خاتمة مستدرك الوسائل - ج ١

الشيخ حسين النوري الطبرسي [ المحدّث النوري ]

خاتمة مستدرك الوسائل - ج ١

المؤلف:

الشيخ حسين النوري الطبرسي [ المحدّث النوري ]


المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الموضوع : رجال الحديث
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 964-5503-85-X
ISBN الدورة:
964-5503-84-1

الصفحات: ٣٩٤

ثم اجتمع النور في وسط تلك الصور الخفيّة ، فوافق ذلك صورة نبيّنا محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقال الله عزّ من قائل : أنت المختار المنتخب ، وعندك مستودع نوري وكنوز هدايتي ، من أجلك اسطّح البطحاء ، واموج الماء ، وأرفع السماء ، وأجعل الثواب والعقاب ، والجنّة والنار ، وأنصب أهل بيتك للهداية ، وأوتيهم من مكنون علمي ما لا يشكل عليهم دقيق ، ولا يعييهم خفيّ ، وأجعلهم حجّتي على بريّتي ، والمنبّهين على قدرتي ووحدانيّتي.

ثم أخذ الله الشهادة عليهم بالربوبيّة ، والإخلاص بالوحدانيّة.

فبعد أخذ ما أخذ من ذلك شاب ببصائر الخلق انتخاب محمّدا وآله عليهم‌السلام ، وأراهم أنّ الهداية معه ، والنور له ، والإمامة في آله ، تقديما لسنّة العدل ، وليكون الأعذار متقدّما.

ثم أخفى الله الخليقة في غيبة ، وغيّبها في مكنون علمه ، ثم نصب العوالم ، وبسط الزمان ، وموّج الماء ، وأثار الزبد ، وأهاج الدخان ، فطفى عرشه على الماء ، فسطّح الأرض على ظهر الماء ، ثم استجلبهما إلى الطاعة فأذعنتا بالاستجابة.

ثم أنشأ الله الملائكة من أنوار أبدعها ، وأرواح اخترعها ، وقرن توحيده بنبوّة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فشهرت في السماء قبل بعثته في الأرض.

فلمّا خلق الله آدم أبان فضله للملائكة ، وأراهم ما خصّه به من سابق العلم ، حيث عرّفه عند استنبائه إيّاه أسماء الأشياء ، فجعل الله آدم محرابا وكعبة وقبلة ، أسجد إليها الأبرار والروحانيّين الأنوار.

ثم نبّه آدم على مستودعه ، وكشف له عن خطر ما ائتمنه عليه ، بعد ما سمّاه إماما عند الملائكة ، فكان حظّ آدم من الخير ما أراه من مستودع نورنا.

ولم يزل الله تعالى يخبّئ النور تحت الزمان ، الى أن وصل محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، في ظاهر الفترات ، فدعا الناس ظاهرا وباطنا ، ونبّههم سرّا وإعلانا ، واستدعى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم التنبيه على العهد الذي قدّمه إلى الذّر

١٢١

قبل النسل ، فمن وافقه واقتبس من مصباح النور المقدّم اهتدى إلى سيره ، واستبان واضح أمره ، ومن ألبسته الغفلة استحقّ السخط.

ثم انتقل النور إلى غرائزنا ، ولمع في أئمّتنا ، فنحن أنوار السماء وأنوار الأرض ، فبنا النجاة ، ومنّا مكنون العلم ، وإلينا يصير الأمور ، وبمهدينا تنقطع الحجج ، خاتمة الأئمّة ، ومنقذ الأمّة ، وغاية النور ، ومصدر الأمور ، فنحن أفضل المخلوقين ، وأشرف الموحّدين ، وحجج ربّ العالمين ، فليهنأ بالنعمة من تمسّك بولايتنا وقبض عروتنا.

فهذا ما روي عن أبي عبد الله جعفر بن محمّد ، عن أبيه محمّد بن علي ، عن أبيه علي بن الحسين ، عن أبيه الحسين بن علي ، عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليهم‌السلام (١) ، انتهى. ولا أظنّ أحدا يروي هذا الخبر من غير إنكار ولا يكون إماميّا ) (٢).

وقوله رحمه‌الله : وكتاب إثبات الوصيّة ليس بنصّ. إلى آخره ، كلام من لا عهد له بهذا الكتاب ، ولم يظفر بنسخته ، وإنّما استظهر من اسمه أنّه موضوع لإثبات وصايته عليه‌السلام في بعض تركته ، وقضاء ديونه ، وإنجاز عداته (٣) ، وتجهيز جسده المبارك صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ممّا تلقاه الأمّة على اختلاف مشاربهم بالقبول ، ولو كان عثر عليه لعلم أنّه أحسن كتاب صنّف في هذا الباب ، وفي إثبات وصاية عليّ عليه‌السلام وإمامته ، وأولاده الأطياب عليهم‌السلام ، فشرع في شرح خلقة صفيّ الله آدم ، ومجمل أحواله ، وذكر أسامي أوصيائه ، مرتّبا إلى نوح عليه‌السلام ، ثم منه إلى إبراهيم عليه‌السلام ، ثم منه إلى موسى عليه‌السلام ، ثم منه إلى داود عليه‌السلام ، ثم منه إلى

__________________

(١) مروج الذهب ١ : ٤٢ باختلاف في الألفاظ.

(٢) إلى هنا تنتهي الزيادة التي لم ترد في النسخة الخطية.

(٣) العدات : جمع عدة ، وهي الوعد. لسان العرب ٣ : ٤٦٢.

١٢٢

المسيح عليه‌السلام ، ثم منه إلى نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعليهم ، ومختصر من سيرتهم ، والغالب أنّهم في كلّ طبقة اثنا عشر ، ويذكر في آخر حال كلّ واحد منهم أن الله تعالى أوحى إليه أن يستودع التابوت ، ومواريث الأنبياء إلى فلان.

ثم شرع في الجزء الثاني في حال خاتم الأنبياء صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من ولادته إلى وفاته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مختصرا.

ثم شرع في خلافة أمير المؤمنين صلوات الله عليه ، وذكر قصّة المتقدّمين عليه على طريقة الإماميّة ، ومن جملة كلامه.

فأقام أمير المؤمنين عليه‌السلام ومن معه من شيعته في منازلهم ، بما عهد إليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فوجّهوا إلى منزله فهجموا عليه ، وأحرقوا بابه ، واستخرجوه منه كرها ، وضغطوا سيّدة النساء عليها‌السلام بالباب ، حتى أسقطت محسنا ، وأخذوه بالبيعة فامتنع ، فقال : « لا أفعل » فقالوا : نقتلك ، فقال : « إن تقتلوني فإنّي عبد الله وأخو رسوله » وبسطوا يده فقبضها وعسر عليهم فتحها ، فمسحوا عليها وهي مضمومة.

ثمّ لقي أمير المؤمنين عليه‌السلام بعد هذا أحد القوم ، فناشده الله وذكّره بأيّام الله ، وقال له : « هل لك أن أجمع بينك وبين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتى يأمرك وينهاك » فخرجا إلى قبا. إلى آخر القصّة.

قال : وهمّوا بقتل أمير المؤمنين عليه‌السلام ، وتواصوا وتواعدوا بذلك ، وأن يتولّى قتله خالد بن الوليد ـ إلى أن قال ـ وكان الموعد في قتله أنّه يسلّم إمامهم ، فيقوم خالد إليه بسيفه ، فأحسّوا بأسه ، فقال الإمام قبل أن يسلّم : لا يفعلنّ خالد ما أمرته به ، ثم كان من أقاصيصهم ما رواه الناس (١).

ثم ساق حالاته ، وبعض معاجزه ، ووفاته ، ونصّه على ابنه أبي محمّد عليه‌السلام ، وهكذا إلى صاحب الزمان صلوات الله عليه ، وذكر في حال كلّ

__________________

(١) إثبات الوصية : ١٢٣ و ١٢٤.

١٢٣

إمام ولادته ، وسيرته ، ومعاجزه ، ووفاته ، على أحسن نظم وترتيب.

ومن طريف ما رواه في حال أبي جعفر الثاني عليه‌السلام قوله : وروي أنّه عليه‌السلام كان يتكلّم في المهد.

وروي عن زكريا بن آدم قال : إنّي لعند الرضا عليه‌السلام ، إذ جيء بأبي جعفر عليه‌السلام وسنّه نحو أربع سنين ، فضرب بيده الأرض ، ورفع رأسه إلى السماء فأطال الفكر ، فقال له الرضا عليه‌السلام : « بنفسي أنت فيم تفكّر طويلا ( منذ قعدت ) (١).

فقال : فيما صنع بأمّي فاطمة عليها‌السلام ، أما والله لأخرجنّهما ، ثم لأحرقنّهما ، ثم لاذرينّهما ، ثم لأنسفنّهما في اليمّ نسفا ، فاستدناه وقبّل بين عينيه ، ثم قال : أنت لها ـ يعني الإمامة ـ » (٢).

وذكر في أحوال الحجّة عليه‌السلام النصوص على الأئمّة الاثني عشر ، وقال في آخرها وهو آخر الكتاب : فلمّا أفضى الأمر إلى أبي محمد عليه‌السلام ، كان يكلّم شيعته الخواصّ وغيرهم من وراء الستر ، إلاّ في الأوقات التي يركب فيها إلى دار السلطان ، وإنّ ذلك إنّما كان منه ومن أبيه قبله ، مقدّمة لغيبة صاحب الزمان عليه‌السلام ، لتألف الشيعة ذلك ولا تنكر الغيبة ، وتجري العادة بالاحتجاب والاستتار.

وفي تسع عشرة سنة من الوقت ـ أي وقت إمامته عجّل الله تعالى فرجه ـ توفّي المعتمد ، وبويع لأحمد بن الموفّق ـ وهو المعتضد ـ وذلك في رجب سنة تسع وسبعين ومائتين ، ثمّ ذكر الخلفاء إلى عصره ، ثم قال : وللصاحب عليه‌السلام منذ ولد إلى هذا الوقت ، وهو شهر ربيع الأوّل ، سنة اثنتين وثلاثين وثلاثمائة ، خمس وسبعون سنة وثمانية أشهر (٣) ، أقام مع أبيه أبي محمد على

__________________

(١) في المخطوطة والحجرية : فقعد ، وما أثبتناه في المتن نقلناه عن المصدر.

(٢) إثبات الوصية : ١٨٤.

(٣) في المصدر : ست وسبعون سنة وأحد عشر شهرا ونصف شهر.

١٢٤

السلام أربع سنين وثمانية أشهر ، ومنها منفردا بالإمامة إحدى وسبعون سنة (١) ، وقد تركنا بياضا لمن يأتي بعد والسلام ، وهو آخر الكتاب (٢).

وقال في مروج الذهب : وفي أيّام عثمان اقتنى جماعة من الصحابة الضياع والدور ، منهم الزبير بن العوام بنى داره بالبصرة ، وهي المعروفة في هذا الوقت ، وهو سنة اثنتين وثلاثين وثلاثمائة ، تنزلها التجّار وأرباب الأموال (٣). إلى آخره. ويعلم من هذا أنّه صنّف كتاب إثبات الوصيّة في خلال أيّام تأليفه المروج ، ومنه يعلم فساد احتمال كونه منهم في أيام تأليفه ، ورجوعه بعد ذلك بملاحظة الكتاب المذكور.

هذا وقال الثقة الجليل محمّد بن إبراهيم النعماني في كتاب الغيبة ، في باب ما نزل من القرآن في القائم عليه‌السلام : أخبرنا علي بن الحسين المسعودي ، قال : حدثنا محمد بن يحيى العطار القمّي ، قال : حدثنا محمد بن حسان (٤) الرازي ، قال : حدثنا محمد بن علي الكوفي ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن أبي نجران ، عن القاسم ، عن أبي بصير ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام في قول الله عزّ وجلّ : ( أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ ) (٥) هي في القائم عليه‌السلام وأصحابه (٦).

__________________

(١) في المصدر : اثنتان وسبعون سنة وشهورا.

(٢) إثبات الوصية : ٢٣١.

(٣) مروج الذهب ٢ : ٣٣٢.

(٤) في المخطوطة والحجرية : الحسن ، والذي أثبتناه هو ما اتفقت عليه كتب الرجال ، انظر على سبيل المثال لا الحصر : رجال النجاشي ٣٣٨ / ٩٠٣ وفهرست الشيخ ١٤٧ / ٦١٧ ورجال العلامة : ٢٥٥ / ٤٣ وتنقيح المقال ٣ : ٩٩ / ١٠٥٢٨ وكذلك المصدر.

(٥) الحج : ٢٢ : ٣٩.

(٦) الغيبة للنعماني : ٢٤١.

١٢٥

وروي عنه في الكتاب المذكور ـ بهذا السند إلى الكوفي ـ في الأبواب المختصة مضامين أخبارها بالإماميّة أخبارا كثيرة :

ففي باب ما جاء في الإمامة والوصيّة ، وأنّهما من الله عزّ وجلّ باختياره وأمانته ، لا باختيار خلقه ، بالسند المذكور ، عن الكوفي ، بإسناده عن زيد الشحام ، قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : أيّما أفضل الحسن أو الحسين عليهما‌السلام؟ قال : « إنّ فضل أوّلنا يلحق فضل آخرنا ، وفضل آخرنا يلحق فضل أوّلنا ، فكلّ له فضل » قال ، فقلت له : جعلت فداك وسّع عليّ في الجواب ، فإنّي والله ما أسألك إلاّ مرتادا ، فقال عليه‌السلام : « نحن من شجرة برأنا الله تعالى من طينة واحدة ، فضلنا من الله ، وعلمنا من عند الله ، ونحن أمناء الله على خلقه ، والدعاة إلى دينه ، والحجّاب فيما بينه وبين خلقه ، أزيدك يا زيد؟ قال : نعم ، فقال : خلقنا واحد ، وعلمنا واحد ، وفضلنا واحد ، وكلّنا واحد عند الله عزّ وجلّ ، فقلت : أخبرني بعدّتكم؟ فقال : نحن اثنا عشر ، هكذا حول عرش ربّنا عزّ وجلّ وفي مبتدإ خلقنا ، أوّلنا محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأوسطنا محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وآخرنا محمد (١) ».

وبالسند عن الكوفي ، بإسناده عن أبي حمزة الثمالي ، قال : كنت عند أبي جعفر محمد بن علي الباقر عليهما‌السلام ذات يوم ، فلمّا تفرّق من كان عنده قال : « يا أبا حمزة من المحتوم الذي لا تبديل له عند الله قيام قائمنا ، فمن شكّ فيما أقول لقي الله وهو به كافر وله جاحد ، ثمّ قال : بأبي وأمّي المسمّى باسمي ، والمكنّى بكنيتي ، والسابع من بعدي ، بأبي من يملأ الأرض قسطا وعدلا كما ملئت ظلما وجورا (٢). » الخبر.

وقس على الخبر سائر ما رواه عنه فيه ، وإن لم يصفه بالمسعودي في كثير

__________________

(١) الغيبة للنعماني : ٨٥ والحديث في باب : ما روي في أن الأئمة اثنا عشر إماما.

(٢) الغيبة للنعماني : ٨٦.

١٢٦

من المواضع ، إلاّ أنّ اتّحاد السند ، وتوصيفه به في بعض المواضع ، كاف للمستأنس بالطريقة ، في ثبوت كونه المقصود في جميع المواضع ، وفي بعضها : حدّثنا محمد بن يحيى العطار بقم ، ولا يناسب صدور هذا الكلام عن علي بن الحسين بن بابويه الساكن فيه كما لا يخفى ، ومن هنا ظهر أنّ ما فعله في الرياض ـ في مقام جمع مشايخ النعماني من عدّ المسعودي منهم دون ابن بابويه ـ في محلّه (١).

__________________

(١) رياض العلماء ٥ : ١٣ ، ولم نقف في ترجمة النعماني على ذكر مشايخه في النسخة المطبوعة.

١٢٧

٢٥ ـ كتاب دعائم الإسلام :

تأليف نعمان بن محمد بن منصور بن أحمد بن حيوان ، قاضي مصر.

قال في البحار : قد كان أكثر أهل عصرنا (١) يتوهّمون أنّه تأليف الصدوق ـ رحمه‌الله ـ وقد ظهر لنا أنّه تأليف أبي حنيفة النعمان بن محمد بن منصور ، قاضي مصر في أيام الدولة الإسماعيليّة ، وكان مالكيّا أولا ، ثم اهتدى وصار إماميّا ، وأخبار هذا الكتاب أكثرها موافقة لما في كتبنا المشهورة ، لكن لم يرو عن الأئمّة بعد الصادق عليه‌السلام ، خوفا من الخلفاء الإسماعيليّة ، وتحت ستر التقيّة أظهر الحقّ لمن نظر فيه متعمّقا ، وأخباره تصلح للتأييد والتأكيد.

قال ابن خلّكان : هو أحد الفضلاء المشار إليهم ، ذكره الأمير المختار المسبّحي في تأريخه ، فقال : كان من العلم ، والفقه ، والدين ، والنبل ، على ما لا مزيد عليه ، وله عدّة تصانيف ، منها كتاب اختلاف أصول المذاهب ، وغيره ، انتهى (٢).

وكان مالكيّ المذهب ، ثم انتقل إلى مذهب الإماميّة.

وقال ابن زولاق في ترجمة ولده علي بن النعمان : وكان أبوه النعمان بن محمد القاضي في غاية الفضل ، من أهل القرآن والعلم ، بمعانيه ، وعالما بوجوه الفقه ، وعلم اختلاف الفقهاء ، واللّغة والشعر الفحل ، والمعرفة بأيّام الناس ، مع عقل وإنصاف ، وألّف لأهل البيت من الكتب آلاف أوراق ، بأحسن تأليف ، وأملح سجع ، وعمل في المناقب والمثالب كتابا حسنا ، وله ردود على المخالفين : له ردّ على أبي حنيفة ، وعلى مالك والشافعي ، وعلى ابن سريج ، وكتاب اختلاف الفقهاء ينتصر فيه لأهل البيت عليهم‌السلام (٣).

__________________

(١) كذا في المصدر والحجرية ، وفي المخطوطة : أهلنا.

(٢) أي كلام المختار المسبّحي في تأريخه ( تاريخ مصر )

(٣) وفيات الأعيان ٥ : ٤١٥.

١٢٨

أقول : ثمّ ذكر كثيرا من فضائله وأحواله ، ونحوه ذكر اليافعي وغيره.

وقال ابن شهرآشوب في كتاب معالم العلماء : القاضي النعمان بن محمد ليس بإماميّ ، وكتبه حسان ، منها شرح الأخبار في فضائل الأئمّة الأطهار عليهم‌السلام ، ذكر المناقب إلى الصادق عليه‌السلام ، الاتّفاق والافتراق ، المناقب والمثالب [ الإمامة ] أصول المذاهب ، الدّولة ، الإيضاح ، انتهى ما في البحار (١).

وقال العلامة الطباطبائي في رجاله : نعمان بن محمد بن منصور ، قاضي مصر ، وقد كان بدو أمره مالكيّا ، ثم انتقل إلى مذهب الإماميّة ، وصنّف على طريق الشيعة كتبا ، منها كتاب دعائم الإسلام ، وله فيه وفي غيره ردود على فقهاء العامّة ، كأبي حنيفة ، ومالك ، والشافعي ، وغيرهم.

وذكر صاحب تأريخ مصر : عن القاضي نعمان : إنّه كان من العلم والفقه ، والدين والنبل ، على ما لا مزيد عليه.

وكتاب الدعائم كتاب حسن جيّد ، يصدّق ما قيل فيه ، إلاّ أنّه لم يرو فيه عمّن بعد الصادق من الأئمة عليهم‌السلام ، خوفا من الخلفاء الإسماعيليّة ، حيث كان قاضيا منصوبا من قبلهم بمصر ، لكنّه قد أبدى من وراء ستر التقيّة مذهبه ، بما لا يخفى على اللبيب (٢).

وقال العالم المتبحّر الجليل السيّد حسين القزويني ، في المبحث الخامس ـ من كتاب جامع الشرائع ـ في شرح حال المشايخ ، وهو كرسالة لطيفة قال : النعمان بن محمد عالم فاضل ، له كتاب دعائم الإسلام.

قال في البحار ـ وساق بعض ما نقلناه ـ وقال (٣) : وأخباره صالحة

__________________

(١) بحار الأنوار ١ : ٣٨ ، معالم العلماء : ١٢٦ / ٨٥٣

(٢) رجال السيد بحر العلوم ٤ : ٥ ـ ١٤.

(٣) أي القزويني.

١٢٩

للتأييد والتأكيد ، ولما اشتهر [ من ] الفتوى بين العلماء الثقات ولم يوجد له مستند منسوب إلى الأئمة الأطهار عليهم‌السلام (١).

وقال المحقّق النحرير الكاظمي في المقابس ، في ذكر القائلين بعدم نجاسة الماء القليل بالملاقاة : وذهب إليه من القدماء صاحب دعائم الإسلام ، كما يظهر من كلامه في هذا الكتاب ـ وساق بعض ما رواه فيه وبيّنه وشرحه ـ ثمّ قال : وهذا الرجل كما يلوح في كتابه من أفاضل الشيعة ، بل الإماميّة ، وإن لم يرو في كتابه إلاّ عن الصادق ومن قبله من الأئمّة عليهم‌السلام ، وقد ظهر للعلاّمة المجلسي قدس‌سره أنّ اسمه أبو حنيفة النعمان بن محمد بن منصور ، قاضي مصر (٢) ، وذكر بعض ما مرّ (٣).

وقال : وما في معالم السّروي من نفي كونه إماميّا منظور فيه ، وقد ذكر السروي أنّ له كتبا حسانا في الإمامة ، وفضائل الأئمّة عليهم‌السلام ، وغيرها ، وعدّ منها كتابا في المناقب الى الصادق عليه‌السلام ، ولعلّ الوجه في اقتصاره عليه عليه‌السلام ما سبق (٤) ، مع احتمال كون [ مراد ] (٥) من نسبه من العامّة إلى الإماميّة أنّه من الشيعة ، لكنّه خلاف الظاهر والله يعلم.

وأكثر الأخبار التي أوردها في الدعائم موافقة لما في كتب أصحابنا المشهورة ، وقال في أوّله : إنّه اقتصر فيه على الثابت الصحيح ممّا جاء عن الأئمّة ، من أهل بيت الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، من جملة ما اختلف فيه الرّواة عنهم ، وإنّه إنّما أسقط الأسانيد طلبا للاختصار ، إلاّ أنّه مع ذلك خالف

__________________

(١) انتهى كلام القزويني والزيادة التي بين المعقوفتين أثبتناها لمقتضى السياق.

(٢) مقابس الأنوار : ٦٥ ـ ٦٦.

(٣) من كلام العلامة المجلسي رحمه‌الله.

(٤) أي كونه قاضي مصر في أيام الدولة الإسماعيلية.

(٥) ما بين المعقوفين أثبتناه من المصدر.

١٣٠

فيه الأصحاب في جملة من الأحكام المعلومة عندهم ، بل بعض ضروريّات مذهبهم كحلّيّة المتعة ، فربّما كان مخالفته لهم هنا ، وبقاؤه على مذهب مالك من هذا الباب ، ولعلّه لبعض ما ذكر ، ولعدم اشتهاره بين الأصحاب ، وعدم توثيقهم له ، وعدم تصحيحهم لحديثه أو كتابه ، لم يورد صاحب الوسائل شيئا من أخباره ، ولم يعدّ الدعائم من الكتب التي يعتمد عليها.

وقال صاحب البحار : ( إنّ أخباره تصلح للتأييد والتأكيد ) مع أنّ أخبار كثير من الأصول والمصنّفات يعتمد عليها وإن كان مؤلّفوها فاسدي المذهب كابن فضّال وغيره ، فليعرف ذلك (١) ، انتهى.

وفي أمل الآمل : نعمان بن أبي عبد الله محمد بن منصور بن أحمد بن حيوان ، أحد الأئمّة الفضلاء المشار إليهم (٢) ، ثم ساق بعض ما مرّ عن ابن خلّكان.

وذكره الشهيد الثالث القاضي نور الله في مجالسه في عداد علمائنا الأعلام ، ورواة أخبارنا الكرام (٣).

ولنرجع الى توضيح بعض ما ذكره هؤلاء المشايخ العظام ، بما فيه قوّة اعتبار كتاب دعائم الإسلام ، ويتمّ ذلك برسم أمور :

الأوّل في قول المجلسي قدس‌سره : قد كان أكثر أهل عصرنا. آخره. والظاهر أنّ سبب التوهّم عدّ الشيخ في الفهرست من كتب الصدوق كتاب دعائم الإسلام (٤) ، فظنّوا أنّه الموجود بأيدينا ، ويرتفع ذلك بعد كثرة الاشتراك في أسامي الكتب ، وبعد طريقة الصدوق عن تأليف مثله ، بأنّه يظهر من مواضع (٥) منه أنّه كان في مصر ، و (٦) مختلطا مع المنصور بالله ، والمهدي بالله

__________________

(١) مقابس الأنوار : ٦٦.

(٢) أمل الآمل ٢ : ٣٣٥ / ١٠٣٤.

(٣) مجالس المؤمنين ١ : ٥٣٨.

(٤) الفهرست : ١٥٧ / ٦٩٥.

(٥) لم ترد في المخطوطة.

(٦) في الحجرية زيادة : أنه كان.

١٣١

من ملوك الفاطميّين (١) ، فراجع.

الثاني في قوله ، وقول الجماعة : إنّه لم يرو عن الأئمّة بعد الصادق عليهم‌السلام. إلى آخره ، والأمر كما قالوا إلاّ أنّي رأيت فيه الرواية عن أبي جعفر الثاني عليه‌السلام ، وعن الرضا عليه‌السلام ، ففي كتاب الوصايا : عن ابن أبي عمير (٢) أنّه قال : كنت جالسا على باب أبي جعفر عليه‌السلام ، إذ أقبلت امرأة ، فقالت : استأذن لي على أبي جعفر عليه‌السلام ، قيل لها : وما تريدين منه ، قالت : أردت أن أسأله عن مسألة ، قيل لها : هذا الحكم ، فقيه أهل العراق فاسأليه ، قالت : إنّ زوجي هلك وترك ألف درهم ، وكان لي عليه من صداقي خمسمائة درهم ( فأخذت صداقي وأخذت ميراثي ، ثمّ جاء رجل فقال : لي عليه ألف درهم ) (٣) وكنت أعرف له ذلك فشهدت بها ، فقال الحكم : اصبري حتى أتدبّر في مسألتك وأحسبها ، وجعل يحسب ، فخرج إليه أبو جعفر عليه‌السلام وهو على ذلك ، فقال : « ما هذا الذي تحرّك به أصابعك يا حكم » فأخبره ، فما أتمّ الكلام حتى قال أبو جعفر عليه‌السلام : « أقرّت له بثلثي ما في يديها ، ولا ميراث لها حتى تقضيه (٤) ».

والمراد به أبو جعفر الثاني عليه‌السلام قطعا ، لأنّ ابن أبي عمير لم يدرك الصادق عليه‌السلام فضلا عن الباقر عليه‌السلام ، بل أدرك الكاظم عليه

__________________

(١) دعائم الإسلام ١ : ٥٤ ـ ٥٥.

(٢) روى القاضي النعمان في دعائمه الحديث المذكور عن الحكم بن عيينة ، بدلا من ابن أبي عمير ، ورواه الشيخ الكليني في الكافي ٧ : ٢٤ حديث ١ و ١٦٧ حديث ١ ، والشيخ الطوسي في التهذيب ٩ : ١٦٤ حديث ٦٧١ ، والاستبصار ٤ : ١١٤ حديث ٤٣٦ كلها عن الحكم بن عتيبة ، والشيخ الصدوق في الفقيه ٤ : ١٦٦ حديث ٥٧٩ عن الحكم بن عيينة ، فعليه يكون استنتاج المصنف ( قده ) من أن المقصود بأبي جعفر في هذه الرواية هو الجواد عليه‌السلام ، وليس الباقر عليه‌السلام لرواية ابن أبي عمير عنه فيه تأمل ، فلاحظ.

(٣) ما بين القوسين زيادة من الحجرية لم ترد في المخطوطة.

(٤) نسخة بدل : يقبضه ( مخطوط ). دعائم الإسلام ٢ : ٣٦٠ / ١٣٠٩.

١٣٢

السلام ولم يرو عنه ، وإنّما هو من أصحاب الرضا والجواد عليهما‌السلام ، وهو من مشاهير الرواة ، بل الفقهاء العظام الذين لا يخفى عصرهم ، وزمانهم وطبقتهم ، على مثله من أهل العلم والفضل ، وهذا ظاهر على الخبير المنصف.

وفي كتاب الوقوف : عن أبي جعفر محمد بن علي عليهما‌السلام ، أنّ بعض أصحابه كتب إليه : إنّ فلانا ابتاع ضيعة وجعل لك في الوقف الخمس (١) .... إلى آخر الخبر المروي في الكافي ، والتهذيب ، والفقيه ، مسندا عن علي ابن مهزيار ، قال : كتبت إلى أبي جعفر عليه‌السلام (٢). إلى آخره ، وعليّ من أصحاب الجواد والرضا عليهما‌السلام ، لم يدرك قبلهما من الأئمة عليهم‌السلام أحدا فلاحظ.

وفي كتاب الميراث : عن حذيفة بن منصور ، قال : مات أخ لي وترك ابنته ، فأمرت إسماعيل بن جابر أن يسأل أبا الحسن عليّا صلوات الله عليه عن ذلك ، فسأله فقال : « المال كلّه لابنته » (٣).

الثالث في تصريح الجماعة بأنّه أظهر الحقّ تحت أستار التقيّة لمن نظر فيه متعمّقا. وهو حقّ لا مرية فيه ، بل لا يحتاج إلى التعمّق في النظر.

أمّا أولا : فلانّ الإسماعيليّة الخالصة كما صرّح به الشيخ الجليل الحسن ابن موسى النوبختي في كتاب الفرق ، هم الذين أنكروا موت إسماعيل في حياة

__________________

(١) دعائم الإسلام ٢ : ٣٤٤ / ١٢٩٠ كتاب العطايا ، فصل : ذكر ما يجوز من الصدقة وما لا يجوز.

(٢) الكافي ٧ : ٣٦ حديث ٣٠ ، والتهذيب ٩ : ١٣٠ حديث ٥٥٧ ، والفقيه ٤ : ١٧٨ حديث ٦٢٨.

(٣) لم نعثر على هذه الرواية في النسخة المطبوعة من الدعائم ، ولم نعثر عليها في الكتب الحديثية ولعلها مذكورة في نسخته.

١٣٣

أبيه ، وقالوا : كان ذلك على جهة التلبيس من أبيه على الناس ، لأنّه خاف فغيّبه عنهم ، وزعموا أنّ إسماعيل لا يموت حتى يملك الأرض يقوم بأمر الناس ، وأنّه هو القائم (١).

وأمّا الباطنيّة منهم فلهم ألقاب كثيرة ، ومقالات شنيعة ، وزعموا كما في الكتاب المذكور أنّ الله عزّ وجلّ بدا له في إمامة جعفر عليه‌السلام وإسماعيل ، فصيّرها في محمد بن إسماعيل.

وزعموا أنّه حيّ لم يمت ، وأنّه يبعث بالرسالة ، وبشريعة جديدة ينسخ بها شريعة محمّد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأنّه من اولي العزم.

وأولو العزم عندهم سبعة : نوح ، وإبراهيم ، وموسى ، وعيسى ، ومحمّد ، وعلي ـ صلوات الله عليهما وآلهما ـ ومحمّد بن إسماعيل ، على أنّ السموات سبع ، وأنّ الأرضين سبع ، وأنّ الإنسان بدنه سبع : يداه ، ورجلاه ، وظهره ، وبطنه ، وقلبه ، وأنّ رأسه سبع : عيناه ، وأذناه ، ومنخراه وفمه ، وفيه لسانه ـ كصدره الذي فيه قلبه ـ وأنّ الأئمّة كذلك ، وقلبهم محمد بن إسماعيل ، وأنّ الله تبارك وتعالى جعل له جنّة آدم ، ومعناها عندهم الإباحة للمحارم ، وجميع ما خلق في الدنيا ، وهو قول الله عزّ وجلّ : ( وَكُلا مِنْها رَغَداً حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ ) (٢) : [ أي ] (٣) موسى بن جعفر بن محمد ، وولده عليهم‌السلام من بعده من ادّعى الإمامة منهم.

وزعموا أنّه خاتم النبيّين الذي حكاه الله عزّ وجلّ في كتابه.

وزعموا أنّ جميع الأشياء التي فرضها الله عزّ وجلّ على عباده ، وسنّها نبيّه

__________________

(١) فرق الشيعة : ٧٩.

(٢) البقرة ٢ : ٣٥.

(٣) ما بين المعقوفتين أثبتناه من المصدر.

١٣٤

وأمر بها ، لها ظاهر وباطن ، وأنّ جميع ما استعبد الله به العباد في الظاهر من الكتاب والسنّة ، فأمثال مضروبة ، وتحتها معان هي بطونها ، وعليها العمل ، وفيها النجاة ، وأنّ ما ظهر منها ففي استعمالها الهلاك والشقاء ، وهي جزء من العذاب الأدنى ، عذّب الله به قوما إذ لم يعرفوا الحقّ ، ولم يقولوا به.

الى غير ذلك من مقالاتهم الشنيعة ، التي نسبها إليهم في الكتاب المذكور (١) ، وغيره في تصانيفهم في هذا الباب.

وأنت خبير بأنّه ليس في كتاب الدعائم ذكر لإسماعيل ، ولا لمحمد أصلا في موضع منه ، حتى في مقام إثبات الإمامة ، وردّ مقالات العامّة وأئمّتهم الأربعة ، فكيف يرضى المنصف أن ينسب إليه هذا المذهب؟! ولا يذكر في كتابه اسم إمامه أو نبيّه ، مع أنّ خلفاء عصره الذين كان هو في قاعدة سلطنتهم ، ومنصوبا للقضاوة من قبلهم ، المدّعين انتهاء نسبهم الى محمد بن إسماعيل ، المستولين على بلاد المغاربة ، ومصر الإسكندرية ، وغيرها ، كانوا في الباطن من الباطنية ـ كما صرّح به العالم الخبير البصير السيد المرتضى الرازي ، في كتاب تبصرة العوام (٢) ـ وكان دعاتهم متفرّقين في البلاد ، ومنهم الحسن الصبّاح المعروف في خلافة المستنصر منهم ، ومع ذلك ليس فيه إشارة إلى هذا المذهب ، وفي مواضع لا بدّ من الإشارة إليه لو كان ممّن يميل إليه.

وأمّا ثانيا : فلأنّه صرّح في كتابه بكفر الباطنيّة وضلالتهم ، وخروجهم عن الدين ، فإنّه قال في باب ذكر منازل الأئمّة عليهم‌السلام ، وتنزيههم ممّن وضعهم بغير مواضعهم ، وتكفيرهم من ألحد فيهم ما لفظه.

أئمّة الهدى صلوات الله عليهم ورحمته وبركاته ، خلق مكرّمون من خلق

__________________

(١) فرق الشيعة : ٨٤ ـ ٨٥.

(٢) تبصرة العوام : ١٨١.

١٣٥

الله جلّ جلاله ، وعباد مصطفون من عباده ، افترض طاعة كلّ إمام منهم على أهل عصره ، وأوجب عليهم التسليم لأمره ، وجعلهم هداة خلقه إليه ، وأدلاّء عباده عليه ، وقرن طاعتهم في كتابه بطاعته وطاعة رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهم حجج الله على خلقه ، وخلفاؤه في أرضه.

ليس كما زعم الضالّون المفترون بآلهة غير مربوبين ، ولا بأنبياء مرسلين ـ إلى أن قال ـ ولمّا كان أولياء الله الأئمّة الطاهرين ، حجج الله التي احتجّ بها على خلقه ، وأبواب رحمته التي فتح لعباده ، وأسباب النجاة التي سبّب لأوليائه وأهل طاعته ، ومن لا يقبل العمل إلاّ بطاعتهم ، ولا يجازى بالطاعة إلاّ من تولاّهم وصدّقهم ، كان الشيطان أشدّ عداوة لأوليائهم وأهل طاعتهم ، ليستزلّهم كما استزلّ أبويهم من قبلهم ، فاستزلّ كثيرا منهم واستغواهم (١) ، واستهواهم ، فصاروا إلى الحور بعد الكور (٢) ، والى الشقوة بعد السعادة ، والى المعصية بعد الطاعة.

وقصد الشيطان كلّ امرئ منهم من حيث يجد السبيل اليه والى الإجلاب بخيله ورجله عليه ، فمن كان منهم قصير العلم ، متخلّف الفهم ممّن تابع هواه ، استفزّه واستغواه ، واستزلّه فمال إلى الجحد لهم والنفاق عليهم ، والخروج عن طاعتهم والكفر بهم ، والانسلاخ من معرفتهم.

ومن كان قد برع في العلم وبلغ حدود الفهم ، فاستزلّه وخدعه ودخل إليه ، من باب محبوبة ، وموضع رغبته ، ومكان طلبته ، فبيّن (٣) له زخرف التأويل ، ونمّق له قول الأباطيل ، فأغراه بالفكرة في تعظيم شأنهم ، ورفع

__________________

(١) ورد هنا في الحجرية والمصدر زيادة : وسول لهم.

(٢) في الدعاء : نعوذ بالله من الحور بعد الكور ، أي نعوذ بالله من الرجوع إلى النقصان بعد الزيادة والتمام ، انظر مجمع البحرين ٤ : ٢٧٩.

(٣) نسخة بدل : فزين ( مخطوطة ) ، وكذا في المصدر.

١٣٦

مكانهم ، وقرّب منه الوسائل ، وأكّد له الدلائل على أنّهم آلهة غير مربوبين ، أو أنبياء مرسلون ، أمكنه من ذلك ما أمكنه فيه ، وتهيأ له منه ما تجرّأ به عليه ، ودخل إلى طبقة ثالثة من مدخل الشبهات ، واستثقال الفرائض الواجبات ، وأباح لهم المحارم ، وسهّل عليهم العظائم ، في رفض فرائض الدين ، والخروج من جملة المسلمين ، بفاسد أقام لهم من التأويل ، ودلّهم عليه بأسوء دليل ، فصاروا إلى الشّقوة والخسران ، وانسخلوا من جملة الإيمان.

نسأل الله العصمة من الزّيغ ، والخروج من الدنيا سالمين ، غير ناكثين ولا مارقين ، ولا مبدّلين ، ولا مغضوب علينا ولا ضالّين (١).

ثم ذكر قصّة الغلاة في عصر أمير المؤمنين عليه‌السلام ، وإحراقه إيّاهم بالنار ، ثم قال : وكان في أعصار الأئمّة من ولده عليهم‌السلام من مثل ذلك ، ما يطول الخبر بذكرهم ، كالمغيرة بن سعيد وكان من أصحاب أبي جعفر محمد بن علي عليهما‌السلام ودعاته ، فاستزلّه الشيطان ـ إلى أن قال ـ : واستحلّ المغيرة وأصحابه المحارم كلّها وأباحوها ، وعطّلوا الشرائع وتركوها ، وانسلخوا من الإسلام جملة ، وبانوا من جميع شيعة الحقّ ، وأتباع الأئمّة عليهم‌السلام ، وأشهر أبو جعفر عليه‌السلام لعنهم ، والبراءة منهم.

ثمّ كان أبو الخطّاب في عصر جعفر بن محمد عليهما‌السلام من أجلّ دعاته ، ثمّ أصابه ما أصاب المغيرة فكفر وادّعى أيضا النبوّة ، وزعم أنّ جعفرا عليه‌السلام إلها ، تعالى الله عزّ وجلّ عن قوله ، واستحلّ المحارم كلّها ، ورخّص لأصحابه فيها ، وكانوا كلّما ثقل عليهم أداء فرض أتوه ، فقالوا : يا أبا الخطّاب خفّف عنّا ، فيأمرهم بتركه ، حتى تركوا جميع الفرائض ، واستحلّوا جميع المحارم ، وأباح لهم أن يشهد بعضهم لبعض بالزور ، وقال : من عرف الإمام حلّ له كلّ شيء كان حرم عليه ، فبلغ أمره جعفر بن محمد عليهما

__________________

(١) دعائم الإسلام ١ : ٤٥ ـ ٤٧.

١٣٧

السلام ، فلم يقدر عليه بأكثر من أن لعنه وتبرّأ منه ، وجمع أصحابه فعرّفهم ذلك ، وكتب إلى البلدان بالبراءة منه وباللعنة عليه ، وعظم أمره على أبي عبد الله عليه‌السلام ، واستفظعه واستهاله.

ثمّ ساق بعض الأخبار في ذلك ، قال : وروينا عن أبي عبد الله عليه‌السلام أنه كتب إلى بعض أوليائه ، وقد كتب إليه بحال قوم قبله ، ممّن انتحل الدعوة : تعدّوا الحدود ، واستحلّوا المحارم ، واطّرحوا الظاهر.

فكتب إليه أبو عبد الله جعفر بن محمد عليهما‌السلام ، بعد أن وصف حال القوم : « وذكرت أنّه بلغك أنّهم يزعمون أنّ الصلاة ، والزكاة ، وصوم شهر رمضان ، والحجّ والعمرة ، والمسجد الحرام ، والبيت الحرام ، والمشاعر ، والشهر الحرام ، إنّما هو رجل ، والاغتسال من الجنابة رجل ، وكلّ فريضة فرضها الله تبارك وتعالى على عباده هو رجل ، وإنّهم ذكروا أنّ من عرف ذلك الرجل فقد اكتفى بعلمه من غير عمل ، وقد صلّى ، وأدّى الزكاة ، وصام وحجّ البيت واعتمر ، واغتسل من الجنابة وتطهّر ، وعظّم حرمات الله والشّهر الحرام ، والمسجد الحرام ، وأنّهم زعموا أنّ من عرف ذلك وثبت في قلبه ، جاز له أن يتهاون ، وليس عليه أن يجتهد ، وأنّ من عرف ذلك الرجل فقد قبلت منه هذه الحدود لوقتها ، وإن هو لم يعملها.

وأنّه بلغك أنّهم يزعمون أنّ الفواحش التي نهى الله تعالى. عنها الخمر ، والميسر ، والزنا ، والربا ، والميتة ، والدم ، ولحم الخنزير أشخاص ، وذكروا أنّ الله عزّ وجلّ إنّما حرّم من نكاح الأمّهات ، والبنات ، والأخوات ، والعمّات ، والخالات ، وما حرّم على المؤمنين من النساء ، إنّما عنى بذلك نساء النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وما سوى ذلك فمباح ، وبلغك أنّهم يترادفون نكاح المرأة الواحدة ، ويتشاهدون بعضهم لبعض بالزور ، ويزعمون أنّ لهذا ظهرا وبطنا يعرفونه ، وأنّ الباطن هو الذي يطالبون به ، وبه أمروا.

وكتبت تسألني عن ذلك ، وعن حالهم وما يقولون ، فأخبرك أنّه من كان

١٣٨

يدين الله بهذه الصفة التي كتبت تسأل عنها ، فهو عندي مشرك بيّن الشرك ، ولا يسع لأحد أن يشكّ فيه » (١). إلى آخر الخبر الشريف الطويل ، الذي رواه سعد بن عبد الله في بصائره ، ومحمّد بن الحسن الصفار في أواخر بصائر الدرجات ، وفيهما : إنّ الذي كتب إليه عليه‌السلام هو المفضل بن عمر (٢) ، ولا يخفى أنّ صاحب هذه المقالات الشنيعة هو أبو الخطاب وأصحابه.

وقال الشيخ المقدّم الحسن بن موسى النوبختي في كتاب المقالات : فأمّا الإسماعيلية فهم الخطابيّة ، أصحاب أبي الخطاب محمّد بن أبي زينب الأسدي الأجدع ، وقد دخلت منهم فرقة في فرقة محمّد بن إسماعيل ، وأقرّوا بموت إسماعيل بن جعفر عليه‌السلام في حياة أبيه ، وهم الذين خرجوا في حياة أبي عبد الله جعفر بن محمّد عليهما‌السلام ، فحاربوا عيسى بن موسى بن علي بن عبد الله بن العباس ، فبلغه عنهم أنّهم أظهروا الإباحات ، ثم ساق قصّة مقاتلتهم وهلاكهم (٣).

ثمّ أنّ الظاهر من كتب المقالات أنّ الإسماعيليّة كلّهم منكرون للشرائع ، تاركون للفرائض ، مستبيحون للمحارم ، ولذا يذكرون ـ إذا بلغوا إلى شرح حالهم ـ أنّهم لقّبوا بسبعة ألقاب ، منها الباطنيّة بالمعنى الذي أشرنا إليه ، صرّح بذلك السيد المرتضى الرازي في تبصرة العوام ، وغيره.

ووافقنا على ذلك السيد الفاضل المعاصر رحمه‌الله في الروضات ، في ترجمة جلال الرومي حيث قال : الإسماعيليّة وإن كانوا في ظاهر دعاويهم الكاذبة ، من جملة فرق الشيعة المنكرين لخلافة غير أمير المؤمنين عليه‌السلام ، إلاّ أنّ الغالب عليهم الإلحاد ، والزندقة ، والمروق عن الدين ، والخروج عن

__________________

(١) دعائم الإسلام ١ : ٤٨ ـ ٥٢.

(٢) بصائر الدرجات : ٥٤٦ ، ومختصر بصائر الدرجات : ٧٨.

(٣) فرق الشيعة : ٨٠ ـ ٨١.

١٣٩

دائرة الموحّدين ، والملّيّين ، وأتباع النبيّين ، انتهى (١).

ولعلّه لذلك لم يتعرّض شيخ الطائفة رحمه‌الله في كتاب الغيبة لإبطال مذهبهم ، كما تعرّض لإبطال مذهب الكيسانيّة ، والناوسيّة ، والواقفيّة ، والفطحيّة ، وغيرها ، لظهور فساد مذهبهم عند جميع فرق المسلمين.

ومن ذلك كلّه ظهر أنّ نسبة هذا العالم الجليل ، صاحب هذا المؤلّف الشريف إلى هذا المذهب السخيف ، افتراء عظيم.

وأمّا ثالثا : فلأنّ لأرباب هذا المذهب ودعاته قواعد واصطلاحات ورموزا وإشارات ، لا أثر لها في هذا الكتاب ، ولا إشارة فيه إليها ، فعندهم أنّه لا بدّ في كلّ عصر من سبعة ، بهم يقتدون ، وبهم يؤمنون ، وبهم يهتدون ، وهم متفاوتون في الرتب : إمام يؤدي عن الله وهو غاية الأدلّة إلى دين الله. وحجّة يؤدّي عن الإمام يحمل علمه. وذو مصّة يمصّ العلم من الحجّة أي يأخذه منه ، فهذه ثلاثة. وأبواب وهم الدعاة : فداع أكبر هو رابعهم ، يرفع درجات المؤمنين. وداع مأذون يأخذ العهود على الطالبين من أهل الظاهر ، فيدخلهم في ذمّة الإمام ، ويفتح لهم باب العلم والمعرفة وهو خامسهم. ومكلّب قد ارتفعت درجته في الدين ، ولكن لم يؤذن له في الدعوة ، بل في الاحتجاج على الناس ، فهو يحتجّ ويرغّب إلى الداعي ، ككلب الصائد ، حتى إذا احتجّ على أحد من أهل الظاهر ، وكسر عليه مذهبه بحيث رغب عنه ، وطلب الحقّ ، أدّاه المكلّب إلى الداعي المأذون ليأخذ عليه العهود ، وإنّما سمّي مكلّبا لأنّ مثله مثل الجارح يحبس الصيد على الصائد ، على ما قاله تعالى : ( وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ ) (٢) وهو سادسهم. ومؤمن يتبع الداعي ، وهو الذي أخذ عليه العهد ، وآمن وأيقن بالعهد ، ودخل في ذمّة الإمام وحزبه وهو سابعهم.

__________________

(١) روضات الجنات ٨ : ٧١.

(٢) المائدة : ٥ : ٤.

١٤٠