بوارق القهر في تفسير سورة الدّهر

الملّا حبيب الله الشريف الكاشاني

بوارق القهر في تفسير سورة الدّهر

المؤلف:

الملّا حبيب الله الشريف الكاشاني


المحقق: مؤسّسة شمس الضحى الثقافيّة
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسّسة شمس الضحى الثقافيّة
المطبعة: نگارش
الطبعة: ١
ISBN: 964-95245-4-1
الصفحات: ٣٥٦

إذا علمت ذلك فاعلم أنّ للوجود لوازم تترتّب عليه بحسب الموادّ والقوابل ، واختلافها يوجب الاختلاف في تلك اللوازم ، وذلك الاختلاف ليس ناشئا عن الوجود ؛ إذ فيض الحقّ تعالى بالوجود سواء بالنسبة إلى كلّ شيء كفيض نور الشمس على التفصيل المقرّر في مقامه ، بل ناش عن اختلاف المهيّات بحسب اختلاف القابليّات والاستعدادت الأوّليّة ، فإنّ تلك الاستعدادات كانت مركوزة مكنونة في الماهيّات كركوز النار في الزناد ، والثمار في البذور.

ويسمّى ذلك بكمون المفصّل في المجمل ، ولكنّها يحتاج بروزها إلى السبب ، وهو طلب الماهيّات الموجود بلسان الاستعداد ، وإيجادها بالقدرة الكاملة إجابة للطلب السابق ، فلمّا اتّصفت بالوجود الموهوب المسئول برز ما كان فيها من مكنون الاستعداد ، وكشف الغطاء عن آثارها بذلك الوصف.

فالشقيّ في هذا المشهد العنصريّ هو الّذي كان شقيّا ، أي مستعدّا للشقاوة في عالم الغيب الأوّل وهو عالم علم الحقّ القديم ، والسعيد في هذا المشهد هو المستعدّ للسعادة في عالم الغيب.

ولا يمكن للأوّل أن يفوز بالآثار الّتي يفوز بها الثاني وإن بلغ في السعي طول عمره ، وكذا ليس للثاني أن يحرم عن لوازم وجوده وقضيّة استعداده وقابليّته كما عليه الحديث.

ولا يلزم في ذلك سؤال على الحقّ تعالى ، ولا اعتراض عليه ، فإنّ إفاضته بالنسبة إلى الكلّ كانت واحدة ، وكذا ما يترتّب على تلك الإفاضة من القدرة

٣٤١

والإرادة ، فإنّ إفاضته تعالى لكلّ ذلك كانت واحدة أيضا.

كيف لا وهذه من لوازم الوجود الّذي كان فيضه على الكلّ بالسويّة ، إلّا أنّ كلّا يقبل من تلك اللوازم ما هو مكنون في استعداده أزلا.

بمعنى أنّ الشقيّ يقبل الوجود مع الشقاوة ، وكذا السعيد يقبل الوجود مع السعادة ، فالنقص إنّما هو من قبل المهيّة ظهر أطواره بالوجود الّذي هو الفيض العامّ الإلهيّ ، وما ظلم الله تعالى شيئا حيث أوجده ، فإنّه ما أحدث جعلا حتّى يعترض الشقيّ بأنّه لم جعلتني كذا ولم تجعلني سعيدا ، بل أعطاه لباس الوجود بسؤاله بلسان الاستعداد ، فبرز ما كان مكنونا فيه أوّلا على التفصيل المقرّر المتقدّم (وَما ظَلَمَهُمُ اللهُ وَلكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) (١) أي ما أجبرهم على الشقاوة ، بل كانت مكنونة في ذاتيّاتهم.

وقال : (ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ) (٢) أي بما قبلته ماهيّاتهم بحسب الاستعداد الأزليّ.

وقال : (ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ وَكانُوا بِها يَسْتَهْزِؤُنَ) (٣) أي كان عاقبة الّذين كانت مهيّاتهم في الأزل مغروزة على الشقاوة والإساءة في ذلك المشهد الشقاوة والإساءة ؛ حيث كذّبوا بآيات الحقّ واستهزؤا بها ، فإنّ التكذيب من آثار الشقاوة الأزليّة.

والحاصل أنّ للأشياء ثبوتا أزليّا ؛ بمعنى كونها معلومة للحقّ ، متعلّقة

__________________

(١) آل عمران : ١١٧.

(٢) آل عمران : ١٨٢ ، الأنفال : ٥١.

(٣) الروم : ١٠.

٣٤٢

لعلمه ، مقرّرة فيه ، ولذلك يسمّى بالأعيان الثابتة ، والحقائق الأزليّة.

والقول بنفي وجودها الأزليّ لقوله عليه السلام كان عالما ؛ حيث لا معلوم ممّا لم يساعده برهان ، فانّ إثبات العلم الأزليّ للحقّ مستلزم لإثبات الأعيان الثابتة المعلومة. كيف والعلم من الأمور الإضافيّة ؛ بمعنى أنّه يجب تعلّقه بمعلوم ، وقياسه بنور الشمس باطل.

والاستدلال بقوله عليه السلام غير ناهض ، لأنّ المراد بنفي المعلوم نفي وجوده الخارجيّ لا الثبوتيّ التقريريّ.

وقوله عليه السلام : كان شيئا ولم يكن مذكورا (١) ، وقوله عليه السلام : كان مذكورا في العلم ولم يكن مذكورا في الخلق ... (٢) إلى آخره ، من الشواهد الواضحة على المطلوب.

وبالجملة : علمه الأزليّ بالأشياء غير مؤثّر في أمر الشقاوة والسعادة. كيف وقد عرفت أنّهما كانا من قضيّة الماهيّة الأزليّة ، فلا ظلم أصلا ؛ حيث لا جعل من الله الحقّ تعالى ، ولا صنع إلّا إيجاد الماهيّة ، وإطراء الوجود عليها ، فلا بدّ من المهيّة المستعدّة للشقاوة من ظهور آثارها منها في المشهد الآخر ، وكذا المهيّة السعيدة.

وكلّ ذلك بإذن الله ، أي بعلمه ؛ كما قال الصادق عليه السلام : إنّ الله خلق الخلق فعلم ما هم صائرون إليه ، وأمرهم ونهاهم ، فما أمرهم به من شيء فقد

__________________

(١) المحاسن ١ : ٢٤٣.

(٢) بحار الأنوار ٥٧ : ٣٢٨.

٣٤٣

جعل لهم السبيل إلى تركه ، ولا يكونون آخذين ولا تاركين إلّا بإذن الله (١).

وجعل السبيل والاختيار من حيث الإفاضة واللطف لا ينافي نقص الاستعداد عن قبول ذلك ، والنقص من جهة القابل لا يوجب الظلم من المفيض.

وهذا هو الأمر بين الأمرين الّذي أشار إليه الصادق عليه السلام وغيره من المعصومين ، فإنّه تعالى ما أجبرهم على ذلك الاختيار والإرادة ، بل أفاض عليهم بإفاضة واحدة ، وما فوّض إليهم الأمر ، بل أعطاهم الوجود الّذي من لوازمه تلك الأمور ، فلا جبر ولا تفويض ، بل أمر بين الأمرين. وهو الإيجاد ومقام الاستعداد للضلالة والرشاد الّذي اختلفت فيه مهيّات العباد.

هذا عامّة شرح ما يمكن أن يقال في هذا المجال ، ولكنّ الإنصاف أنّ هذه المسألة من فروع مسألة القدر الّذي هو السرّ المستسرّ ، وقد قيل إنّه من الأسرار الّتي تعلم ولا يتكلّم بها ، ولكنّي أقول : إنّه ممّا لا يعلم ولا يتكلّم به ، وإنّما نعلم في ذلك هو العدل الإلهيّ ، فهو المطمأنّ به في كلّ باب. فالحمد لله العليّ الوهّاب.

البارقة الخامسة : قوله : (إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً) كأنّه تعليل لما تقدّم من أنّ العباد لا يريدون شيئا إلّا ما هو المطابق للعلم الأزليّ ، فإنّه تعالى هو العليم بكلّ شيء قبل وجود كلّ شيء كما قال : علم بما كان قبل أن يكون ... إلى آخره.

فالقول بأنّ العلم يتعلّق بالمعلوم بعد وجوده ، بمعزل عن التحقيق ، لاستلزامه نفي العلم الأزليّ.

__________________

(١) الكافي ١ : ١٥٨.

٣٤٤

وما قيل من أنّ تعلّق العلم الأزليّ بالمعلوم أزلا مستلزم لتعدّد القدماء ، وهو باطل موهون بأنّ تعدّد القدماء إنّما يبطل وينافي التوحيد لو قيل بالآلهة المتعدّدة القديمة ؛ كما سبق التفصيل.

وما روي من أنّ العلم ذاته ولا معلوم ، والسمع ذاته ولا مسموع ، والبصر ذاته ولا مبصر ، والقدرة ذاته ولا مقدور ، فلمّا أحدث الأشياء وكان المعلوم وقع العلم منه على المعلوم ... إلى آخره ، لا ينافي ما قرّرناه ، لاحتمال أن يكون المراد بنفي المعلوم نفي وجوده الخارجيّ لا وجوده التقريريّ في الذات القديم.

وفي قوله «فلمّا أحدث الأشياء ...» إلى آخره ، إشارة إلى علمه الحادث المقارن لحدوث الأشياء بإيجادها المطابق للعلم الأزليّ الّذي لا يتغيّر ولا يتبدّل. كيف وهو مستلزم لتغيّر الذات وتبدّله وبطلانه بديهيّ.

قيل : إنّ تعلّق علمه بالمفهومات في الأزل ، فلا يخلو إمّا أن تكون موجودة ذهنا أو خارجا ، فيجب القول بثبوت الأعيان. وهو مذهب الصوفيّة المستلزم لتعدّد القدماء.

على أنّ المفهومات حينئذ لا تخلو إمّا قائمة بنفسها ، أو بغيرها ، وعلى الأوّل يلزم اتّحاد الحال والمحلّ ، وعلى الثاني يلزم تقارنها مع الذات. وفيه نظر يظهر وجهه بأدنى تأمّل.

وممّا يدلّ على المختار ما في الكافي عن محمّد بن مسلم ، عن أبي جعفر عليه السلام قال : سمعته يقول : كان الله ولا شيء غيره ، ولم يزل عالما

٣٤٥

بما يكون ، فعلمه به قبل كونه كعلمه به بعد كونه (١) ، ونفي الشيء لا يقتضي نفي الثبوت ، فليتأمّل.

وعن أيّوب بن نوح أنّه كتب إلى أبي الحسن عليه السلام يسأله عن الله أكان يعلم الأشياء قبل أن خلق الأشياء وكوّنها ، أو لم يعلم ذلك حتّى خلقها ، أو أراد خلقها وتكوينها ، فعلم ما خلق عند ما خلق ، وما كوّن عند ما كوّن؟ فوقّع بخطّه : لم يزل الله عالما بالأشياء قبل أن يخلق الأشياء كعلمه بالأشياء بعد ما خلق الأشياء (٢).

وعن محمّد بن حمزة قال : كتبت إلى الرجل عليه السلام أسأله أنّ مواليك اختلفوا في العلم ؛ فقال بعضهم : لم يزل الله عالما قبل فعل الأشياء ، وقال بعضهم : لا نقول لم يزل الله عالما ، لأنّ معنى يعلم يفعل ، فإنّ أثبتنا العلم فقد أثبتنا في الأزل معه شيئا ، فإن رأيت ـ جعلني الله فداك ـ أن تعلّمني من ذلك ما أقف عليه ولا أجوزه؟ فكتب بخطّه عليه السلام : لم يزل الله عالما تبارك وتعالى ذكره (٣).

ومثله رواية فضيل.

هذه الأخبار صريحة في المطلوب ، بل بعضها مشعر بثبوت الأعيان في علمه أزلا ؛ كما لا يخفى على المتدبّر.

ولا بأس بالاستدلال بها على أنّ علمه في الأزل متعلّق بالجزئيّات والكلّيّات ؛ كما هو مذهب المشهور من الحكماء ، وتفصيل القول في تلك

__________________

(١) الكافي ١ : ١٠٧.

(٢) الكافي ١ : ١٠٧.

(٣) الكافي ١ : ١٠٧.

٣٤٦

المسألة مسطور في كتب الحكمة والكلام ، وليست تلك الرسالة محلّ التعرّض له.

وفي قوله (حَكِيماً) إشارة إلى أنّ جميع أفعاله مبتنية على المصلحة والعدل الّذي هو إعطاء كلّ مستعدّ قضيّة استعداده.

قيل : فيه إشارة إلى إيجاد كلّ الموجودات على أحكم وجه وأيقنه ، وجذب كلّ ناقص منها من مبدئه إلى كماله جذبا ملائما له.

السادسة : في قوله : (يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ) إلى آخره ، إشارة إلى ما مرّ من مقام الاستعداد لأمر الضلال والرشاد ، أي يهدي إلى الصراط المستقيم وهو الدخول في لجّة التوحيد من يعلمه مستعدّا لقبول ذلك الأمر بعلمه الأزليّ بحسب القضاء المستلزم للإمضاء في ذلك المشهد ؛ بخلاف من لا يعلمه مستعدّا لذلك المقام ، فإنّه يضلّه بأن يظهر آثار استعداده للكفر بالإيجاد ؛ كما قال : (وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ) (١).

وقال : (وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ) (٢).

وقال : (وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ما زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلكِنَّ اللهَ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (٣).

وقال : (مَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) (٤).

ومن هنا يظهر السرّ في عدم تبديل القضاء الأزليّ في أمر السعادة

__________________

(١) النور : ٤٠.

(٢) الرعد : ٣٣ ، الزمر : ٢٣ ، ٣٦ ، غافر : ٣٣.

(٣) النور : ٢١.

(٤) الأعراف : ١٧٨.

٣٤٧

والشقاوة ، وعدم تغيير العلم القديم فيهما ، والأخبار على ذلك شاهدة.

وقد روى ثابت بن سعيد عن أبي عبد الله عليه السلام قال : قال يا ثابت ، مالكم وللناس؟ كفّوا عن الناس ولا تدعو أحدا إلى أمركم! فو الله لو أنّ أهل السماوات وأهل الأرض اجتمعوا على أن يهدوا عبدا يريد الله ضلاله ما استطاعوا على أن يهدوه ، ولو أنّ أهل السماوات والأرضين اجتمعوا على أن يضلّوا عبدا يريد الله هدايته ما استطاعوا أن يضلّوه ، ولا يقل أحد عمّي وأخي وابن عمّي وجاري ، فإنّ الله إذا أراد بعبد خيرا طيّب روحه ، فلا يسمع معروفا إلّا عرفه ، ولا منكرا إلّا أنكره ، ثمّ يقذف الله في قلبه كلمة يجمع بها أمره (١).

وعن ابن خالد عنه عليه السلام قال : إنّ الله إذا أراد بعبد خيرا نكت في قلبه نكتة من نور ، وفتح مسامع قلبه ، ووكّل به ملكا يسدّده ، وإذا أراد بعبد سوء نكت في قلبه نكتة سوداء ، وسدّ مسامع قلبه ، ووكّل به شيطانا يضلّه ، ثمّ تلا هذه الآية : (فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ) (٢).

السابعة : لا بأس بتفسير إدخاله تعالى من يشاء في رحمته بإلهام من يعلمه مستعدّا معرفة الحجّة من آل محمّد صلّى الله عليه وآله ؛ كما قال الباقر عليه السلام : إنّ الله إذا كتب على عبد أن يدخل في هذا الأمر كان أسرع إليه من الطير إلى وكره (٣).

__________________

(١) الكافي ١ : ١٦٥.

(٢) الأنعام : ١٢٥.

(٣) الكافي ١ : ١٦٦.

٣٤٨

وعن فضيل بن يسار قال : قلت لأبي عبد الله عليه السلام : ندعوا الناس إلى هذا الأمر؟ فقال : لا يا فضيل ، إنّ الله إذا أراد بعبد خيرا أمر ملكا فأخذ بعنقه فادخل في هذا الأمر طائعا أو كارها (١).

وأمّا غير المستعدّ لذلك المقام ، فليس له الفوز بمعرفة الإمام. كيف والجاهل عقابه لا يمكن له إدراك معرفة الله ورسوله ؛ إذ الإمام عليه السلام هو الصراط المستقيم ، والسبيل القويم إلى معرفتهما ، وهو الباب لمدينة التوحيد ، والسالك إلى الحقّ في غير السبيل إنما هو كالأعمى السالك بغير الدليل ، والداخل في المدينة بغير باب التوحيد ، ينادى من مكان بعيد ، وهو الضالّ الّذي لا يمكنه الاهتداء إلى مقام الصدق والصفاء ، والكافر الّذي أشار إليه بقوله : (وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً) (٢) وأيّ عذاب أشدّ من عذاب الجهل بمقام الإمام ، وأيّ نار أسعر من نار البعد عن محلّة محبّة الأئمّة الكرام عليهم الصلاة والسلام؟

قال مولانا ومولى كلّ ما في الإمكان أمير المؤمنين عليّ عليه صلاة الله الملك المنّان : نحن الأعراف الّذين لا يعرف الله إلّا بسبيل معرفتنا ، ونحن الأعراف يعرّفنا الله يوم القيامة على الصراط ، فلا يدخل الجنّة إلّا من عرفنا وعرفناه ، ولا يدخل النار إلّا من أنكرنا وأنكرناه ، إنّ الله لو شاء لعرّف العباد نفسه ، ولكن جعلنا أبوابه وصراطه وسبيله ، والوجه الّذي يؤتى منه ، فمن عدل عن ولايتنا أو فضّل علينا غيرنا ، فإنّهم عن الصراط لناكبون.

__________________

(١) الكافي ١ : ١٦٧.

(٢) الإنسان : ٣١.

٣٤٩

وعن أبي جعفر عليه السلام : والله يا محمّد ، من أصبح من هذه الأمّة لا إمام له من الله أصبح ضالّا تائها ، وإن مات على هذه الحالة مات ميتة كفر ونفاق.

واعلم يا محمّد أنّ أئمّة الجور وأتباعهم لمعزولون عن دين الله ، قد ضلّوا وأضلّوا ، فأعمالهم الّتي يعملونها (كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلى شَيْءٍ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ) (١).

وعن بريد قال : سمعته عليه السلام يقول في قوله الله : (أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ) (٢) فقال : ميتا : لا يعرف شيئا ، ونورا يمشي به في الناس : إمام يأتمّ به (كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها) (٣) قال : الّذي لا يعرف الإمام (٤).

خاتمة : قال الباقر عليه السلام : من قرأ هل أتى على الإنسان كلّ غداة من الخميس روّحه الله من الحور العين ثمانمائة عذراء ، وأربعة آلاف ثيّب ، وكان مع محمّد صلّى الله عليه وآله (٥).

أقول : لا يخفى أنّ المراد بالقراءة هي القراءة المرعيّ فيها الشرائط والآداب المقرّرة عند أهل الحال ، فإنّ لله تعالى تجلّيات برقانيّة في كتابه ؛ يفوز بها من يقرؤه بالقراءة الحقيقيّة ، فيلتذ بمخاطبات الحقّ تعالى التذاذ العاشق من كلام معشوقه.

وهذا هو السرّ في تأكّد الأمر في القرآن وغيره بالتدبّر في الآيات ،

__________________

(١) إبراهيم : ١٨.

(٢ و ٣) الأنعام : ١٢٢.

(٤) الكافي ١ : ١٨٥.

(٥) وسائل الشيعة ٦ : ١٢٢.

٣٥٠

والتفكّر في حقائق الكلمات ، فإنّ ذلك يرشد المستعدّ إلى درجات العرفان ، ويهديه إلى حقائق القرآن ، ودقائق البيان.

ولعلّ التزويج بالحور العين كناية عن تلك الدرجة من الإيقان.

ولا شكّ أنّ الفائز بذلك المقام مصاحب لمحمّد صلّى الله عليه وآله سيّد الأنام ، كيف ولا يفوز بتلك الدرجة إلّا من عرف مقام محمّد صلّى الله عليه وآله بحسب إمكانه ، وأيقن بمقام استعداده صلّى الله عليه وآله لقبول تجلّيات الحقّ في تلك المخاطبات الذوقيّة ، والمحاضرات الشوقيّة.

وقال الصادق عليه السلام : والله لقد تجلّى الله لخلقه في كلامه ولكن لا يبصرون (١).

وقال أيضا وقد سألوه عن حالة لحقته في الصلاة حتّى خرّ مغشيّا عليه ، فلمّا أفاق قيل له في ذلك ، فقال : ما زلت اردّد الآية على قلبي وعلى سمعي حتّى سمعتها من المتكلّم بها ، فلم يثبت جسمي لعناية قدرته (٢).

وفي مصباح الشريعة : من قرأ القرآن ولم يخضع لله ولم يرقّ قلبه ولم ينشئ حزنا ووجلا في سرّه فقد استهان بعظم شأن الله ، وخسر خسرانا مبينا ، فقارئ القرآن يحتاج إلى ثلاثة أشياء : قلب خاشع ، وبدن فارغ ، وموضع خال ، فإذا خشع لله قلبه فرّ منه الشيطان الرجيم ، قال الله : (فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ) (٣).

__________________

(١) عوالي اللئالي ٤ : ١١٦.

(٢) الخرائج ٢ : ٩٣١.

(٣) النحل : ٩٨.

٣٥١

وإذا تفرّغت نفسه من الأسباب تجرّد قلبه للقراءة ، فلا يعترضه عارض فيحرمه بركة نور القرآن وفوائده ، وإذا اتّخذ مجلسا خاليا واعتزل من الخلق بعد أن اتى بالخصلتين الأوليين استنارت روحه وسرّه بالله ، ووجد حلاوة مخاطبات الله لعباده الصالحين ، وعلم لطفه بهم ، ومقام اختصاصه لهم بفنون كراماته ، وبدائع إشاراته ، فإذا شرب كأسا من هذا المشرب فحينئذ لا يختار على ذلك الحال حالا ، وعلى ذلك الوقت وقتا ، بل يؤثره على كلّ طاعة وعبادة ، لأنّ فيه المناجاة مع الربّ بلا واسطة.

فانظر كيف تقرأ كتاب ربّك ، ومنشور ولايتك ، وقف عند وعده ووعيده ، وتفكّر في أمثاله ومواعظه ، واحذر أن تقع من إقامتك حروفه في إضاعة حدوده.

وفي الكافي عن رسول الله صلّى الله عليه وآله قال : فإذا التبست عليكم الفتن كقطع الليل المظلم فعليكم بالقرآن ، فإنّه شافع مشفّع ، وما حل مصدّق ، ومن جعله أمامه قاده إلى الجنّة ، ومن جعله خلفه ساقه إلى النار ، وهو الدليل يدلّ على خير سبيل ، وهو كتاب فيه تفصيل ، وبيان وتحصيل ، وهو الفصل ليس بالهزل ، وله ظهر وبطن ، وظاهره حكم ، وباطنه علم ، ظاهره أنيق ، وباطنه عميق ، له تخوم وعلى تخومه تخوم ، لا تحصى عجائبه ، ولا تبلى غرائبه ، فيه مصابيح الهدى ، ومنار الحكمة ، ودليل على المعرفة لمن عرف الصفة ، فليجل جال بصره ، وليبلغ الصفة نظره ، ينج من عطب ، ويتخلّص من نشب ، فإنّ التفكّر حياة قلب البصير ، كما يمشي المستنير في الظلمات

٣٥٢

بالنور ، فعليكم بحسن التخلّص ، وقلّة التربّص (١).

ولقد أشرنا في تلك الرسالة إلى أسرار مستسرّة ؛ لا يدركها إلّا مؤمن امتحن الله قلبه للإيمان.

گر نبودى خلق محجوب وكثيف

ور نبودى حلقها تنگ وضعيف

در بيانش داد معنى دادمى

غير ازين منطق لبى بگشادمى

تمّت الرسالة الشريفة على يد مصنّفها الآنس بحضرة الله ، الآيس عن غير الله ؛ ابن علي مدد حبيب الله في يوم الأحد العاشر من جمادى الاولى سنة ١٢٧٨ ه‍.

__________________

(١) الكافي ٢ : ٥٩٨.

٣٥٣
٣٥٤

فهرس موضوعات الكتاب

ترجمة المفسّر.................................................................... ٥

بوارق القهر في تفسير سورة الدهر............................................... ٧

(هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً) (١).................... ٨

بوارق...................................................................... ٢٢

(إنّا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعاً بصيراً) (٢)................ ٢٨

بوارق...................................................................... ٢٨

(إنّا هديناه السبيل إمّا شاكراً وإمّا كفوراً) (٣)................................... ٦١

بوارق...................................................................... ٦٦

في مذهب الواصلية من الصوفية............................................... ٧٣

في مذهب الفرقة البابيّة المبتدعة............................................... ٧٥

(إِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَلاسِلَ وَأَغْلالاً وَسَعِيراً) (٤)................................ ٧٨

بوارق...................................................................... ٨٩

في مذهب البابية المرتدة...................................................... ٩٦

(إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كانَ) (٥ ـ ٦)................................. ١٠٠

بوارق.................................................................... ١٠٢

(يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخافُونَ يَوْماً) (٧ ـ ٩)..................................... ١٢٧

بوارق.................................................................... ١٣٢

(إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً) (١٠)............................... ١٦١

٣٥٥

تنبيهات................................................................... ١٦٢

تنبيهان................................................................... ١٦٤

(فَوَقاهُمُ اللهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً) (١١ ـ ٢٢)........................ ١٦٧

بوارق.................................................................... ١٧١

تنبيهات................................................................... ١٨٤

(إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلاً) (٢٣ ـ ٢٦)............................. ٢١٧

بوارق.................................................................... ٢٢٠

تنبيهات................................................................... ٢٣٨

تنبيهات................................................................... ٢٦٤

(إِنَّ هؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَراءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً) (٢٧)................... ٢٦٧

بوارق.................................................................... ٢٧٥

(نَحْنُ خَلَقْناهُمْ وَشَدَدْنا أَسْرَهُمْ وَإِذا شِئْنا بَدَّلْنا أَمْثالَهُمْ تَبْدِيلاً) (٢٨)............. ٢٨٥

بوارق.................................................................... ٢٨٦

(إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً) (٢٩).......................... ٢٩٠

بوارق.................................................................... ٢٩٢

(وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) (٣٠ ـ ٣١)................................... ٣٠٧

بوارق.................................................................... ٣١٠

بيان لمسألة الجبر والتفويض................................................. ٣١٥

فهرس موضوعات الكتاب................................................... ٣٥٥

٣٥٦