بوارق القهر في تفسير سورة الدّهر

الملّا حبيب الله الشريف الكاشاني

بوارق القهر في تفسير سورة الدّهر

المؤلف:

الملّا حبيب الله الشريف الكاشاني


المحقق: مؤسّسة شمس الضحى الثقافيّة
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسّسة شمس الضحى الثقافيّة
المطبعة: نگارش
الطبعة: ١
ISBN: 964-95245-4-1
الصفحات: ٣٥٦

إلى آخره ، وهي الّتي يشرب منها المقرّبون الصافون الّذين هم خلصاء الله وأحبّاؤه.

فالأبرار هم الشاكرون لنعمة الوجود ، والذاكرون لمراتب التوحيد في عالم الشهود.

والكأس هي كأس العشق والتجريد.

والكافور هو صرف ظهور الحقّ وتجلّيه للعبد في ذلك المقام ، أي مقام التذاذه وشربه من كأس العشق الّتي هي لذّة للشاربين ، حيث لا غول فيها ولا تأثيم ؛ كما أشار إليها في القرآن العظيم.

والمراد بـ «عباد الله» هم الّذين أخلصوا العبوديّة للحقّ معرضين عن كلّ ما في الإمكان ، غامضين عمّا سوى الحقّ بملاحظة أنّ كلّ شيء ما خلا وجهه الكريم باطل مضمحلّ عند التحقيق ؛ كما قال :

ألا كلّ شيء ما خلا الله باطل

وكلّ نعيم لا محالة زائل

وذلك المقام ، أي العبوديّة الخالصة عن جميع الشؤونات الغيريّة أعلى المقامات المقرّرة لجوهر النفس الإنسانيّة ، كيف وهي جوهرة كنهها الربوبيّة ؛ كما أشار إليه الصادق عليه السلام.

وهذا هو السرّ في تقديم «عبده» في التشهّد على «ورسوله» لأنّ الرسالة فرع العبوديّة كما لا يخفى.

وهؤلاء العباد هم العباد الصالحون الّذين أشار إليهم بقوله : أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر بله ما اطّلعتم عليه ... إلى آخره.

١٠١

أي هيّأت للّذين عبدوني خالصين مخلصين صالحين في أفعالهم لذّات روحانيّة لطيفة لا تدركها الأعين الظاهرة ، والأذن الجسمانيّة ، والقلوب البشريّة العنصريّة ، كيف ولإدراك كلّ مدرك آلة مناسبة له ولا مناسبة بين اللذّات الروحانيّة الملكوتيّة وبين الجوارح الجسمانيّة الناسوتيّة.

فقوله : «بله ما اطّلعتم عليه» معناه : إنّ إدراك الروحانيّات غير ممكن بالآلة الجسمانيّة إلّا على طريق الإجمال الّذي [هو] عبارة عن العلم الحاصل لا بطريق اليقين الدركيّ ، فإنّه ينافي التفصيل الّذي [هو] عبارة عن مقام حقّ اليقين. هذا ما سنح لي الآن في تأويل الحديث.

وقد قيل فيه وجوه أخرى تطول بذكرها الرسالة.

بوارق

الأولى : قال الطبرسيّ رحمه الله : «الأبرار» جمع البرّ ، وهو المطيع لله المحسن في أفعاله (١).

وقال الحسن : هم الّذين لا يؤذون الذرّ ، ولا يرضون الشرّ.

وقيل : هم الّذين يقضون الحقوق اللازمة والنافلة.

وقد أجمع أهل البيت وموافقوهم وكثير من مخالفيهم على أنّ المراد بذلك : عليّ وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام ، والآية مع ما بعدها متعيّنة فيهم.

وأيضا : فقد انعقد الإجماع على أنّهم كانوا أبرارا وفي غيرهم خلاف. انتهى.

__________________

(١) مجمع البيان ، المجلّد ٥ : ٦١٦.

١٠٢

أقول : قضيّة الجمع المحلّى العموم ، فيدخل كلّ من أطاع الحقّ ودخل لجّة التوحيد ، من هنا قيل : إنّ الأبرار الّذين ... هممهم عن المحقّرات فظهرت في قلوبهم ينابيع الحكمة.

نعم هنا تحقيق رشيق وهو أنّ هؤلاء المعصومين عليهم السلام أصول البرّ ، وأقطاب الخير ، فكلّ برّ إليهم راجع ، وكلّ خير بهم واقع ، فمن أطاع الله حقّ الطاعة وفاز بالحبّ الخالص الساذج عن الشوائب الغيريّة ، فهو داخل في زمرة هؤلاء ومخلوق من فضل طينتهم ، معدّ في تعدادهم ؛ كما قال : سلمان منّا أهل البيت. انتهى.

وهذا معنى ما ذكره صاحب «الهياكل» من أنّ أرواح الأنبياء أرواح كلّيّة تشتمل كلّ روح منها على أرواح من يدخل في حكمه ويصير من أمّته ، كما أنّ الأسماء الجزئيّة داخلة في الأسماء الكلّيّة ... إلى آخره.

وكذا من عصى الله وأحرم نفسه عن الفوز بمقام الحبّ الخالص فإنّه ليس من زمرتهم ، خارج عن سلسلتهم ؛ كما قال : ومن رغب عن سنّتي فليس منّي (١).

وقال : ليس منّا من خالف الله واتّبع هواه.

ويدلّ على ذلك التقرير الآيات القرآنيّة الدالّة على أنّ المؤمنين بعضهم من بعض ، والكافرين بعضهم من بعض ، والأخبار في ذلك الباب أكثر من أن تحصى.

الثانية : روي عن الباقر عليه السلام أنّه قال في قوله (عَيْناً يَشْرَبُ) ...

__________________

(١) الكافي ٥ : ٤٩٦.

١٠٣

إلى آخره : هي عين في دار النبيّ صلّى الله عليه وآله تفجّر إلى دور الأنبياء والمؤمنين (١). انتهى.

أقول : لعلّ المراد بدار النبيّ صلّى الله عليه وآله هي دار الولاية ، وفيما ذكره عليه السلام من أنّ تلك العين تفجّر ... إلى آخره ، إشارة إلى ما هو المقرّر في مقامه من أنّ الخاتم صلّى الله عليه وآله منشأ لجميع الكمالات.

بمعنى أنّه : ما من كامل نبيّا كان أو وليّا مؤمنا ، إلّا وقد اقتبس العلم والكمال من مشكاة علم النبيّ صلّى الله عليه وآله ، فعلمه صلّى الله عليه وآله علم كلّيّ تامّ ، وعلوم غيره ممّن هو في عالم الإمكان جزئيّات علمه صلّى الله عليه وآله ، فعلمه صلّى الله عليه وآله ينبوع العلوم والحكم يجري إلى المستعدّ لذلك المقام ، أي مقام العلم والعرفان كالأنبياء والمؤمنين العارفين.

وبهذا لقد فضّل نبيّنا صلّى الله عليه وآله على سائر الأنبياء ، لأنّه معلّم الكلّ ، وهاد الجميع إلى الشرف المنيع ، وهو أب الأنبياء كلّهم ؛ حيث ربّاهم بما كان عارفا به من الآداب والأخلاق والعلوم والفضائل ، فهو السابق على الكلّ من حيث المرتبة.

وهذا هو السرّ في قوله : آدم ومن دونه تحت لوائي (٢).

وقال : لو كان موسى حيّا لما وسعه إلّا اتّباعي (٣).

وقال عليه السلام :

__________________

(١) الأمالي ، للصدوق : ٢٦٠.

(٢) انظر : الخرائج ٢ : ٨٧٦ ، عوالي اللآلي ٤ : ١٢١.

(٣) عوالي اللآلي ٤ : ١٢١.

١٠٤

إنّي وإن كنت ابن آدم صورة

فلي فيه معنى شاهد بأبوّتي

أي النفس الآدميّة في مقامها شاهدة بأنّي أنا أبوها ومربّيها وهاديها إلى المقام الّذي هي فيه ، ففيها آيات بيّنات على أبوّتي ، لأنّ كمالها إنّما هو من كمالي ، وجمالها من جمالي. فالمراد بالعين هي عين العلم والحكمة ؛ كما أشرنا إليه سابقا ، وهي «الكوثر» الّذي أعطاه [الله] محمّدا صلّى الله عليه وآله وجعله في جنّة فؤاده المشروح ؛ حيث قال تعالى : (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ * وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ) ... (١) إلى آخره.

أي شرحنا صدرك بالعلم والحكمة الحقيقيّين ، وصفّيناه عن كدورات الجهل والضلال ، وأنجيناك عن شؤونات الطبيعة وأوزارها الّتي تحمل صاحبها على التوجّه إلى غير ساحة الأحديّة (وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ) (٢) بمقام الولاية والمحبّة الصافية ، وقال : (إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ) (٣) أي فضّلناك بكوثر العلم والمحبّة على كلّ ما في عالم الإمكان ، ومن في عالم الإمكان.

عن ابن عبّاس قال : لمّا نزل على رسول الله صلّى الله عليه وآله (إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ) قال له عليّ بن أبي طالب صلّى الله عليه وآله : ما هو الكوثر يا رسول الله؟ قال : نهر أكرمني الله به ، قال عليّ عليه السلام : إنّ هذا النهر شريف فانعته لنا ، قال : نعم ، الكوثر نهر يجري تحت عرش الله ، ماؤه أشدّ بياضا من اللبن ، وأحلى من العسل ، وألين من الزبد ، حصاه الزبرجد

__________________

(١) الانشراح : ١ ـ ٢.

(٢) الانشراح : ٤.

(٣) الكوثر : ١.

١٠٥

والياقوت والمرجان ، حشيشه الزعفران ، ترابه المسك الأذفر ، قواعده تحت عرش الله ، ثمّ ضرب رسول الله صلّى الله عليه وآله على جنب أمير المؤمنين عليه السلام وقال : يا عليّ ، هذا النهر لي ولك ولمحبّيك من بعدي (١). انتهى.

أي أفوز بذلك العلم الخاصّ ، وهو علم التوحيد بحسب رتبة كينونيّتي ، وتفوز أنت يا عليّ من ذلك العلم بحسب رتبة كينونيّتك ، ويفوز به أيضا من يحبّك خالصا عارفا بحقّك بحسب رتبة كينونيّته ، وأمّا غيره من أصناف ما في الإمكان فمحجوب بالحرمان ، عن مقام الفوز بالعلم والعرفان.

وعن عليّ عليه السلام قال : أنا مع رسول الله ومع عترتي على الحوض ، فمن أرادنا فليأخذ بقولنا وليعمل عملنا ، فإنّ لكلّ أهل نجيبا ولنا شفاعة ، ولأهل مودّتنا شفاعة ، فتنافسوا في لقائنا على الحوض ، فإنّا نذود عنه أعداءنا ، ونسقي منه أحبّاءنا وأولياءنا ، من شرب منه شربة لم يظمأ بعدها أبدا ... (٢) إلى آخره.

أي من فاز بمقام علمنا لم يجهل أبدا ، وفي المقام أسرار مكنونة لا أكشفها إلّا لمن امتحن قلبه للإيمان.

الثالثة : في التعبير عن الشاكرين بـ «الأبرار» مع أنّ المقام مقام التفصيل ، وهو يقتضي المقابلة ، إشعار بأنّ الشاكر بحقيقة الشكر هو البارّ المحسن لا

__________________

(١) الأمالي ، للطوسيّ : ٦٩ ، الأمالي ، للمفيد : ٢٩٤.

(٢) الخصال ٢ : ١٢٤.

١٠٦

محالة إلى نفسه ، المطيع لربّه ؛ كما قال : (وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ) (١) فأثر برّه يرجع إلى نفسه ، فتلتذّ بما هو من قضيّة البرّ من الذكر الحسن الرفيع ، والفوز بحقائق العرفان.

وبأنّ من عدا الأبرار ـ الّذين لا يعصون الله في أمره ونهيه ـ داخل في زمرة الكفّار ، معذّب بعذابهم ، وإن كان في صورة المؤمنين والمسلمين ؛ كما قال (إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ * وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ) (٢).

والفجّار من يعمل الفجور مسلما كان أو كافرا ، إلّا أن المسلم ينجو من العذاب بالتوبة والشفاعة على مذهب الإماميّة ، ولا دليل للوعيديّة الّذين حكموا بخلود العاصي في النار ، والتفصيل لا مقام له.

وممّا يدلّ على ما ذكرناه من أنّ الفاجر مطلقا داخل في زمرة الكفّار : قوله تعالى : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ * ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ * وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ * تَرْهَقُها قَتَرَةٌ * أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ) (٣) حيث قسّم الوجوه بهذين القسمين ، وحكم بكفر الفرقة الثانية. فتأمّل.

فالكافر هو الّذي لم يكن بارّا بالشكر الّذي هو الطرف المذكور وإن كان مسلما ، فإنّ المسلم العاصي كافر بنعمة الله ، واضع ما جعله الله في غير موضعه.

فكفران النعمة أحد وجوه الكفر ومعانيه ؛ كما يدلّ عليه ما روي عن أبي

__________________

(١) لقمان : ١٢.

(٢) الانفطار : ١٣ ـ ١٤.

(٣) عبس : ٣٨ ـ ٤٢.

١٠٧

عمرو الزبيريّ قال : قلت لأبي عبد الله عليه السلام : أخبرني عن وجوه الكفر في كتاب الله قال : الكفر في كتاب الله على خمسة أوجه ؛ فمنها : كفر الجحود على وجهين ، والكفر بترك ما أمر الله ، وكفر البراءة ، وكفر النعم.

فأمّا كفر الجحود ، فهو الجحود بالربوبيّة ، وهو قول من يقول : لا ربّ ولا جنّة ولا نار. وهو قول صنفين من الزنادقة ، يقال لهم «الدهريّة» وهم الّذين يقولون (وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ) (١) وهو دين وضعوه لأنفسهم بالاستحسان منهم على غير تثبيت منهم ولا تحقيق بشيء ممّا يقولون ، قال الله عزّ وجلّ : (إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ) (٢) إنّ ذلك كما يقولون.

وقال : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) (٣) يعني بتوحيد الله جلّ وعزّ ، فهذا أحد وجوه الكفر.

وأمّا الوجه الآخر من الجحود على معرفة فهو أن يجحد الجاحد وهو يعلم أنّه حقّ قد استيقن عنده ، وقد قال الله جلّ وعزّ : (وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا) (٤).

وقال الله : (وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللهِ عَلَى الْكافِرِينَ) (٥) فهذا تفسير وجهي الجحود.

والوجه الثالث من الكفر كفر النعم ، وذلك قول الله جلّ وعزّ يحكي قول

__________________

(١ و ٢) الجاثية : ٢٤.

(٣) البقرة : ٦.

(٤) النمل : ١٤.

(٥) البقرة : ٨٩.

١٠٨

سليمان عليه السلام : (هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ) (١).

وقال : (لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ) (٢).

وقال : (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ) (٣).

والوجه الرابع من الكفر ترك ما أمر الله جلّ وعزّ ، وهو قول الله : (وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ * ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ تَظاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسارى تُفادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْراجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ) ... (٤) إلى آخره ، فكفّر هم بترك ما أمر الله به ، ونسبهم إلى الإيمان ، ولم يقبله منهم ولم ينفعهم عنده ، فقال : (فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يُرَدُّونَ إِلى أَشَدِّ الْعَذابِ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) (٥).

والوجه الخامس من الكفر كفر البراءة ، وذلك قوله يحكي قول إبراهيم عليه السلام : (كَفَرْنا بِكُمْ وَبَدا بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ الْعَداوَةُ وَالْبَغْضاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللهِ وَحْدَهُ) (٦) يعني تبرّ أنا منكم.

__________________

(١) النمل : ٤٠.

(٢) إبراهيم : ٧.

(٣) البقرة : ١٥٢.

(٤) البقرة : ٨٤ ـ ٨٥.

(٥) البقرة : ٨٥.

(٦) الممتحنة : ٤.

١٠٩

وقال تعالى يذكر إبليس وتبرّأه من أوليائه من الإنس يوم القيامة : (إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ) (١).

وقال : (إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْثاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً) (٢) يعني يتبرّأ بعضكم من بعض. انتهى.

الرابعة : في تغيير النظم حيث عبّر عمّا أعدّ للكافرين بقوله : (إِنَّا أَعْتَدْنا) ... إلى آخره وعمّا أعدّ للمؤمنين بقوله : (إِنَّ الْأَبْرارَ) ... إلى آخره إشعار بكمال المباينة بين الفريقين وعدم المناسبة بينهما بوجه ؛ إذ المباينة النظميّة مشعرة بالمباينة المصداقية ، وفي التعبير بقوله (يَشْرَبُونَ) المضارع المحتمل للحال والاستقبال إشعار بأنّ المؤمنين العارفين بحقائق التوحيد ؛ كما يلتذّون بحقائق معارفهم في الآخرة.

كذلك يلتذّون بها في دارهم الدنيا هذه ، فهم فائزون برحمة الحقّ في جميع الحالات والتحوّلات والتطوّرات في كلّ حال بحسب ما يقتضيه ويناسبه ، ففي الدنيا يلتذّون بحلاوة العلم والعرفان ، فإنّ لهما لذّات روحانيّة يدركها الفائز بها ، وفي الآخرة يلتذّون بما يتشكّل من العلم والعرفان وما عملوه صالحا ، فإنّ كلّ ذلك له حقيقة واقعيّة تتجسّد في يوم تبلى السرائر على صورها ؛ كما قال : (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً) (٣).

__________________

(١) إبراهيم : ٢٢.

(٢) العنكبوت : ٢٥.

(٣) آل عمران : ٣٠.

١١٠

گاه به ما لطف او گاه بلا مى رسد

صورت اعمال ما است آنچه به ما مى رسد

ويدلّ على ذلك ما ورد من أنّ القرآن يأتي يوم القيامة على صورة كذا ، والصلاة تأتي على صورة كذا. وهكذا.

وعن رسول الله صلّى الله عليه وآله قال : الجنّة قاع صفصف ليس فيها عمارة ، فأكثروا من غراس الجنّة في الدنيا ، قالوا : وما غراس الجنّة؟ قال : التسبيح والتهليل ... إلى آخره.

ومن ذلك يرفع استبعاد من أنكر الميزان وقال : إنّ الأعمال من الأعراض فكيف توزن ، فإنّه يتحقّق لها الصور الجوهريّة كما عرفت.

ألا ترى أنّ الصور الذهنيّة قائمة بالذهن حال كونها فيه ، فإذا تحقّقت في الخارج تقوم بذاتها مستقلّة.

والحاصل : إنّ العارف ملتذّ في الدارين ، بخلاف الزاهد ؛ فإنّه يتنعّم بحقائق أعماله في الآخرة خاصّة ، فكم من فرق بين الفريقين :

من كه امروزم بهشت نقد مى بايد به دست

وعده فرداى زاهد را كجا باور كنم

ثمّ في التعبير بالفعل الدالّ على التجدّد والحدوث دون اسم الفاعل مع أنّه محتمل للحال والاستقبال أيضا إشعار لطيف بأنّ العارف الحقيقيّ الّذي يريد الوصول إلى ساحة التوحيد الأكمل لا يزال جاهدا ساعيا في جميع الأحوال ، بحيث يرتقي في كلّ حال مرتقى ، ويعرج في كلّ آن معراجا ، فلا يعطّل نفسه عن الاستكمال والاستنارة بنور الجمال ، بل يسعى بقدر

١١١

الاستطاعة في آناء الليل وأطراف النهار في إكمال جوهر النفس وإصفائه ، ليصير مستعدّا لقبول الشؤونات القدسيّة من العلم واليقين والحكمة.

فلا يمضي عليه زمان إلّا ويصرفه في أمر الحقّ ، ولا يطرأ عليه حالة إلّا ويزيّنها بزينة الذكر ، وحلية الترقّي والكمال ؛ كما قال صلّى الله عليه وآله : إنّ أولياء الله سكتوا فكان سكوتهم ذكرا ، ونظروا فكان نظرهم عبرة ، ونطقوا فكان نطقهم حكمة ، ومشوا فكان مشيهم بين الناس بركة ؛ لو لا الآجال الّتي قد كتبت عليهم لم تقرّ أرواحهم في أجسادهم خوفا من العذاب ، وشوقا إلى الثواب (١). انتهى.

أي خوفا من التألّم بنار الفراق ، وشوقا إلى جنّة الوصال.

الخامسة : لا بأس بتفسير «الأبرار» في الآية بالأصفياء الّذين صفوا عن جميع الشؤونات العرضيّة من أمّة محمّد صلّى الله عليه وآله واشتاق صلّى الله عليه وآله إلى رؤيتهم وملاقاتهم ؛ كما روي في كتاب «التحصين» لأحمد بن فهد أنّه قال رسول الله صلّى الله عليه وآله يوما لأصحابه : أتدرون ما غمّي ، وفي أيّ شيء اشتياقي؟ فقال أصحابه صلّى الله عليه وآله : لا يا رسول الله ، ما علمنا هذه من أيّ شيء ، أخبرنا بغمّك وتفكّرك وتشوّقك؟ قال النبيّ صلّى الله عليه وآله : أخبركم إن شاء الله.

ثمّ تنفّس الصعداء وقال : هاه شوقا إلى إخواني من بعدي.

فقال أبو ذرّ : يا رسول الله ، أو لسنا إخوانك؟ قال : لا ، أنتم أصحابي ، وإخواني يجيئون من بعدي ، شأنهم شأن الأنبياء ، قوم يفرّون من الآباء

__________________

(١) الكافي ٢ : ٢٣٧.

١١٢

والأمّهات ، ومن الأخوة والأخوات ، ومن القرابات كلّهم ابتغاء مرضاة الله ، يتركون المال لله ، ويذلّون أنفسهم بالتواضع لله ، لا يرغبون في الشهوات وفضول الدنيا ، مجتمعون في بيت من بيوت الله كأنّهم غرباء تراهم محزونين لخوف النار وحبّ الجنّة ، فمن يعلم قدرهم عند الله؟ ليس بينهم قرابة ولا مال يعطون بها ، بعضهم لبعض أشفق من الابن على الوالد ، والوالد على الولد ، ومن الأخ على الأخ.

هاه شوقا إليهم ، ويفرغون أنفسهم من كدّ الدنيا ونعيمها بنجاة أنفسهم من عذاب الأبد ، ودخول الجنّة لمرضاة الله.

اعلم يا أباذرّ! إنّ للواحد منهم أجر سبعين بدريّا.

يا أباذرّ! إنّ الواحد منهم أكرم على الله من كلّ شيء خلق الله على وجه الأرض.

يا أباذرّ! قلوبهم إلى الله ، وعملهم لله ، لو مرض أحدهم له فضل عبادة ألف سنة ، وصيام نهارها وقيام ليلها ، وإن شئت حتّى أزيدك يا أباذرّ.

فقلت : نعم يا رسول الله زدنا.

قال : لو أنّ أحدا منهم إذا مات فكأنّما مات ما في سماء الدنيا من فضله على الله ، وإن شئت أزيدك؟

قلت : نعم يا رسول الله زدني.

قال : يا أباذر! لو أنّ أحدهم يؤذيه قمّلة في ثيابه فله عند الله أجر أربعين حجّة ، وأربعين عمرة ، وأربعين غزوة ، وعتق أربعين نسمة من ولد إسماعيل عليه السلام ، ويدخل واحد منهم اثني عشر ألفا في شفاعته.

فقلت : سبحان الله!

١١٣

فقال صلّى الله عليه وآله : أتعجبون من قولي! وإن شئتم حتّى أزيدكم؟

قال أبو ذرّ : نعم زدنا.

فقال النبيّ صلّى الله عليه وآله : يا أبا ذرّ! لو أنّ أحدا منهم اشتهى شهوة من شهوات الدنيا فيصبر ولا يطلبها ثمّ يغتمّ ويتنفّس كتب الله له بكلّ نفس ألفي ألف حسنة ، ومحا عنه ألفي ألف سيّئة ، ورفع له ألفي ألف درجة ، وإن شئت حتّى أزيدك ، يا أبا ذرّ؟

قلت : حبيبي يا رسول الله زدني.

قال صلّى الله عليه وآله : لواحد منهم يصبر مع أصحابه لا يقطعهم ويصبر في مثل جوعهم وفي شدّة غمّهم كان له من الأجر كأجر سبعين ممّن غزا تبوك ، وإن شئت حتّى أزيدك؟

قلت : نعم زدنا.

قال : لو أنّ أحدا منهم يضع جبينه على الأرض ثمّ يقول آه ، تبكي ملائكة السماء السبع لرحمتهم عليه ، فقال الله : يا ملائكتي ، ما لكم تبكون؟ فيقولون : يا إلهنا ، كيف لا نبكي ووليّك على الأرض يقول في وجعه آه؟

فيقول الله : يا ملائكتي ، اشهدوا أنتم أنّي راض عن عبدي بالّذي يصبر في شدّة ولا يطلب الراحة.

فتقول الملائكة : يا إلهنا وسيّدنا ، لا تضرّ الشدّة بعبدك بعد أن يقول هذا القول. فيقول : يا ملائكتي ، إنّ وليّي عندي كمثل نبيّ من أنبيائي ، ولو دعاني وليّي وشفع في خلقي شفّعته في أكثر من سبعين ألفا ، ولعبدي ووليّي في جنتّي ما يتمنّى.

١١٤

يا ملائكتي ، وعزّتي وجلالي ، لأنا أرحم بوليّي وأنا خير له من المال للتاجر والكسب للكاسب ، وفي الآخرة لا يعذّب وليّي ولا خوف عليهم.

ثمّ قال رسول الله صلّى الله عليه وآله : طوبى لهم يا أبا ذرّ ، لواحد منهم يصلّي ركعتين في أصحابه أفضل عند الله من رجل يعبد الله في جبل لبنان عمر نوح.

وإن شئت حتّى أزيدك يا أبا ذرّ؟ لو أنّ أحدا منهم يسبّح بتسبيحة خير له من أن يصير معه جبال الدنيا ذهبا ، ونظرة إلى واحد منهم أحبّ من نظرة إلى بيت الله الحرام ، ولواحد منهم يموت في شدّة بين أصحابه له أجر مقتول بين الركن والمقام ، وله أجر من يموت في حرم الله ويدخله الجنّة.

وإن شئت أزيدك يا أبا ذرّ؟

قلت : نعم.

قال : تجلس إليهم قوم مقصّرون مثقلون من الذنوب ، فلا يقومون من عندهم حتّى ينظر الله إليهم فيرحمهم ويغفر لهم ذنوبهم لكرامتهم على الله.

قال النبيّ صلّى الله عليه وآله : المقصّر فيهم أفضل عند الله من ألف مجتهد من غيرهم.

يا أباذر! ضحكهم عبادة ، وفرحهم تسبيح ، ونومهم صدقة ، وأنفاسهم جهاد ، وينظر الله إليهم في كلّ يوم ثلاث مرّات.

يا أباذرّ! إنّي إليهم لمشتاق!

ثمّ غمض عينيه وبكى شوقا ثمّ قال : اللهمّ احفظهم وانصرهم عمّن خالف عليهم ، ولا تخذلهم ، وأقرّ عيني بهم يوم القيامة (أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللهِ لا

١١٥

خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) (١) (٢). انتهى.

أقول : وللناس في ذلك الحديث أقوال ومحامل ، والظاهر أنّ المراد بهم كلّ من فاز بمقام التوحيد الّذي [هو] عبارة عن تخليص القلب عن الشوائب الغيريّة ، وتصفية الفطرة عن الشؤونات العرضيّة بحيث استعدّ للتجلّيات الذوقيّة ، والبارقات الجذبيّة الإشراقيّة ، اللهمّ اجعلنا منهم أو ممّن أحبّهم بحقّ محمّد وآله.

السادسة : لا بأس بتفسير الشرب من الكأس بالتذاذ العارف المستعدّ من ملاقاة الحقّ ، وتجلّيه له في بساط الشهود ، فإنّ له في ذلك المقام توجّدات وتطرّبات وتطوّرات كتوجّدات السكران يلتذّ بها ، ويفوز منها ألطف التذاذ ، وأشرف فوز.

ويسمّى ذلك المقام بـ «مقام السكر» فإنّ حقيقته الغيبة عن عالم الحسّ العنصريّ والمحاضرة مع الحقّ في عرش التوحيد ، وقد يسمّى حين الملاقاة والمحاضرة بـ «يوم الجمعة» فإنّ في ذلك الحين يجتمع الحبيب مع المحبوب ، ويتّصل العاشق بالمعشوق بحيث يرتفع التغاير ، وتتحقّق الوحدة الحقيقيّة ، كما قال : إن لله لأوليائه لشرابا إذا شربوا منه سكروا ، وإذا سكروا طربوا ـ إلى أن قال ـ وإذا اتّصلوا وصلوا ، وإذا وصلوا لا فرق بينهم وبين حبيبهم.

وقال : لا يزال العبد يتقرّب إليّ بالنوافل حتّى أحبّه ، فإذا أحببته كنت

__________________

(١) يونس : ٦٢.

(٢) التحصين ، لابن فهد : ٢٥.

١١٦

سمعه وبصره ويده ورجله ولسانه ، فبي يسمع ، وبي يبصر ، وبي يبطش ، وبي يمشي ، وبي ينطق. انتهى.

وهذا السرّ فيما قال الله تعالى ليلة المعراج لمحمّد صلّى الله عليه وآله حيث أدخله في لجّة التوحيد : أنت الحبيب ، وأنت المحبوب. أي لقد ارتفع التعيّنات الغيريّة ، والحجب العرضيّة بحيث لا واسطة بيني وبينك. كيف وقد فزت بمقام الوصال والاتّصال ، والتذذت بسبحات الجمال والجلال ؛ كما قال : إنّ لنا مع الله حالات ، حالة نحن هو وهو نحن ... إلى آخره.

ء أنت أم أنا هذا العين في العين

حاشاي حاشاي عن إثبات اثنين

ويدلّك على ما قرّرناه من أنّ العبد بعد كشف السبحات ومحو الموهومات ، وهتك الأستار دون نور الأنوار يتجلّى له الحقّ ، أي حقيقة نورانيّة المشيّة الّتي في جوهرته ، فإنّه ما من شيء إلّا وقد لاح في كينونيّته نور المشيّة ، فإذا ارتفع الغواشي الحاجبة عن مشاهدته يتشعشع ذلك النور في بصيرته ، فيراه ويفوز به ، ويعرف قدر جوهرته فيعرف ربّه ، فإنّ ذلك النور يربّيه لما هو في هويّته.

وهذا معنى ما قال : من عرف نفسه فقد عرف ربّه (١). أي من فاز بجوهر هويّته وما أودع فيه من نور المشيّة فقد تيقّن بأنّ له ربّا يربّيه ويربّي جوهرته.

وهذا معنى الاتّصال بالحقّ والفوز بوصاله ، لا ما زعمته «الواصليّة» من الصوفيّة من أنّ الذات البحت القديم الّذي لا إله إلّا هو يتجلّى للعارف ، فيراه

__________________

(١) مصباح الشريعة : ١٣ ، متشابه القرآن ١ : ٤٤ ، عوالي اللآلي ٤ : ١٠٢.

١١٧

بحقيقته ، ويعرفه بهويّته ، فإنّ ذلك كفر محض كما قرّرناه في محلّه.

والحاصل : إنّ نهاية سير السالكين هو الوصول إلى نوارنيّة ما فيهم من المشيّة الإلهيّة ، فإذا وصلوا إلى ذلك المقام لا يبقى فرق بينهم وبين المشيّة أصلا ، فيستغنون عن العقل الجزئيّ بالعقل الكلّيّ في ذلك المقام ؛ كما قال عليه السلام لكميل : أطفئ السراج فقد طلع الصباح. أي استغن عن ذكر العقل الجزئيّ بما لاح لك من حقيقة العقل كلّيّ ؛ وهو نور المشيّة ، فإنّ نسبة الجزئيّ إلى الكلّيّ كنسبة نور السراج إلى نور الصباح ، ونسبة القطرة إلى اليمّ المحيط ، فمتى لم يتحقّق لك الاستغناء عن ظهورك الجزئيّ لا يتحقّق لك مقام الفوز بصرف الظهور الكلّيّ.

از هستى خويش تا تو غافل نشوى

هرگز به مراد خويش واصل نشوى

از بحر ظهور تا به ساحل نشوى

در مذهب اهل عشق كامل نشوى

ومن ذلك التقرير يظهر ما قيل من أنّ في كلّ شيء معنى كلّ شيء ، أي لا يخلو شيء عن حقيقة المشيّة تظهر له بعد رفع الحجابات الموهومة ؛ كما قال : (وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ) (١) والوصول إلى ذلك المقام أي مقام نورانيّة المشيّة هو معراج كلّ شيء ، كلّ بحسب استعداد هويّته ؛ إذ المعراج هو محلّ العروج والارتقاء ، وليس محلّ عروج الأشياء حقيقة إلّا مقام الفوز بقرب المشيّة ، والاتّصال بطمطام يمّ نورانيّتها الساذجيّة ، وذلك غير متحقّق إلّا بعد الإعراض عن المقام الأدنى ، وهو الوجود الجزئيّ الموهوميّ الّذي

__________________

(١) الذاريات : ٢١.

١١٨

هو الذنب الكبير الّذي لا يغفر ، لأنّه الحجاب الواقعيّ والمانع الحقيقيّ عن الفوز بسبحات جمال المشيّة.

قرب نى بالا وپستى رفتن است

قرب حقّ از حبل هستى رستن است

وذلك المقام هو مقام التوحيد الّذي دعى الله الخلق إليه ففاز من دخل لجّة الأحديّة ، وولج بيت الولاية الحقيقيّة ، وخسر من عاش محروما عن ذلك المقام ، ومحتجبا عن أنوار الملك العلّام.

يا رب ز جهان روى دلم برگردان

حالى كه مرا هست نكوتر گردان

راهم به سراپرده توحيد نما

تا چند به هر طرف روم سرگردان

ما رواه (١) أنس بن مالك عن رسول الله صلّى الله عليه وآله ، قال : سمعته يقول : أتاني جبرئيل وفي كفّه مثل المرآة الصافية فيها كالنكتة السوداء ، قلت : ما هذه الّتي في يدك؟ قال : هذه الجمعة ، قلت : وما الجمعة؟ قال : لكم فيها خير قسم ، قلت : وما لنا فيها؟ قال : تكون عيدا لك ولامّتك من بعدك ، فيكون اليهود والنصارى تبعا لكم ، ولكم فيها ساعة لا يوافقها مسلم يسأل الله خيرا له هو له قسم إلّا أعطاه إيّاه ، أو ليس له قسما إلّا ذخر له عنده ما هو أفضل منه ، وهو عندنا سيّد الأيّام ونحن نسمّيه يوم المزيد.

قلت : وممّ ذلك؟ قال : إنّ الربّ قد اتّخذ في الجنّة واديا أفيح من مسك أبيض ، فإذا كان يوم الجمعة وهو يوم المزيد نزل الربّ من علّيّين على كرسيّه.

__________________

(١) قولنا «ما رواه» فاعل لقولنا فيما سبق «ويدلّك». منه.

١١٩

ثمّ حفّ الكرسيّ بمنابر من ذهب مكلّل بالدرّ ، ويجيء النبيّون حتّى يجلسوا على تلك المنابر.

ثمّ حفّت المنابر بكراسيّ من نور.

ثمّ يجيء الصدّيقون والشهداء حتّى يجلسوا على تلك الكراسيّ.

ثم ينزل أهل الغرف حتّى يجلسوا على كثبان المسك.

ثمّ يتجلّى لهم الربّ فيقول لهم : أنا الّذي صدقتكم وعدي ، وأتممت عليكم نعمتي ، وهذا محلّ كرامتي فاسألوني ، فيسألونه الرضا ، فيشهدهم أنّي قد رضيت عنكم ، فيسألون حتّى تنتهي رغباتهم.

ثمّ يفتح لهم ما لم يخطر على قلب بشر ، ولم يسمعه اذن ، ولم تره عين ، وذلك مقدار منصرفهم عن الجمعة.

ثمّ يرفع الربّ عن كرسيّه ، ويرتفع النبيّون والصدّيقون والشهداء.

ثمّ يرجع أهل الغرف إلى غرفهم في جوف درّة بيضاء لا فصم فيها ولا وصم ، فليسوا إلى شيء بأحوج إلى يوم الجمعة ليزدادوا فيه من الكرامة ، ولذلك سمّي يوم المزيد ، وفيه تقوم الساعة (١).

أقول : وفي ذلك الحديث إشارات لطيفة لا يدركها إلّا من امتحن الله قلبه للإيمان ، واصطفاه لمقام العرفان.

آنكس است اهل اشارت كه بشارت داند

نكته ها هست بسى ، محرم اسرار كجاست

__________________

(١) مستدرك الوسائل ٦ : ٥٨.

١٢٠