شرح الرضيّ على الكافية - ج ١

محمّد بن الحسن الرضي الاسترآبادي

شرح الرضيّ على الكافية - ج ١

المؤلف:

محمّد بن الحسن الرضي الاسترآبادي


الموضوع : اللغة والبلاغة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٣٤

مما اشتغل الفعل فيه بنفس الضمير ، إذ التقدير يعقلون كلّا.

وضابط التعلق أن يكون ضمير المنصوب من تتمّة المنصوب بالمفسّر ؛ وليس الشرط أن يكون الضمير منصوبا لفظا أو محلا ، كما ظن بعضهم ، نظرا إلى نحو : زيدا ضربته أو مررت به ، أو أنا ضاربه ، بل الشرط انتصابه لفظا أو محلا أو انتصاب متعلقه كذلك ، ألا ترى أنك تقول : هندا ضربت من تملكه أو مررت بمن تملكه ، والضمير مرفوع والمعنى ضربت مملوكها ومررت بمملوكها.

واحترز بقوله مشتغل عنه بضميره وبقوله لو سلط عليه هو أو مناسبه لنصبه ؛ عن أن يتوسّط بين الاسم والفعل كلمة واجبة التصدّر ، كإنّ وأخواتها ، نحو : زيد إني ضربته ، وعمرو ليتك تضربه ، وأما أنّ المفتوحة ، فإنه وإن لم يجب تصدّرها لكن لا يعمل ما بعدها فيما قبلها ، لكونها حرفا مصدريا.

ومن الواجب تصدّرها : «كم» ، نحو : زيد كم ضربته ، وحرفا الاستفهام نحو : زيد هل ضربته ، أو : أضربته ، وكذا العرض ، نحو : زيد ألا تضربه ، وحرف التحضيض نحو : زيد هلّا ضربته أو ألّا أو لو لا أو لوما ؛ وكذا ألا للتمني ، نحو : هند ألا رجل يضربها ، ولام الابتداء نحو : زيد لعمرو يضربه ، وكذا ، ما ، وإن ، من جملة حروف النفي ، نحو : زيد ما ضربته ، بخلاف لم ، ولن ، ولا ، فيجوز : عمرا لم أضربه ولا أضربه ولن أضربه ، إذ العامل يتخطاها قال :

__________________

ـ ـ وهو يتحدث في بيت الشاهد وما يتصل به من القصيدة عما فعله الحارث بن عوف وهرم بن سنان المرّيان من السعي في الصلح بين عبس وذبيان في حرب داحس والغبراء. وما تحملاه من الديات عن الفريقين : وذلك حيث يقول :

تداركتما عبسا وذبيان بعد ما

تفانوا ودقوا بينهم عطر منشم

وعطر منشم. مثل ضربه زهير. والأصل فيه أن امرأة من العرب كانت تبيع الطيب واسمها منشم ، تحالف قوم على القتال معا حتى يموتوا ووضعوا أيديهم في عطر هذه المرأة وأقسموا ، فضرب ذلك مثلا للتصميم على القتال. وقوله في بيت الشاهد : فكلا : أي كل واحد ممن قتلوا في هذه الحرب ، يعقلونه أي يدفعون عقله وديته. صحيحات مال : المال عند العرب الابل. ومراده بصحيحات أي مدفوعة عاجلة لا عدة ولا مطلا. والمخرم الثنية من الجبل وقصده بذلك أنها كانت ظاهرة يراها الناس.

٤٤١

قد أصبحت أم الخيار تدّعي

عليّ ذنبا كلّه لم أصنع (١) ـ ٥٦

يروى برفع كله ، ونصبه ، أما لن فقيل ذلك فيها لكونها نقيضة «سوف» التي يتخطاها العامل نحو : زيدا سوف أضرب ، وأما «لم» فلا متزاجها بالفعل بتغييرها معناه إلى الماضي حتى صارت كجزئه ، وأما «لا» فلكثرتها في الكلام حتى إنها تقع بين الحرف ومعموله ، نحو : كنت بلا مال ، وأريد ألّا تخرج ، ومع هذا كله ، فالرفع بالابتداء في الاسم الواقع قبل هذه الأحرف الثلاثة راجح ، نظرا إلى كونها للنفي الذي حقه صدر الكلام كغيره مما يغيّر معنى الكلام ، أكثر من رجحانه عند تجرد الفعل عنها نحو : زيد ضربته.

ومن الواجب تصدّرها : حروف الشرط نحو : زيد ان ضربته يضربك وزيد لو ضربته ضربك ، وكذا : زيد إن قام أضربه ، لأنه لا يعمل الشرط ولا الجزاء فيما قبل أداة الشرط ، كما هو مذهب البصريين على ما يجيء في بابه.

وأما الكوفيون فيجوّزون تقديم معمول الجزاء على أداة الشرط نحو : زيدا إن قام أضرب ، وأما معمول الشرط فأجازه الكسائي دون الفراء ، نحو : زيدا إن تضرب يضربك.

ومنها الأسماء التي فيها معنى الاستفهام أو الشرط نحو : هند من يضربها أضربه ، وأيّكم يضربها.

واحترز به أيضا عن الاسم الذى بعده فعل التعجب ، لأنه لا يتصرّف في معموله بالتقديم عليه نحو : زيد ما أحسنه وأحسن به ، وكذا : أفعل التفضيل في نحو : زيد أنت أكرم عليه أم عمرو ، وكذا المضاف إليه ، لأنه لا يعمل فيما قبل المضاف ، فيجب الرفع في نحو : زيد حين تضربه يموت ، وكذا اسم الفعل لأنه لا يعمل فيما قبله على مذهب البصرية نحو : زيد هاته ، وكذا الصلة والصفة ، إذ هما لا يعملان في الموصول والموصوف ،

__________________

(١) تقدم هذا الشاهد في صحيفة ٢٣٩ من هذا الجزء.

٤٤٢

لأن الصلة والصفة مع الموصول والموصوف في تأويل اسم مفرد فلو عملتا فيهما لكان كل واحدة منهما مع مفعولها المقدم عليها كلاما فالرفع ، إذن ، واجب في نحو : أيّهم أضربه حرّ ، على أن «أيا» موصول وكذا قولك : رجل لقيته كريم ، وكذا لا تعمل الصلة والصفة فيما قبل الموصول والموصوف ، فيجب الرفع في : زيد أن تضربه خير ، وزيد رجل يضربه موفق ، وإنما لم تعملا فبما قبلهما ؛ كراهة لوقوع المعمول حيث لا يمكن وقوع العامل ، ولذا لم يعمل المضاف إليه فيما قبل المضاف ، وكذا جواب القسم ، لا يعمل فيما قبل القسم ، فيجب الرفع في : زيد ، والله لا أضربه ، لأن القسم له الصدر لتأثيره في الكلام ، وكذا ، لا يعمل ما بعد «إلّا» فيما قبلها ، فيجب الرفع في : ما رجل إلا أعطيته كذا ، وذلك لما ذكرنا في باب الفاعل : ان ما بعد «الا» من حيث الحقيقة جملة مستأنفة ، لكن صيّرت الجملتان في صورة جملة ، قصدا للاختصار فاقتصر على عمل ما قبل «الا» فيما يليها فقط ولم يجوّز عمله فيما بعد ذلك على الأصح كما ذكرنا ، فكيف يصح أن يعمل ما بعدها فيما قبلها ، ومثل هذا العمل فيما هو جملة واحدة على الحقيقة ، خلاف الأصل ، لأن الأصل في العامل أن يتقدم على معموله.

وكذا احترز به عن اسم بعده فعل مسند إلى ضمير متصل راجع إليه نحو : زيد ظنه منطلقا ، والزيدان ظناهما منطلقين ، لأنه لا يجوز في هذا الاسم إلا الرفع على الابتداء ، وذلك أنك لو سلطت عليه الفعل المؤخر وقلت : زيدا ظن منطلقا لم يجز لأن المفعول المقدم على الفعل لا يفسّر الضمير المسند إليه ذلك الفعل ، إلا إذا كان الضمير منفصلا فلا يقال : زيدا ضرب ، على أن الضمير عائد إلى زيد ، ويجوز ذلك في المنفصل ، نحو : زيدا لم يضرب إلا هو ، وإنما لم يجز الأول أعني نحو زيدا ضرب ، ولا العكس أعني كون الفاعل مفسّرا للمفعول إذا كان ضميرا متصلا نحو : ضربه زيد ، على أن «زيد» مفسّر للضمير المتقدم لأن القياس ألّا يكون التخالف المعنوي بين المفسّر والمفسّر هو الغالب المشهور حتى يكون تفسيره له ظاهرا ؛ ونحن نعلم أن تخالف الفاعل والمفعول وتغايرهما هو المشهور ، فلهذا لم يجز : زيدا أعطيته ، على أن الضمير لزيد ، وأن المعنى أعطيته نفسه ، لأن المشهور تغاير المفعولين في مثله ، ولما لم يكن المفعول الأول في باب ظن هو المفعول حقيقة ، بل المفعول في المعنى هو مصدر المفعول الثاني مضافا إلى الأول ، كما يجيء في بابه ، جاز نحو : زيد ظنه قائما والضمير لزيد ، وكان قياس هذا أن يجوز ، أيضا نحو : زيدا ظنّ منطلقا ،

٤٤٣

وظن مسند إلى ضمير زيد ، لكن كره احتياج الفاعل لذاته ، إلى أن يتقدم عليه ما هو في صورة المفعول مع تأخره رتبة. وأما نحو ضرب زيدا سيده وما ضرب زيدا إلا عمرو ، فالاحتياج إلى تقدم المفعول ليس لذات الفاعل ، بل هو للضمير المضاف إليه ، ولأجل «الا» كما تبيّن قبل ،

وأما إذا كان كل واحد من الفاعل والمفعول ضميرا منفصلا فيجوز أن تقول في الفاعل : زيدا لم يضرب إلا هو ، وفي المفعول : اياه ضرب زيد ، لأن المنفصل من حيث انفصاله واستقلاله صار كالاسم الظاهر حتى جاز فيه ما لا يجوز في المضمرات ، نحو إياك ضربت تجمع بين ضميري الفاعل والمفعول لواحد ومثله : لا تضرب إلا إياك ، ولا يجوز مثله في المتصلين ، هذا ، وقد جوّز بعضهم نحو : غلام هند ضربت على قلّة والضمير لهند ، إذ ليس نفس المفعول هو المفسّر.

وكذا جاز إيقاع الفعل المسند إلى الضمير المتصل على موصول بالفعل العامل في المفسّر نحو : التي ضربت زيدا ضرب ، أي : ضرب زيد التي ضربته ؛ وهو كالأول معنى ، كأنك قلت : ضاربة زيد ضرب ،

ومنع الفراء المسألتين.

وينبغي لمن جوّز تفسير ما أضيف إليه المفعول المقدم ، للفاعل في نحو : غلام هند ضربت ، أن يجوّز تفسير ما أضيف إليه الفاعل ، للمفعول أيضا ، نحو : ضربها غلام هند ، لأن المضاف إليه كجزء المضاف فيكون معه في نيّة التقدم كما كان معه في نية التأخير في ضرب غلامه زيدا.

والذي أرى : أنه كما لا يفسّر الفاعل المفعول إذا كان متصلا وكذا العكس ، كما ذكرنا ، كذلك لا يفسّر ما أضيف إليه الفاعل المفعول فلا يجوز : ضربها غلام هند ، وكذا لا يفسّر ما أضيف إليه المفعول الفاعل فلا يجوز : غلام هند ضربت ، كما اختار الفراء ، إذ السماع في المسألتين مفقود ، والقياس أيضا يدفعهما لأن الفاعل لا يجوز احتياجه

٤٤٤

للتفسير (١) إلى نفس المفعول ، فلا يحتاج إلى ذيله أيضا ، وكذا المفعول لا يجوز احتياجه للتفسير إلى نفس الفاعل فكذا إلى ذيله أيضا ، أما نحو : ضرب زيدا سيّده وضرب زيد سيّده فإن ذيل كل واحد منهما محتاج للتفسير إلى نفس الآخر فلا يستنكر.

وكذا يحترز بقوله مشتغل عنه وبقوله لو سلط عليه لنصبه ، عما بعد واو العطف وفائه وغيرهما من حروف العطف ، وكذا فاء السببية الواقعة موقعها ، فإن ما بعد هذه الحروف لا يعمل فيما قبلها لأنها دلائل على أن ما بعدها من ذيول ما قبلها فكره وقوع معمول ما بعدها ، قبلها ، إذ ينعكس الأمر ، إذن ، أي يكون شيء مما قبلها من ذيول ما بعدها.

وأما نحو قوله تعالى : (إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ) ، إلى قوله : (فَسَبِّحْ)(٢) ، فإنما عمل ما بعد الفاء فيما قبلها أي في «إذا» على المذهب الصحيح كما يجيء في الظروف المبنية أن العامل في إذا جزاؤها لا شرطها (٣) ؛ لأن الفاء زائدة لكن موقعها موقع السببية وصورتها لتدل على لزوم ما بعدها لما قبلها لزوم الجزاء للشرط ، كما يجيء تحقيقه في الظروف المبنية.

وأما نحو قوله تعالى : (وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ ، وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ ، وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ)(٤) ، وقوله تعالى : (وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ)(٥) ، فالفاء في الجميع للسببية ، وجاز مع ذلك ، عمل ما بعدها فيما قبلها لوقوع الفاء غير موقعها للغرض الذي نذكره في حروف الشرط.

فعلى هذا ، يخرج من هذا الباب نحو قوله تعالى : (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ)(٦) ، على مذهب المبرد كما يجيء ونحو قوله : كل رجل يأتيني فأنا أكرمه ،

__________________

(١) أي لا يجوز أن يكون احتياجه إلى نفس المفعول من أجل التفسير ، وكذا فيما بعده.

(٢) سورة النصر.

(٣) بين النحويين خلاف في ناصب «إذا» الشرطية اختار الرضى منه أن الناصب جزاؤها وسيأتي تفصيل ذلك ، كما قال ، في الظروف المبنية.

(٤) الآيات ٣ ، ٤ ، ٥ من سورة المدثر.

(٥) الآية ١١ من سورة الضحى.

(٦) الآية ٢ من سورة النور.

٤٤٥

لأنها فاء السببية الواقعة موقعها ، إذ هي داخلة على الجزاء لتضمن الموصول والموصوف معنى كلمة الشرط ، وكون الصلة والصفة كالشرط ، فما بعد الفاء لا غير ، كالجزاء ، بلى ، لو لم يتضمّن الموصول والموصوف معنى الشرط وقلنا إن الشرط مقدر ، أي أن الأصل امّا يكن شيء فاجلدوا الزانية والزاني ، ثم عمل به ما عمل بنحو قوله تعالى : (وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ) ، كما يجيء في حروف الشرط ، وشغل : اجلدوا بمتعلق الضمير ؛ لكان من هذا الباب ، كما في قوله تعالى : (هذا فَلْيَذُوقُوهُ)(١) ، على بعض التأويلات ويجوز أن يكون بتقدير : هذا كذا ، فليذوقوه ، وبمعنى : أما هذا فليذوقوه ، وبمعنى : هذا حميم فليذوقوه.

ويخرج أيضا بالقيد المذكور : الفعل الذي لا يكون الاسم المتقدم عليه من جملته ، بل من جملة أخرى ، فإنه لا يكون من هذا الباب إذ لو سلط عليه لم ينصبه ، لأنه لا ينصب الفعل إلا ما هو من جملته وذيوله ، فخرج على هذا أيضا ، قوله تعالى : (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما) ، عند سيبويه ، إذ التقدير عنده : فيما يتلى عليكم حكم الزانية والزاني ، فاجلدوا ؛ وكذا يخرج : زيد اضربتّه أو لا تضربنّه ، لأن الفعل المؤكد بالنون لا يعمل فيما قبله كما تقدم.

قال البصريون : إنما لم يجز نصب الاسم المذكور إلا قبل ما لو سلّط عليه هو أو مناسبه لنصبه ؛ لأن المفسّر عوض عن الناصب ودال عليه ، فلا أقل من أن يكون مستعدا للنصب وعلى شفا العمل بحيث لو لم نشغله بنائب الاسم المنصوب المتقدم أعني بضميره أو متعلقه لنصبه ، فما لم يصلح هو أو مناسبه للنصب لو لا الضمير ، أو متعلقه ، لم يكن مفسّرا أيضا ؛ هذا زبدة كلامهم.

فإن قيل : اشتراط هذا القول يقتضي فساد كون الناصب مقدرا مفسّرا بالظاهر ، ويؤدي إلى صحة مذهب الكسائي والفراء ، أي أن الناصب هو المتأخر ، وذلك لأنه لو

__________________

(١) الآية ٥٧ من سورة ص ، وقد ذكر الشارح بقية التأويلات.

٤٤٦

وجب أن يكون مفسّر العامل بحيث لو لا اشتغاله بضمير المعمول لكان هو العامل ، لوجب اطراده في تفسير عامل الرفع في نحو : (إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ)(١) ، إذ لا فارق ، فكان يجب ألّا يتأخر المفسّر عن المرفوع ، إذ لا يعمل الفعل الرفع فيما قبله (٢).

قيل : إن الأصل في المفسّر أن يصلح للعمل في معمول المفسّر ، كما ذكرنا فان لم يصلح وكان له محمل غير التفسير حمل عليه ، وإن لم يكن له محمل آخر ، اضطر إلى جعله مفسّرا مع امتناع كونه عاملا ، ففي نحو : زيد هل ضربته ، وهلّا ضربته ، للفعل محمل آخر غير التفسير وهو كونه خبر المبتدأ فحملناه عليه ، لما لم يصلح للعمل في زيد ؛ فأما في نحو : (إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ) ، و : لو ذات سوار لطمتني ، فلم يكن للفعل محمل آخر ، إذ لو جعلناه خبر المبتدأ لكان حرف الشرط داخلا على الاسمية ، ولا يجوز ؛ فعلى ما تقرر ، لا يحمل الفعل على التفسير في زيد قام ، لمّا لم يضطر إليه ، وكذا في : أزيد قام ، بل نقول هو ، مبتدأ لا فاعل فعل مقدر ، وإن كانت الهمزة بالفعل أولى ، لأنا لم نضطر إلى جعل الفعل مفسّرا ، إذ الهمزة تدخل على الاسمية أيضا ، وهذا مذهب سيبويه والجرمى.

واختار الأخفش في نحو : أزيد قام ، أن يرفع زيد بفعل مقدر مفسّر بالظاهر نظرا إلى همزة الاستفهام.

ومن ثمّ قال سيبويه في نحو : أأنت زيد ضربته : إن رفع زيد أولى ، لأن «أنت» مبتدأ لا فاعل على ما قدمناه فبقي خبر المبتدأ وهو : زيد ضربته ، بلا همزة استفهام فرفعه أولى من نصبه لما سنبيّن في شرح قوله : عند عدم قرينة خلافه (٣).

وأما إذا كان الفاصل بين همزة الاستفهام والاسم المحدود (٤) ، ظرفا نحو : اليوم

__________________

(١) الآية ١٧٦ من سورة النساء ، وتقدمت أكثر من مرة.

(٢) انظر الهامش (١) من صحيفة ٢٠٨ من هذا الجزء.

(٣) في مواضع ترجيح الرفع. وستأتي قريبا.

(٤) أي المشتغل عنه.

٤٤٧

زيدا ضربته ، فالمختار النصب اتفاقا لكون الظرف متعلقا بالفعل ، فالأولى بهمزة الاستفهام إذن ، أن تقدر داخلة على الفعل.

وقال الأخفش في : أأنت زيد ضربته ، إن نصب زيد أولى بالنظر إلى همزة الاستفهام ، وأنت ، فاعل فعل مقدر وزيدا مفعوله ، أي أضربت زيدا ضربته فلما حذفت الفعل انفصل ضمير الفاعل المتصل ونظر سيبويه أدق ، بناء على أن الفعل الذي لا يصلح للعمل بنفسه لا يحمل على تفسيره للعامل ما كان عند مندوحة.

ويلزم الأخفش تجويز ارتفاع زيد بالفا علية في نحو زيد قام وإن لم يكن مختارا.

فعلى هذا ، مفسّر الرافع لا يكون إلا فعلا ، إذ لا يضطر إلى اضمار الفعل الرافع إلا بعد حرف لازم للفعل كحرف الشرط وحروف التخصيص ، وأما مفسّر الناصب فقد يكون شبه فعل ، لأنه قد يفسّره بلا ضرورة إلى كونه مفسّرا ، كما ذكرنا ، نحو : زيدا أنا ضاربه.

قوله : «أو مناسبه لنصبه» ، ليس في أكثر النسخ هذه اللفظة ، أعني أو مناسبه ، والظاهر أنها ملحقة ولم تكن في الأصل ، إذ المصنف لم يتعرض لها في الشرح (١) ؛ والحقّ أنه لا بد منها ، والأخرج نحو : زيدا مررت به ، وأيضا ، نحو : زيدا ضربت غلامه ، لأنه لا بدّ ههنا من مناسب حتى ينصب زيدا ، لأن التسليط يعتبر فيه صحة المعنى ولو سلطت ضربت على زيدا في هذا الموضع لنصبه ، لكن لا يصح المعنى ، لأنك لم تقصد أنك ضربت زيدا انفسه ، بل قصدت إلى أنك أهننه يضرب غلامه ، فالمناسب ، إذن ، يطلب في موضعين : أحدهما أن يكون الفعل أو شبهه واقعا على ذلك الاسم لكن لا يمكنه أن يتعدى إليه بحرف جر ، نحو زيدا مررت به ، قال الله تعالى : (فَرِيقاً هَدى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ)(٢) ، والثاني : ألّا يكون الفعل الظاهر أو شبهه واقعا عليه ، بل على متعلّقه ،

__________________

(١) أي في شرحه على رسالة «الكافية».

(٢) الآية ٣٠ من سورة الأعراف.

٤٤٨

وقد عرفت المراد بالمتعلق ، نحو : زيدا ضربت غلامه ، أو مررت بغلامه.

والأولى عند قصد التسليط فيما اشتغل فيه المفسّر بمتعلق الضمير بلا حرف جر ، أن يسلط ذلك الفعل بعينه على الاسم المحدود بعد تقدير ذلك المتعلّق مضافا إلى الاسم كما تقول في : زيدا ضربت غلامه ، زيدا ضربت أي غلام زيد ، فنقول : إذا حصل ضابطان : أحدهما أن يكون بعد الاسم فعل أو شبهه ، والثاني أن يكون الفعل أو شبهه مشتغلا عن نصب الاسم بضميره أو بمتعلق الضمير ، فسواء كان قبل ذلك الاسم اسم آخر مرقوع أو منصوب لفظا أو محلا ، يمكن نصب ذلك الفعل أو شبهه أو مناسبهما ، أو رفعه ، لذلك الاسم أيضا أو لا يكون (١) ، لا يختلف الحكم فيه ، فالاسم المرفوع قبله نحو : أزيد عمرا ضربه ، سيبويه ينصب عمرا ، بضرب المقدر بعد زيد المبتدأ ، خبرا عنه ، أي أزيد ضرب عمرا ضربه.

والأخفش يجوّز ارتفاع زيد بكونه فاعلا لضرب المقدر قبل زيد وعمرا مفعوله ، أي : أضرب زيد عمرا ضربه ، كما تقدم من مذهبيهما ؛ وأما في نحو : إن زيد عمرا ضربه فالفعل متحتم قبل المرفوع ؛ والاسم المنصوب لفظا قبله ، نحو : اليوم عمرا ضربته ، والمنصوب محلا : أبالسوط زيدا ضربته.

وقد تقدم أنه يجوز أن يتأخر عن الاسم المحدود قبل ، اسم آخر وليس يجب أن يليه الفعل أو شبهه ، نحو : أالخوان اللحم أكل عليه و : أزيدا أنت محبوس عليه ، وقد يكتنفه اسمان نحو : آليوم الخوان اللحم أكل عليه ، أو : إن زيد عمرا اليوم ضربه ، وقد يتوالى اسمان منصوبان لمقدرين أو أكثر ، نحو : أزيدا أخاه ضربته ، أي أأهنت زيدا ضربت أخاه ضربته ، و : أزيدا أخاه غلامه ضربته ، أي ألا بست زيدا أهنت أخاه ضربت غلامه ضربته.

قوله : «ينصب بفعل يفسّره ما بعده» ، التفسير كما ذكر على ضربين : إما أن يكون

__________________

(١) مقابل قوله فسواء كان .. وحقه أن يقول : أو لم يكن.

٤٤٩

المفسّر عين لفظ المفسّر ، كزيدا ضربته أي ضربت زيدا ضربته ، أو يكون لفظ المفسّر دالّا على معنى المفسّر واللفظ غير اللفظ ، كما في : مررت به ، وضربت غلامه وحبست عليه ، وهذا الثاني على ثلاثة أقسام ، لأنه إن أمكن أن يقدّر ما هو بمعنى الفعل الظاهر من غير نظر إلى معمول لذلك الفعل الظاهر خاص ، بل مع أي معمول كان فهو الأولى ، نحو : زيدا مررت به ، فانّ «جاوزت» المقدر قبل «زيدا» بمعنى مررت ، سواء كان مررت عاملا في : بك أو في به أو في بغلامك أو في بأخيك ، أو في أي شيء كان ، لا يتفاوت معناه باعتبار المفاعيل.

وإن لم يمكن هذا ، فانظر إلى معنى ذلك الفعل الظاهر مع معموله المعيّن الخاص الذي نصبه ذلك الفعل المقدر ، فقدّر ذلك المعنى ، وذلك نحو : زيدا ضربت غلامه ، فان «أهنت» المقدر ههنا قبل زيد ، ليس بمعنى ضربت مطلقا مع أي معمول كان ، بل هو معناه مع «غلامه أو أخاه أو صديقه» أو ما جرى مجرى ذلك ، ألا ترى أنك لو قلت : زيدا ضربت عدوه لم يكن معنى «ضربت عدوّه» : أهنت زيدا ، بل المعنى : أكرمت زيدا ضربت عدوّه ، فظهر أن «أهنت» المقدر ، بمعنى الفعل الظاهر مع بعض معمولاته دون بعض ، بخلاف «جاوزت» فإنه بمعنى «مررت» مع أي معمول كان.

وإن لم يمكن هذا الثاني أيضا ، أضمرت معنى «لابست» فإنه يطرد في كل فعل مشتغل بضمير أو بمتعلق الضمير ، أي متعلّق كان.

ولنا أن نقول في تعيين المقدر رافعا كان أو ناصبا ، إنك تنظر ، فإن كان المفسّر عاملا في ضمير الاسم المتقدم بلا واسطة ، قدّرت لفظ ذلك المفسّر بعينه ، كما في : إن زيد قام ، وإن زيدا ضربته ، وإن عمل في الضمير بواسطة حرف جر نحو : إن زيد مرّ به ، وان زيدا مررت به ، فلك أن تضمر فعل الملابسة مطلقا أي إن لوبس زيد ، وإن لابست زيدا ؛ وكذا في : إن الخوان أكل عليه ، وإن الخوان أكلت عليه ، أي : إن لوبس الخوان وإن لابسته ، وأما إن قلت آلخوان أكل عليه اللحم ، فإنك تضمر لابس وفاعله ما اسندت إليه الفعل المبني للمفعول ، أي ألابس اللحم الخوان أكل عليه اللحم ، وكذا : آلسوط ضرب به زيد.

٤٥٠

ولك أن تفصل بأن تقول : ان كان هناك فعل متعد إلى ذلك الضمير بنفسه بمعنى ذلك اللازم ، أضمرته ، كما في : إن زيد مرّ به ، وإن زيدا مررت به ، أي إن جووز زيد ، وإن جاوزت زيدا ، والا ففعل الملابسة ، كما ذكرنا في : آلخوان أكل عليه ، وآلخوان أكلت عليه.

وإن كان المفسّر عاملا في متعلّق الضمير فلك أن تضمر فعل الملابسة مطلقا ، أي فيما عمل فيه بحرف الجر أو بنفسه ، نحو : إن زيد ضرب غلامه ، وإن زيدا ضربت غلامه أي : إن لوبس زيد ، وإن لابست زيدا ، وكذا في : أزيد مرّ بغلامه وإن زيدا مررت بغلامه.

ولك أن تفصّل فتضمر في العامل بنفسه ذلك الفعل الظاهر بعينه مع مضاف إلى ذلك الاسم المذكور ، فتقول في : إن زيد ضرب غلامه وفي : إن زيدا ضربت غلامه : إن ضرب متعلّق زيد ضرب غلامه ، وإن ضربت متعلّق زيد ضربت غلامه ، فيكون الفعل الظاهر تفسيرا للمقدّر ، ومعمول الظاهر تفسيرا للمتعلّق المذكور.

وكذا في نحو : إن زيد لقي عمرو وأخوه ، وإن زيدا لقيت عمرا وأخاه مع بعد معنى الملابسة ههنا كما تقدم في مثل مذهب الكسائي.

والتفصيل أولى من إضمار الملابسة مطلقا ، لأنه يتعذر إضمارها للمرفوع في : إن زيد قام غلامه ، بل المعنى : إن قام متعلق زيد قام غلامه.

وتضمر العامل في متعلق الضمير بواسطة حرف الجر فعلا متعديا بمعنى ذلك الفعل اللازم إن وجد متعديا مع المضاف المذكور ، فتقول في : إن زيد مرّ بغلامه ، وإن زيدا مررت بغلامه : إن التقدير إن جووز متعلّق زيد ، مرّ بغلامه ، وإن جاوزت متعلّق زيد مررت بغلامه.

وإن لم يوجد متعّد بمعناه ، فالملابسة ، نحو : إن زيد أكل على خوانه ، وإن زيدا أكلت على خوانه ، أي إن لوبس زيد أكل على خوانه ، وإن لابست زيدا أكلت على خوانه.

٤٥١

هذا ، وإن جاء في جميع الصور المذكورة قبل الاسم المذكور ، ظرف أو جار ، نحو : آليوم زيدا ضربته ، وأبالسوط زيدا ضربته ، لم يتفاوت الأمر ، لأن الفعل المقدر يعمل في ذلك الظرف أيضا والجار أيضا ، وأما إن جاء قبل الاسم المذكور ، مرفوع ، فان كان المفسّر مما يعمل فيهما مع استقامة المعنى ، كما في : إن زيد عمرا ضربه ، أي إن ضرب زيد عمرا ضربه ، فلا إشكال ؛ وكذا في : إن زيدا عمرو ضربه ، وإلا أضمرت فعل الملابسة كما في : إن اللحم الخوان أكل عليه ، أي إن لابس اللحم الخوان أكل عليه.

* * *

تفصيل أحكام الاسم

المشتغل عنه

اختيار الرفع

قال ابن الحاجب :

«ويختار الرفع بالابتداء عند عدم قرينة خلافه ، أو عند وجود»

«قرينة أقوى منها ، كأمّا مع غير الطلب وإذا ، للمفاجأة».

قال الرضى :

حال الاسم المحدود ، لا يعدو أربعة أقسام : إمّا أن يختار رفعه ، أو يختار نصبه ، أو يجب نصبه ، أو يستوي رفعه ونصبه ، ولم يذكر جمهور النحاة ما وجب رفعه ، وأثبته ابن كيسان (١) ، قال وذلك إذا كان الفعل مشتغلا بمجرور ، به تحقق فاعلية الفاعل بأن يكون آلة الفعل نحو : آلسوط ضرب به زيد ، لأنه لما حقّق فاعلية الفاعل فكأنه فاعل مرفوع ،

__________________

(١) تقدم ذكره ، ص ١١٥ من هذا الجزء.

٤٥٢

وقد تقرر أنه لا يجوز نصب الاسم المذكور إلا إذا اشتغل الفعل عنه بمنصوب.

وهذا الذي ذكره (١) ، قياس بارد ، والوجه جواز نصبه لكون الفعل مشتغلا عنه بمنصوب محلا ، بلى ، ما بعد إذا المفاجأة واجب الرفع في نحو : خرجت فإذا زيد يضربه عمرو ، كما يجيء.

ثم اعلم أن المصنف بدأ بما يختار رفعه ، لأن الرفع هو الأصل لعدم احتياجه إلى حذف عامل ، فقال : يختار الرفع بالابتداء ، فبيّن بقوله بالابتداء عامل الرفع في جميع ما يجوز رفعه في هذا الباب حتى لا يظن أن رافعه فعل ، كما أن ناصبه إذا نصبت ، فعل.

قوله : «عند عدم قرينة خلافه» ، الضمير في خلافه للرفع ، وخلاف الرفع ههنا : النصب لأن هذا الاسم المذكور ، إمّا أن يرفع بالابتداء ، أو ينصب بفعل مقدر ، أما الجرّ فلا يدخله ، لأنه لا يكون إلا بجارّ ، وكلامنا في اسم ينتصب لفظا بما بعده لو سلط عليه (٢).

والمعنى : يختار رفع هذا الاسم المذكور عند عدم قرائن النصب الموجبة له والقرائن التي يختار معها النصب ، والتي يتساوى معها الأمران ، على ما يجيء شرحها ، ومثال ذلك زيد ضربته ، ولا يريد مطلق قرينة النصب لأن المفسّر قرينة النصب (٣) ، ومع عدمه ليس الاسم مما نحن فيه ، بل يريد قرائن النصب التي سنذكرها على ما أشرنا إليه.

وإنما اختير الرفع على النصب مع ذلك التقدير ، لاحتياج النصب إلى حذف الفعل واضماره ، والأصل عدمهما ، بخلاف الرفع فإنه بعامل معنوي عندهم لم يظهر قط في اللفظ حتى يقال حذف وأضمر ، وعلى ما اخترنا (٤) في رفع المبتدأ ، نقول : إنما اختير

__________________

(١) أي الذي ذكره ابن كيسان.

(٢) أي يكون العامل مقتضيا للنصب مباشرة حتى لا يقال ان المجرور منصوب تقديرا.

(٣) أي انه قرينة عامة على أن الاسم صالح للنصب وإلا لم يكن من باب الاشتغال.

(٤) انظر في باب المبتدأ والخبر ص ٢٢٧ من هذا الجزء.

٤٥٣

الرفع على النصب لأنه بعامل ظاهر دون النصب.

قوله : «أو عند وجود أقوى منها» ، أي عند وجود قرينة للرفع هي أقوى من قرينة النصب ، وقرينة الرفع التي تجامع قرينة النصب وتكون أقوى منها ، شيئان فقط ، على ما ذكروا «أمّا» و «إذا» المفاجأة ، أما «أمّا» فتجامع ثلاث قرائن للنصب هي مع إحداها مغلوبة ومع الاخريين غالبة.

أما الأولى ، فالطلب على ما يأتي ، والاخريان : عطف الجملة التي بعدها على فعلية ، وكونها جوابا لجملة استفهامية فعلية.

وأمّا «إذا» فلا تجامع من قرائن النصب إلا واحدة ؛ و «إذا» غالبة عليها ، وتلك القرينة ، كون الجملة المصدّرة بها معطوفة على فعلية ، كما يجيء.

أما «أمّا» فإنما يرجّح الرفع معها على النصب مع القرينتين المذكورتين ، لأن ترجح النصب في مثلهما بغير «أما» إنما كان لمراعاة التناسب بين المعطوف والمعطوف عليه في كونهما فعليتين ، نحو : قام زيد وعمرا أكرمته ، أو لقصد التناسب بين السؤال والجواب في كونهما فعليتين ، نحو : زيدا أكرمته في جواب من قال : أيّهم أكرمت ، فإذا صدّرت الجملتان بأمّا ، نحو : قام زيد ، وأما عمرو فقد أكرمته ، وأما زيد فقد أعطيته دينارا في جواب : أيهم أعطيت ، فإن «أما» من الحروف التي يبتدأ بعدها الكلام ويستأنف ، ولا ينظر معها إلى ما قبلها فلم يمكن قصد التناسب معها ، لكون وضعها لضدّ مناسبة ما بعدها لما قبلها ، أعني الاستئناف ، فرجعت بسببها الجملة إلى ما كانت في الأصل عليه ، وهو اختيار الرفع للسلامة من الحذف والتقدير ، فأمّا ، في الحقيقة ليست مقتضية للرفع ، لأن وقوع الاسمية ، والفعلية بعدها على السواء ، نحو قوله تعالى : (فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ ، وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ)(١) لكن عملها في الصورتين ، أنها منعت مقتضى النصب من التأثير فبقي مقتضى الرفع بحاله ، وهو كون الأصل سلامة الكلام من الحذف والتقدير ؛ وأما «حتى» في نحو قوله :

__________________

(١) الآيتان ٩ ، ١٠ من سورة الضحى.

٤٥٤

١٥٢ ـ ألقى الصحيفة كي يخفف رحله

والزاد حتى نعله ألقاها (١)

فهي وإن كانت يستأنف بعدها الكلام ، إلا أنها ليست متمحضة للاستئناف كأمّا ، ألا ترى أنها لا تقع في أول الكلام كأما ، فلم يكن الرفع بعدها أولى ، فهي كسائر حروف العطف لظهورها في ذلك الباب.

وأما إذا كانت «أمّا» مع الطلب ، وهو الأمر والنهي والدعاء فقط ، لأن سائر (٢) أنواع الطلب نحو زيد هل ضربته وزيد ليتك تضربه ، وألا تضربه ، يجب رفع الاسم معها كما تقدم.

فأما مع الثلاثة (٣) فهي مغلوبة ، نحو : أمّا زيدا فأكرمه ، وأما بكرا فلا تضربه ، وأما عمرا فرحمه الله تعالى.

وإنما صارت مغلوبة ، لأن وقوع هذه الأشياء خبرا للمبتدأ قليل في الاستعمال ، وذلك لأن كون الجملة الطلبية فعلية ، أولى إن أمكن ، لاختصاص الطلب بالفعل ، ألا ترى إلى اقتضاء حروف الطلب للفعل ، كحرف الاستفهام والعرض والتحضيض.

وأما قوله تعالى : (بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَباً بِكُمْ)(٤) ، فلم يمكن جعلها فعلية ، بتغيير إعراب ، كما أمكن ذلك في نحو : زيد اضربه ، وكذا في نحو : هل زيد ضارب ، وزيد هل هل ضربته ، وعمرو ألا تضربه.

__________________

(١) قائله : أبو مروان النحوي يذكر قصة المتلمس وما حدث له مع طرفة حين غضب عليهما عمرو بن المنذر وكتب لهما كتابين إلى عامله بالبحرين أوهمهما أنه طلب منه أن يعطيهما جائزة ، وفي الطريق فتح المتلمس كتابه فوجد فيه انه يأمر عامله بقتلهما فألقى الصحيفة في النهر وهرب ولم يرض طرفة بفتح رسالته وذهب بها إلى عامل الملك بالبحرين فقتله وكان ذلك بسبب هجوهما له. وانظر الشاهد رقم ١٤٨ في ص ٤٣٣ من هذا الجزء. ويقول أبو مروان بعد هذا البيت :

ومضى يظن بريد عمرو خلفه

خوفا وفارق أرضه وقلاها

(٢) أي بقيتها مثل الاستفهام والتمني وغيرهما.

(٣) أي الأمر والنهي والدعاء.

(٤) الآية ٦٠ من سورة ص.

٤٥٥

وأما قولهم : إن قلّة نحو : زيد اضربه ، ولا تضربه بالرفع لمناقضة الخبر الذي هو محتمل للصدق والكذب لهذه الثلاثة الطلبية التي لا تحتملها إلا بتأويل بعيد مخرج (١) للأمر والنهي والدعاء عن حقيقتها كقولك في زيد اضربه : زيد أطلب منك ضربه ؛ فمنقوض (٢) بأنه يكثر في الجملة الاسمية تصدرها بما يخرجها عن كونها خبرية ، مع أنه يسمى بها الخبر خبر المبتدأ ، نحو : أزيد منطلق؟ وليتك عندنا ، وكذا يكثر : زيد من أبوه ، وعمرو هل ضربته ، وزيد ليتك قتلته ؛ ولا يجب في خبر المبتدأ احتماله للصدق والكذب ، وإنما سمّي خبرا اصطلاحيا ، كما أن الفاعل سمّي به (٣) فاعلا ، ولم يصدر الفعل منه في بعض المواضع.

فنقول : لما كان الطلب من قرائن النصب كما ذكرنا ، و «أمّا» ليست من قرائن الرفع ، كما بيّنا ، بقي التعارض في : أما زيد فاضربه ، بين الطلب ، وأصالة السلامة من الحذف والتقدير ، وترجيح الطلب لكثرة استعمال الحذف والتقدير في كلامهم ، وقلة استعمال الطلبية اسمية ، مع إمكان جعلها فعلية بمجرد تغيير إعراب.

وأما «إذا» المفاجأة ، فهي في ضعف الاستئناف بعدها مثل حتى ، ولهذا لا تقع في صدر كلام من دون أن يتقدمها شيء ، كما تقع «أمّا» لكن النحاة قالوا : إنها إذا جامعت حرفا عاطفا على الجملة الفعلية ، فهي غالبة على العطف ، بمعنى أن الرفع ، إذن ، أولى من النصب مع جواز النصب ، نحو : قام زيد وإذا بكر يضربه عمرو.

وفيما قالوا نظر ، وذلك أنهم اتفقوا على أنها لا تجيء بعدها إلا الاسمية ، فرقا بينها وبين «إذا» الشرطية من أول الأمر ، فقياس هذا وجوب الرفع بعدها مع مجيئها بعد العاطف ؛ بلى ، لو سمع نصب ما بعدها مع العاطف المذكور ، لكان لهم أن يقولوا : خالفت أصلها في هذا الموضع الخاص رعاية للتناسب المطلوب عندهم ، وفي غير هذا الموضع يجب

__________________

(١) صفة لتأويل وقوله بعد ذلك كقولك في : زيد اضربه ... الخ بيان لهذا التأويل البعيد.

(٢) أي هذا القول الذي حكاه عنهم.

(٣) أي بالاصطلاح.

٤٥٦

رفعها ، نحو : زيد في الدار وإذا عمرو يضربه ، وأما مع عدم السماع فالأصل منعه بناء على الاجماع المذكور.

* * *

اختيار النصب

قال ابن الحاجب :

«ويختار النصب بالعطف على جملة فعلية للتناسب وبعد حرفي»

«النفي والاستفهام ، وإذا الشرطية وحيث ، وفي الأمر والنهي ،»

«وعند خوف لبس المفسر بالصفة مثل «إنا كلّ شيء خلقناه»

(بقدر) (١).

قال الرضى :

هذه قرائن يختار معها النصب في الاسم المذكور.

قوله : «بالعطف على جملة فعلية ، نحو : قام زيد ، وعمرا أكرمته ، وكذا مع «لكن» وبل» وذلك لتناسب المعطوف والمعطوف عليه في كونهما فعليتين ، وكذا في : مررت برجل ضارب عمرا وهندا يقتلها ، لعطفه على مشابه الفعل.

وأما في نحو : أحسن بزيد ، وعمرو يضربه ، فلا يترجح النصب ، لكون فعل التعجب لجموده وتجرده عن معنى العروض ، لاحقا بالأسماء.

كذا قال سيبويه ، والظاهر أن الثانية اعتراضية لا معطوفة ،

قوله : «وبعد حروف النفي» ؛ هي : لا ، وما ، وإن ، نحو قوله :

__________________

(١) الآية ٤٩ من سورة القمر.

٤٥٧

١٥٣ ـ فلا حسبا فخرت به لتيم

ولا جدا إذا ازدحم الجدود (١)

وكذا ما زيدا ضربته.

وإنما اختير النصب فيها مع جواز الرفع ، لأن النفي في الحقيقة لمضمون الفعل ، فايلاؤه لفظا أو تقديرا لما ينفي مضمونه أولى ، وليس «لم» و «لمّا» و «لن» من هذه الجملة (٢) ، إذ هي عاملة في المضارع ، ولا يقدر معمولها لضعفها في العمل ، فلا يقال : لم زيدا تضربه ، ولا : لن بكرا تقتله ، كما يقال : إن زيدا تضربه أو ضربته ؛ لقوة «إن» بجزمها للفعلين ، وأما ليس ، فيمن قال إنه حرف ، فليس أيضا من هذا الباب ، لأن ما بعده واجب الرفع بكونه اسمه والجملة بعده خبره ، نحو : ليس زيد ضربته ، وبعض من قال بحرفيتها جوّز إلغاءها عن العمل ، الغاء «ما» (٣) ، استدلالا بقولهم : ليس الطيب إلا المسك كما يجيء في باب «ما» ، ويحمل عليه قولهم : ليس خلق الله مثله ، أي ما خلق الله ... فيجيز : ليس زيدا ضربته ، على إلغاء «ليس».

والوجه أن ليس خلق الله .. من باب توجيه الفعلين إلى مرفوع واحد ، وخلق ، خبر ليس ، ويجوز أن يكون اسم ليس ، فيه (٤) وفي قولك : ليس زيدا ضربته : ضمير الشأن ، والمفسّر جملة فعلية ، كما في قوله تعالى : (فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ)(٥).

قوله : «وحرف الاستفهام» ؛ علة أولويته بالفعل كعلّة أولوية حرف النفي به ؛ قال سيبويه : ليس جواز الرفع في الهمزة كجوازه في نحو : قام زيد وعمرو كلمته ، يعني أن

__________________

(١) روي بالوجهين : الرفع والنصب. وهو من شعر جرير يهجو الفرزدق وفي هذه القصيدة يقول جرير :

ويقضي الأمر حين تغيب تيم

ولا يستأذنون وهم شهود

وفيها أيضا :

أتيما تجعلون إلى تميم

بعيد فضل بينهما بعيد

(٢) أي من جملة حروف النفي التي يترجح النصب بعدها.

(٣) أي مثل إلغاء «ما».

(٤) أي في المثال : ليس خلق الله مثله.

(٥) الآية ٤٦ من سورة الحج.

٤٥٨

الرفع في الثاني أحسن ، فليس طلب المشاكلة بين المعطوف والمعطوف عليه إذا كان المعطوف عليه جملة فعلية في اقتضاء النصب ، كهمزة الاستفهام ، بل الهمزة أشد اقتضاء له ، وكذا جعل سيبويه الرفع بعد حروف النفي أحسن منه بعد الهمزة ، وذلك لأن الجملة مع الهمزة تصير طلبية ، وكون الطلبية فعلية ، أولى إن أمكن ، كما ذكرنا ، ولا تصير مع حرف النفي طلبية.

واعلم أن للاستفهام حرفين : أحدهما عريق فيه وهو الهمزة ، فهي تدخل على الفعلية نحو : أضرب زيد؟ وعلى الاسمية الخالية من الفعل نحو : أزيد خارج؟ وعلى الاسمية التي خبر المبتدأ فيها فعلية نحو : أزيد خرج.

وثانيهما دخيل فيه وهو «هل» التي أصلها أن تكون بمعنى «قد» اللازمة للفعل ، كما يجيء في قسم الحروف ، فهي تدخل على الفعلية ، وعلى الاسمية التي ليس خبر المبتدأ فيها فعلية ، نحو : هل زيد قائم؟ لمشابهة الهمزة ؛ وأما الاسمية التي جزؤها الثاني فعلية فلا تدخل عليها إلا على قبح ، نحو : هل زيد خرج؟ ، لأنها إذا لم تجد فعلا ، تسلّت عنه ، فإن كان أحد جزأي الجملة التي تدخلها فعلا تذكرت الصحبة القديمة ، فلا ترضى إلا بأن تعانقه فيجب أن توليه إياها ، وكذا يقبح دخولها على فعلية مع الفصل بينها وبين الفعل باسم ، نحو : هل زيدا ضربت ، وعلى فعلية مقدر فعلها مفسّرا بفعل ظاهر نحو : هل زيدا ضربته ، والنصب ههنا أحسن القبيحين.

وقد مرّ الخلاف بين سيبويه والأخفش في أن الرفع أولى أو النصب ، في نحو : أأنت زيدا ضربته ، والوفاق في اختيار النصب إذا فصل بظرف في نحو : آليوم زيدا ضربته.

والأسماء المتضمنة للاستفهام مثل «هل» ، تدخل على فعلية فعلها ملفوظ به ، ويقبح نحو : متى زيدا ضربت ، ومتى زيد خرج؟ فالرفع في : متى زيد ضربته أقبح القبيحين ، كما ذكرنا في «هل».

ويحسن : متى زيد خارج ؛ كل ذلك لأن كلّ متطفل على شيء فحقه (١) لزوم أصل

__________________

(١) الفاء في مثل هذا جائزة ، كما تقدم في آخر باب المبتدأ ص ٢٧٠ من هذا الجزء.

٤٥٩

المتطفّل عليه إذا أمكن ؛ وأصل همزة الاستفهام دخولها على الفعل صريحا.

وإنما جاز بلا قبح نحو : متى زيد قائم ، لأن الفعل معدوم.

وإن كان المتضمن للاستفهام هو الاسم المحدود ، فرفعه أولى ، نحو : أيهم ضربته كما في : زيد ضربته ، والعلة كالعلة.

قوله : «وإذا الشرطية» ، فيها خلاف ، نقل عن الكوفيين أنها كإذ في وقوع الجملتين بعدها ، إلا أن الجملة الاسمية لا بد أن يكون الخبر فيها فعلا ، إلا في الشاذ ، كقوله :

١٥٤ ـ فهلّا أعدوني لمثلي تفاقدوا

إذا الخصم أبزى مائل الرأس انكب (١)

ونقل عن سيبويه والأخفش موافقتهم في جواز وقوع الاسمية المشروطة بعدها ، لكن على ضعف.

والأكثر كونها عندهما فعلية ، إما ظاهرة الفعل نحو : إذا جاء زيد ، أو مقدرة ، نحو : (إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ)(٢) ، أي إذا انشقت السماء.

ونقل عن المبرد اختصاصها بالفعلية فيجب عنده تأويل نحو : (إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ) بالفعلية أي إذا انشقت السماء ، فقوله : وإذا الشرطية ، يعني على مذهب سيبويه والأخفش ، وإنما اختارا بعدها الفعلية ، لأن الشرط بالفعل أولى ، كالنفي والاستفهام.

وإنما لم يوجبا الفعل بعدها ، كما فعل المبرد ، لأنها ليست عريقة في الشرط ، كإن ، ولو ، ولا ظاهرة في تضمن معناه ، كمن ومتى ، على ما يجيء في الظروف المبنية.

__________________

(١) الأبزى على وزن أفعل : الصفة المشبهة ومؤنثه بزواء ، الذي يبرز صدره ويدخل ظهره. ويقصد به : المتحامل على خصمه ليقتله أو المخاتل المخادع. والأنكب المائل. وهذا من أبيات أوردها أبو تمام في باب الحماسة لبعض بني فقعس ولم يذكر اسمه ، وهو يتحدث فيها عن قومه الذي قعدوا عن نصرته ، إذ يقول فيها :

رأيت مواليّ الأولى يخذلونني

على حدثان الدهر إذ يتقلب

ومن هذه الأبيات قوله بعد ذلك :

كأنك لم تسبق من الدهر ليلة

إذا أنت أدركت الذي كنت تطلب

(٢) أول سورة الانشقاق.

٤٦٠