض العائضين ، وإنما كان كذلك لكثرة استعمال «عوض» مع القسم ، مع أن معناه : أبدا ، والبتّة ، ففيه من التأكيد ما يفيد فائدة القسم ، ولأجل إفادته فائدته قد يقدّم على عامله قائما مقام الجملة القسمية وإن كان عامله مقترنا بحرف يمنع عمله فيما تقدمه ، كنون التأكيد و «ما» ، فيقال : عوض لآتينك ، وعوض ما آتيك لغرض سدّه مسدّ القسم ؛ كما يجيء في حروف الشرط نحو : أمّا يوم الجمعة فإن زيدا قادم ، وقد يستعمل في غير القسم كقوله :

٨٠٥ ـ هذا ثنائي بما أوليت من حسن

لا زلت عوض قرير العين محسودا (٤)

ويقوم مقام الجملة القسمية ، أيضا ، بعض حروف التصديق ، وهو : «جير» بمعنى «نعم» ، والجامع (٥) : أن التصديق توكيد وتوثيق كالقسم ، تقول : جير ، لأفعلنّ ، كأنك قلت : والله لأفعلنّ ؛ وهي مبنيّة على الكسر ، وقد تفتح ككيف ، وليست اسما بمعنى «حقّا» خلافا لقوم ، وبناؤهما عندهم ، لموافقة «جير» الحرفية لفظا ومعنى ؛ ولا يكفي في البناء : الموافقة اللفظية ، ألا ترى إعراب «إلى» بمعنى النعمة ؛

__________________

(١) الآيتان : الأولى والثانية من سورة الفجر ؛

(٢) الآية ٦ من سورة الفجر ؛

(٣) متعلق بقوله : لدلالة ؛ يعني أن الآية : ألم تر كيف دليل على جواب القسم الذي قدره ؛

(٤) من أبيات قالها ربيعة بن مقروم الضبيّ في مدح مسعود بن سالم بن أبي سلمى ، وكان ربيعة قد وقع فى الأسر وأخذ ماله مخلصه مسعود وردّ إليه ماله فقال هذه الأبيات التي يقول فيها : متحدثا عن راحلته.

لما تشكت إلي الأين قلت لها

لا تستر بحين ما لم ألق مسعودا

وحتمها بالبيت المستشهد به.

(٥) أي الوجه المشترك بين القسم وبعض حروف التصديق التى يقوم مقامه

٣١٧

وقد يؤتى بها دون قسم ، قال :

٨٠٦ ـ وقلن على الفردوس أوّل مشرب

أجل جير إن كانت أبيحت دعاثره (١)

وربما نوّنت ضرورة ، قال :

٨٠٧ ـ وقائلة أسيت فقلت جير

أسيّ ، إنني من ذاك ، انّه (٢)

وبه استدلّ من ذهب إلى اسميته ؛

قال عبد القاهر : هو اسم فعل ، بمعنى أعترف ؛ ولا يتعذّر ما ارتكبه في جميع حروف التصديق ؛

وقد يستغنى بذكر القسم عن ذكر المقسم به كقوله :

وأقسم لو شيء أتانا رسوله ... (٣) ـ ٨٠١

أي : أقسم بما يقسم به ؛

ويستغنى ، كثيرا ، عن القسم بجوابه ، إن أكّد بالنون ، نحو : لأضربنّك ، لأن النون لها مواضع ، كما يجيء ، ولا تجيء في الخبر الصّرف ، نحو : تضربنّ زيدا ، وأمّا

__________________

(١) من أبيات لمضرّس بن ربعيّ الأسدي أولها :

تحمّل عن ذات التنانير أهلها

وقلّص عن نهى الدفينة حاضره

ذات التنانير موضع ، ونهى الدفينة اسم ماء بموضع اسمه الدفينة. والضمير في قلن على الفردوس : للنسوة ، أي أنهن قلن ان ارتحلنا عن هذا الماء فإن أول ماء نرده هو الفردوس ، وهو ماء لبني تميم ، والدعاثر : الحياض المتهدمة. مفردها دعثور ، وقياسه في الجمع دعاثير ؛ وفي رواية للبيت الشاهد : وقلن ألا الفردوس .. على أن ألا استفتاح والفردوس مبتدأ خبره : أول مشرب ؛

(٢) أحد أبيات أنشدها يعقوب بن السكيت وشرحها ولم ينسبها هو ولا غيره وهي في التحسر على قوم ماتوا قبل الشاعر ، ومعنى البيت : رب سائلة تقول لي حزنت فقلت نعم : أسيّ أي أنا أسيّ ، وقوله انني من ذاك ، إما تقديره أنني أسيّ من أجل ذلك ، أو معناه : أنني من ذلك الأسى أي مخلوق منه ، وقوله انه في الآخر بمعنى نعم فهو تأكيد للجواب ، أو تقديره : انه كذلك فتكون الهاء : اسم إنّ ؛

(٣) بيت امرئ القيس المتقدم ؛

٣١٨

نحو : (لَقَدْ سَمِعَ اللهُ)(١) ولزيد قائم ، فلم يقم دليل على كونهما جوابي القسم ، خلافا للكوفيين ، كما تقدم ؛

وقد يقوم مقام القسم : حقّا ، ويقينا ، وقطعا ، وما أشبهها ، نحو : حقا لأفعلنّ ؛ وكذا «كلّا» ، إذا لم يكن ردعا نحو : (كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ)(٢) وكذا الالتزام ؛ إما نذر ، نحو : لله عليّ كذا لأفعلنّ ، أو : عهد ، نحو : عاهدت الله لأفعلنّ ، وعليّ عهد الله لأقومنّ ؛

[بقية حروف الجر]

[عن ، على ، الكاف ، مذ ومنذ ،]

[حاشا وعدا وخلا]

[قال ابن الحاجب :]

«وعن للمجاوزة ، وعلى للاستعلاء ، وقد يكونان اسمين»

«بدخول من ، والكاف للتشبيه ، وزائدة ، وقد تكون اسما ،»

«ومذ ومنذ للزمان : للابتداء في الماضي والظرفية في الحاضر ،»

«نحو : ما رأيته مذ شهرنا ومذ يومنا ، وحاشا وعدا وخلا»

«للاستثناء» ؛

[قال الرضي :]

قوله : «وعن للمجاوزة» ، أي لبعد شيء عن المجرور بها بسبب إيجاد مصدر المعدّى بها ؛ نحو : رميت عن القوس ، أي : بعد السهم عن القوس بسبب الرّمي ؛ وكذا ، أطعمه

__________________

(١) الآية ١٨١ سورة آل عمران ؛

(٢) الآية ٤ سورة الهمزة ؛

٣١٩

عن الجوع ، أي : بعّده عن الجوع بسبب الاطعام ، وكذا : أدّيت الدّين عن زيد ؛ وقولهم : رويت عنه علما ، وأخذته عنه : مجاز ، كأنك نقلته عنه ؛ وقولك : جلست عن يمينه ، أي : تراخيت عن موضع يمينه بالجلوس ؛ وقوله تعالى : (يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ)(١) ، مضمّن معنى : يتجاوزون ، و : (طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ)(٢) ، أي طبقا متجاوزا في الشدّة عن طبق آخر دونه في الشدّة ، فيكون كل طبق أعظم في الشدّة ممّا قبله ، وقوله : عن طبق ، صفة لطبقا ، وليس المراد : طبقين فقط ، بل المقصود حنس أطباق ، كل واحد منها أعظم من الآخر ، فهو مثل التثنية في لبّيك ، وقوله تعالى : (كَرَّتَيْنِ)(٣) ، والمراد في الكل : التكثير والتكرير ، فاقتصر على أقلّ مراتب التكرير وهو الاثنان ؛ تخفيفا ، وكذا قولهم :

٨٠٨ ـ ورث السيادة كابرا عن كابر (٤)

أي كابرا متجاوزا في الفضل عن كابر آخر ، وقال بعضهم : أي كابرا بعد كابر ، والأولى : إبقاء الحروف على معناها ما أمكن ؛

وقوله :

لاه ابن عمك لا أفضلت في حسب

عي ولا أنت ديّاني فتخزوني (٥) ـ ٥١١

ضمّن فيه «أفضلت» معنى : تجاوزت في الفضل ؛

__________________

(١) الآية ٦٣ سورة النور ؛

(٢) الآية ١٩ سورة الانشقاق ؛

(٣) الآية ٣ سورة الملك ؛

(٤) صدر بيت ورد بلفظ : ورث ، في شعر الفرزدق وتمامه : ضخم الدسيعة كلّ يوم فخار. وورد بلفظ : ورثوا ، في قصيدة لكعب بن زهير في مدح الأنصار ، حيث عتبوا عليه بعد أن أشاد بالمهاجرين في قصيدته بانت سعاد ، فأنشأ قصيدة خاصة في مدحهم ، يقول فيها :

من سرّه كرم الحياة فلا يزل

في مقنب من صالحي الأنصار

ورثوا السيادة كابرا عن كابر

إن الخيارهم بنو الأخيار

(٥) من قصيدة لذي الأصبع العدواني ، وتقدم الاستشهاد به في باب الظروف المبنية ، الجزء الثالث ؛

٣٢٠