تعليقة على معالم الاصول - ج ١

السيّد علي الموسوي القزويني

تعليقة على معالم الاصول - ج ١

المؤلف:

السيّد علي الموسوي القزويني


المحقق: السيّد علي الموسوي القزويني
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-470-313-8
الصفحات: ٤٤٣

اريد من اسم الإشارة والضمائر الثلاث المختصّة بذوي العقول على ـ ما بيّنّاه ـ الّذين لا محمل لهم في هذا المقام إلاّ العترة الطاهرة وأهل بيت النبوّة عليهم‌السلام ، أو الأنبياء وأوصيائهم المعصومين ، وغيرهم من أولياء الله المقرّبين ، من أنّه عليه‌السلام أبو هؤلاء الأنوار وأنّهم من نسله وأولاده وأعقابه.

ولا ريب أنّ فيه من الفضيلة والشرافة والكرامة ما لا يتصوّر ما فوقه ، وإذا احتمل كون ذلك هو سبب الفضيلة ، لا مانع من كون واضع اللغة غيره تعالى من خلق اخر غير ادم عليه‌السلام ، غاية ما هنالك انتفاء احتمال كونه من ولده عليه‌السلام ، بظهور الوضع المأخوذ في مفهوم « الأسماء » في الوضع الحاصل حال النسبة المعتبرة في الكلام ، وهي حال التعليم الّتي هي حال الماضي ، حسبما يقتضيه صيغة « علّم » لو سلّمناه.

وأمّا احتمال كونه من خلق سابق احتمالا مساويا فقائم جدّا ، ولا نافي له في الاية أصلا.

بل قد عرفت عن تفسير الإمام عليه‌السلام ما يقضي بمنع الدلالة من وجه اخر ، وهو كون المراد « بالأسماء » ما ليس بداخل في محلّ البحث على ما أشرنا إليه في صدر المبحث ، كما لا يخفى على المتأمّل.

ومن الوجوه المذكورة في حجّة هذا القول ، قوله تعالى : ( وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوانِكُمْ )(١) بتقريب : أن ليس المراد « بالألسنة » الجارحة المخصوصة ، حيث لا اختلاف فيها ، ولو كان فهو في غاية الخفاء ، بخلافه في غيرها من سائر الجوارح ، فإنّه فيها أشدّ وأبلغ وبدائع الصنع فيه أتمّ وأكمل ، فكان عدّه من جملة الايات أولى وأجدر ، بل المراد بها اللغات الصادرة منها ، مجازا من باب تسمية الحالّ باسم المحلّ ، أو إطلاق اسم السبب على المسبّب ، أو إطلاق الالة على ذيها.

__________________

(١) الروم : ٢٢.

٣٨١

ولا ريب أنّ عدّ اختلاف اللغات من جملة الايات ليس له معنى محصّل ، إلاّ أن يراد باختلافها جعل اللغات مختلفة ، فيكون التقدير : ومن آياته أنّه جعل لغاتكم مختلفة ، ولا يعني بوضع اللغة إلاّ جعلها.

وإن شئت قلت : إنّ معنى الاية : أنّ من آياته ألسنتكم المختلفة ، على معنى أنّه أعطاكم الألسنة المختلفة ، وذلك يقتضي كونه تعالى مخترع اللغات وواضعها ، فالاية على ذلك اية واضحة على التوقيفيّة.

والمناقشة في ذلك بأنّ احتمال إرادة صور النطق عن الألسنة ممّا ينهض مانعا عن تعيّن إرادة اللغات ، ومعه لا ينهض الاية دليلا على المدّعى ، مع حصول غرضه تعالى من عدّ اختلاف الألسنة من جملة الايات ، لوضوح أنّ اختلاف صور النطق وكيفيّاته باعتبار الأصوات واللهجات والنغمات على وجه لا يكاد معه يشتبه منطقان على أحد أشدّ وأبلغ.

يدفعها : قاعدة الأقربيّة ، فإنّ اللغات أقرب مجازات « الألسنة » بحسب العرف ، لمكان غلبة الاستعمال فيها ، كما يرشد إليه ملاحظة موارد الاستعمالات.

وأضعف من تلك المناقشة ما قيل أيضا ، بأنّ اختلاف اللغات لعلّ المراد به الإقدار على إحداثها مختلفة ، فينهض الاية حينئذ دليلا على ضدّ المطلوب ، أو تصير مجملة فتسقط عن درجة الاعتبار ، فإنّ الظاهر بملاحظة السياق من حيث ورودها مورد الامتنان وإظهار العظمة وكمال القدرة وسبق خلق السموات والأرض ولحوق اختلاف الألوان الّذي ليس إلاّ من صنعه تعالى ، كون اللغات المختلفة من عطاياه ومصنوعاته تعالى.

وممّا احتجّ به على التوقيف ، قوله تعالى : ( عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ )(١) بتقريب : كون المراد أنّ كلّما يعلمه الإنسان من الهدى والبيان ، فهو بتعليم الله عزّ وجلّ ، إلاّ ما علم إضافته إليه من زيادات العلوم الحاصلة بتلاحق الأفكار ، أو أنّه

__________________

(١) العلق : ٥.

٣٨٢

علّمه اصول العلوم والصناعات ، وسائر ما يحتاج إليه النوع في إصلاح المعاش والمعاد ، وإن استقلّ بنفسه بتفريع امور كثيرة ، وترتيب اثار جديدة عليها.

وكيف كان ، فاللغة داخلة في التعليم لوجود المقتضي وهو العموم ، وفقد المانع.

وفيه أوّلا : منع وجود المقتضي ، لما سيأتي تحقيقه من أنّ الموصول لا يفيد العموم إلاّ في موضع ليس المقام منه ، وهو ما إذا تضمّن معنى الشرط.

وثانيا : منع اندراج اللغة في العموم ، لمكان الشكّ في كونها ممّا لم يعلم إلاّ بتوقيف الله عزّ وجلّ ـ كما هو محلّ البحث ـ من باب الشبهة في المصداق ، وليس مفاد الاية أنّ كلّما علمه الإنسان فهو بتعليمه تعالى إلاّ ما خرج بالدليل ، بل كلّما لم يستقلّ بعلمه ممّا تعلّق بمعاشه أو معاده فعلمه به إنّما نشأ من تعليمه تعالى ، ولم يثبت اندراج اللغة في هذا العنوان فلا يتناولها العموم.

وثالثا : منع منافاته لاصطلاحيّة اللغة على تقدير اندراجها فيه ، فإنّ اختراع اللغة ووضعها لا بدّ من معرفة طريقهما ، وإذا فرض كون حصولها بتعليم الله عزّ وجلّ كانت اللغة داخلة في العموم بهذا الاعتبار ، فيكون الاية دليلا على ضدّ المطلوب أو مجملة فتسقط عن درجة الدلالة.

ورابعا : منع ثبوت أصل المطلوب بمجرّد ذلك ، وهو كون وضع اللغة من الله عزّ وجلّ كما هو المتنازع ، لجواز كونها من موضوعات غيره تعالى من خلق سابق ، حسبما تقدّم الإشارة إليه.

وممّا احتجّ به أيضا ، قوله تعالى : ( إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ )(١) بتقريب : أنّه تعالى ذمّ عبدة الأوثان في تسميتهم المسمّيات المعيّنة من عند أنفسهم ، فلو لا أنّ التسمية واللغات توقيفيّة لم يكن لذلك وجه.

وفيه أوّلا : النقض بحصول التسمية من غير جهة التوقيف في الأعلام الشخصيّة والامور الاصطلاحيّة والمخترعات العرفيّة ، فإن قيل بكون ذلك نقضا

__________________

(١) النجم : ٢٣.

٣٨٣

بما هو خارج عن محلّ البحث ـ كما تقدّم إليه الإشارة في صدر المبحث ـ لورد عليه كون محلّ الاستدلال أيضا ممّا هو خارج عن محلّ البحث ، لكون التسمية المذكورة في الاية من باب التسمية في الأعلام.

وثانيا : منع كون توجّه الذمّ إليهم من جهة إعراضهم في التسمية عن جهة التوقيف ، بل لأجل أنّهم إنّما كانوا يعبدون مجرّد الأسماء ، حيث إنّ مسمّياتها لعدم كونها إلاّ جمادات لا يترتّب عليها شيء من اثار المعبود ، أو من جهة أنّهم سمّوا هذه المسمّيات بأسماء لا يستحقّها إلاّ المعبود بالحقّ.

وممّا احتجّ به أيضا ، قوله تعالى : ( ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ )(١)( وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ )(٢) بتقريب : أنّ العموم في الايتين يتناول اللغات أيضا.

وفيه : الجزم بعدم ورود بيان اللغات في الكتاب حسبما هو طريقة أهل اللغة في كتبهم ، مع أنّ الكتاب إنّما نزّل بعد شيوع اللغات وانتشارها بأزمنة متطاولة ، فلا يعقل ورود بيانها فيه على وجه يكون هو المرجع لأهل كلّ لغة في الأخذ بها.

وممّا احتجّ به أيضا ، أنّه لو كانت اللغات اصطلاحيّة لزم الدور أو التسلسل ، فإنّ الاصطلاح لا يتمّ إلاّ بمعرفة كلّ من المصطلحين قصد صاحبه ، ولا تكون إلاّ باللفظ أو الكتابة الموقوفين على الاصطلاح ، فإن اتّحدا لزم الدور ، وإلاّ فالتسلسل.

وفيه : منع توقّف معرفة القصد على أحد الأمرين الموقوفين على اصطلاح اخر ، لجواز استنادها إلى الترديد والقرائن إن احتيج إليها في بدو زمان حدوث الاصطلاح مع جهل المخاطب بالمصطلح ، وإلى علمه به إن احتيج إليها بعد استقراره وعلم الكلّ بحدوثه.

وممّا احتجّ به أيضا : أنّ انتفاء التوقيف يستلزم إمكان تطرّق التغيير إلى الشرائع بتغيير لغاتها مع عدم الاشتهار ، والتالي ضروري البطلان.

__________________

(١) الأنعام : ٣٨.

(٢) النحل : ٨٩.

٣٨٤

وقد يقرّر كما في المفاتيح (١) : بأنّ اللغات لو كانت اصطلاحيّة لجاز تغيّر ذلك الاصطلاح وتبدّله ، بأن يصطلح المتأخّرون على غير ما اصطلح عليه المتقدّمون ، وحينئذ يرتفع الأمان من الشرع ، إذ ما من لفظ إلاّ ويحتمل ذلك ، ولا يمكن أن يستدلّ على عدم حصول التغيّر بعدم ظهوره ، لأنّ عدم الوجدان لا تدلّ على عدم الوجود ، ولا يمكن أن يقال : لو كان لاشتهر بل وتواتر ، وعدمهما يدلّ على العدم ، للمنع من الملازمة ، فإنّ من معجزات النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ما لم يشتهر وما لم يتواتر.

وفيه : مع أنّ التوقيفيّة لا تمنع عن تطرّق التغيير إلى اللغات ، كما يرشد إليه وجود الحقائق العرفيّة ، كما هو المصرّح به في كلامهم ، بل المتّفق عليه عندهم ، منع الملازمة إن اريد حصول التغيّر في الكلّ ، ومنع بطلان اللازم إن اريد حصوله في البعض النادر ، وكون كلّ لفظ محتملا له على فرض صحّته لا يوجب ارتفاع الأمان من الشرع ، لأنّه يعالج بالاصول المحكمة المتّفق عليها عندهم ، كيف والاحتمال قائم في أكثر الحقائق العرفيّة ، ولو فرضنا اللغات بحسب الواقع توقيفيّة مع ابتناء الشرع عليها ، ولم يذهب إلى وهم كونه منشأ للإشكال.

وعن أبي هاشم الاحتجاج بوجهين :

أحدهما : قوله تعالى : ( وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسانِ قَوْمِهِ )(٢) فإنّه يدلّ على سبق وضع اللغة على الإرسال ، فلو كانت اللغة بالتوقيف الّذي لا يتصوّر إلاّ بالإرسال ، لزم سبق الإرسال عليها وهو محال.

وبعبارة اخرى : أنّ الاية دلّت على سبق اللغة على الإرسال ، فلو كانت توقيفيّة لزم سبق الإرسال عليها واللازم باطل لكونه محالا ، أمّا الملازمة : فلتوقّف التوقيف على الإرسال المستلزم لتوقّف اللغة عليه ، ومن المعلوم أنّ كلّ موقوف مسبوق على الموقوف عليه ، وقد فرضنا فيما نحن فيه كونه سابقا.

وفيه : منع انحصار طريق التوقيف في الإرسال ، لجواز حصوله بغير الوحي

__________________

(١) مفاتيح الاصول : ٣ ( الطبعة الحجرية ).

(٢) إبراهيم : ٤.

٣٨٥

كخلق أصوات أو علم ضروري ، أو بالوحي إلى نبيّ غير رسول ، بناء على كونه أعمّ من الرسول ، أو إلى الرسول قبل بعثه للرسالة إلى قومه ، إمّا لفقدهم كما في ادم عليه‌السلام بعد خلقته إلى أوائل هبوطه إلى الأرض أو لعدم كونه مأمورا بتبليغ الأحكام ، بناء على أنّ الرسول هو الرجل المبعوث لتبليغ الأحكام ، فيجوز أن يوحى إليه باللغة قبل البعثة ، ثمّ ارسل للتبليغ فيصدق قوله : ( وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسانِ قَوْمِهِ ) لأنّه لا يسمّى قبل البعثة رسولا وإن اوحى إليه اللغة.

وثانيهما : أنّ اللغات لو كانت توقيفيّة لكان إيقافه إلى المخلوق إمّا بخلق علم ضروري بأنّه تعالى وضع تلك الألفاظ لمعانيها أو لا ، وكلاهما فاسدان.

أمّا الأوّل : فلأنّ خلق ذلك العلم الضروري إمّا في العاقل أو غيره ، والأوّل باطل لاستلزامه أن يكون العلم به ضروريّا ، أمّا الملازمة : فلأنّ وضعه اللغات وصف له ، والعلم بالصفة مسبوق بالعلم بالموصوف وفرع له ، فالعلم الضروري بالوصف يستلزم أن يكون العلم بالموصوف أيضا كذلك ، والتالي باطل لاستلزامه ألايكون المعرفة مكلّفا بها ، وبطلانه ممّا يشهد به العيان وضروريّة فساده كفت عن إقامة البرهان ، وكذلك الثاني لامتناع أن يخلق في غير العاقل علما ضروريّا بالألفاظ ومناسباتها وتراكيبها العجيبة.

وأمّا الثاني : فلافتقار السامع حينئذ في كون ما سمعه موضوعا بإزاء معناه إلى طريق ، فننقل الكلام إليه فإمّا يدور أو يتسلسل ، وكلاهما محالان.

وفيه : أنّ خلق العلم الضروري بالوضع من دون أن يستتبع محذورا ممّا يشهد بإمكانه العيان الغير المفتقر إلى البيان ، ودعوى قضائه بضروريّة العلم به تعالى استنادا إلى كون وضع اللغات وصفا له والعلم بالصفة مسبوق بالعلم بالموصوف وفرع له ، ويلزم منه عدم كون المعرفة مكلّفا بها كلام ظاهري لا يلتفت إليه ، فإنّ المسبوق بالموصوف إنّما هو نفس الصفة في تحقّقها الواقعي ووجودها الخارجي ، وأمّا معرفتها الّتي هي عبارة عن تحصّلها الذهني فليست مسبوقة بمعرفة الموصوف ، ولا موقوفة عليها ما لم تؤخذ إضافتها إليه ، على أنّ الوضع من مقولة

٣٨٦

الأفعال الخارجيّة الّتي ربّما يعلم بها من غير العلم بفواعلها على التعيين ، كما في « ضرب زيد » فمن الجائز لله تعالى خلق العلم الضروري بأصل الوضع المتعلّق بألفاظ مخصوصة لمعان معيّنة ، من دون خلق العلم بفاعله.

ولو سلّم فيتوجّه المنع إلى قضائه بسقوط التكليف بالمعرفة ، فإنّ المكلّف به إنّما هو معرفة ذاته الشريف بجميع صفاته الكماليّة ، الّتي ليس منها كونه واضعا على معنى عدم ثبوت التكليف بمعرفته بتلك الصفة ، وخلق العلم الضروري إنّما يفرض بالنسبة إلى تلك الصفة ، وهو لا يستلزم العلم الضروري بسائر صفاته المكلّف بمعرفتها ، ضرورة أنّ معرفة « زيد » على أنّه عالم لا يكفي عن معرفته على أنّه شاعر أو كاتب أو غير ذلك من الصفات اللاحقة به.

هذا مع إمكان اختيار الشقّ الثاني ومنع فساده بمنع أدائه إلى الدور أو التسلسل ، فإنّ السامع إن اريد به من أوقفه الله تعالى اللغات ، فالمحذور إنّما يرد لو انحصر طريقه في الوحي أو خلق الأصوات وهو بمكان من المنع ، لوجود طريق اخر بأن يبعث ملكا بصورة البشر يعلّمهم اللغات بطريق الترديد والقرائن من دون دور ولا تسلسل ، مع إمكان المنع عن لزومهما لو أراد الإيقاف بأحد الطريقين ، لجواز أن يكون قد أدّب أحدا من خلقه باداب الفطانة ونوّر قلبه بأنوار الزكاوة ، فهو بحسب صفاء باطنه وضياء قلبه كلّما أحسّ شيئا من المعاني الحاضرة عنده بالحواسّ الظاهريّة أو الباطنيّة وطلب أمرا يكون معبّرا عنه ، فأوحى الله تعالى إليه عند ذلك لفظه الّذي وضعه بإزائه من دون الحاجة إلى توسيط واسطة.

وإن اريد به غيره من تابعيه بعد وقوفه عليها بإيقاف من الله تعالى ، فإمكان إيقافه بمعونة الترديد والقرائن من دون استلزامه المحذورين غنيّ عن البيان.

وعن أبي إسحاق الاحتجاج على توقيفيّة القدر الضروري المحتاج إليه في التعريف ، بأنّه لو لم يكن القدر المحتاج إليه توقيفيّا لزم الدور ، لتوقّف الاصطلاح على سبق معرفة هذا القدر ، والمفروض أنّه لا يعرف إلاّ بالاصطلاح ، فيلزم توقّف معرفته على الاصطلاح المتوقّف معرفته عليه ، وهو الدور.

٣٨٧

وجوابه : يعلم ممّا قرّرناه في دفع الاحتجاج بنحو ذلك على التوقيفيّة المطلقة.

وعن أصحاب القول الرابع الاحتجاج ، بأنّه لو لم يكن القدر الضروري المحتاج إليه اصطلاحيّا لكان توقيفيّا ، والمفروض أنّه لا يكون إلاّ بالوحي فيلزم حينئذ إمّا توقّفه على نفسه أو على وحي اخر ، فإذا نقل الكلام إليه يؤول إلى الدور أو التسلسل ، وجوابه يعلم ممّا تقدّم في دفع حجّة القول الثاني.

وأمّا حجّة المتوقّف : فهو إمكان الجميع مع ضعف حجج الأقوال كلّها.

واجيب عنها : بأنّه مسلّم إن اريد القطع ، فإنّ أدلّة الأقوال بأسرها قاصرة عن إفادته ، وغير مسلّم إن اريد الظهور لقوّة أدلّة التوقيف مطلقا.

أقول : قد عرفت ضعف أكثر أدلّة هذا القول.

٣٨٨

ـ تعليقة ـ

اختلفوا في كون الألفاظ بأسرها موضوعة للامور الخارجيّة أو للصور الذهنيّة ، على ما هو المعروف من قدماء الاصوليّين من انحصار الخلاف بحسب أصل وضع المسألة في قولين ، عزي أوّلهما إلى بعض الناس ، وربّما يعزى إلى السيوطي في المزهر ، وحكي نسبته أيضا إلى السبكي وأبي إسحاق الشيرازي وابن مالك ، ويظهر الميل إليه من العلاّمة في النهاية ، وربّما كان عبارته صريحة في اختياره وثانيهما إلى جماعة ، ولذا ترى أنّ أساطين المتعرّضين للمسألة كالعلاّمة في التهذيب والنهاية وشارح التهذيب في المنية وغيرهما لم يذكروا ما عداهما ، وهو المستفاد من أدلّة الطرفين ، لظهورها في دوران المعاني بالقياس إلى الألفاظ الموضوعة بين كونها خارجيّة أو ذهنيّة من دون واسطة ، وهو الّذي يساعد عليه النظر بملاحظة ما سنقرّره من تفسير الامور الخارجيّة والصور الذهنيّة.

وقضيّة ذلك كون ما عداهما ممّا حدث من المتأخّرين ، كما نصّ عليه غير واحد أيضا ، فمن جملة ذلك ما نسب إلى محقّقي المتأخّرين من كونها موضوعة للمعاني الواقعيّة المعبّر عنها بالماهيّات من حيث هي هي ، على معنى كون المأخوذ في الوضع هي المعاني بذواتها وحقائقها من غير نظر إلى وجودها في الخارج ولا في الذهن ، ذهبوا إليه بزعم أنّه يغاير القول الأوّل ، وستعرف منعه.

ومنها : الفرق بين ما له مصداق في الخارج فللخارجيّة ، وما لا مصداق له فيه ـ كالممتنع والمعدوم ونحوهما ـ فللذهنيّة.

٣٨٩

ومنها : الفرق بين الكلّيات فللماهيّات ، والجزئيّات فللخارجيّة.

ومنها : الفرق بين الجزئيّات الخارجيّة فللشخص الخارجي ، والجزئيّات الذهنيّة فللشخص الذهني ، والكلّيات فللماهيّات من حيث هي ، حكاه بعض أجلّة السادة عن المتأخّرين ، واختاره قائلا : « بأنّه الحقّ الّذي لا محيص عنه ، ثمّ قال ـ في اخر كلامه ـ : ولا يذهب عليك أنّه يمكن رجوع القول بالماهيّة إلى هذا التفصيل ، على أن يكون المراد من الماهيّة ذات الشيء وحقيقته مطلقا ، كلّيّة كانت أو جزئيّة ، فإنّها قد تطلق على هذا المعنى ». انتهى.

وقد يناقش في هذا القول : بأنّه ليس فيما بين الألفاظ الموضوعة ما يكون دالاّ على الجزئيّات الذهنيّة ليلتزم بوضعه للشخص الذهني ، وربّما يقرّر هذه المناقشة : بأنّه ليس فيما بين المعاني ما يكون جزئيّا ذهنيّا ليكون اللفظ الدالّ عليه موضوعا بإزائه.

نعم هاهنا معان لا تحصّل لها إلاّ في الذهن ، كالكلّية والجزئيّة والجنسيّة والنوعيّة والفصليّة وغيرها من المعقولات الثانية غير أنّها كما ترى امور كلّية لا ينبغي التعبير عنها بالجزئيّات الذهنيّة.

وربّما يوجّه بأنّ المعاني الحاصلة في الذهن إذا اشير إليها باسم الإشارة كانت جزئيّات ذهنيّة بالقياس إلى كلّي المشار إليه ، فيكون اللفظ الدالّ عليه موضوعا بإزائها على ما يراه متأخّروا أهل العربيّة ، من كون الموضوع له فيه وفي نظائره خاصّا. وفيه ما لا يخفى ، فإنّ النظر في هذا التفصيل على ما يستفاد من دليله الاتي إلى إناطة جزئيّة الجزئي بوجوده ، على معنى تحصّله في أحد الوعاءين الملازم لتشخّصه بانضمام المشخّصات الخارجة عن حقيقة الفرد ، ومناط جزئيّة الصور الذهنيّة الّتي يقع عليها اسم الإشارة بالتقرير المذكور ليس مجرّد الوجود الذهني ، بل اندراجها تحت كلّي عنوان « المشار إليه » من حيث كونها أخصّ منه ، وإن كانت أعمّ بالقياس إلى ما تحتها ، كما لو كانت ماهيّة جنسيّة أو نوعيّة.

وأيضا فلو كان نظر هذا القائل في قسم الجزئيّات الذهنيّة إلى هذا الفرض ،

٣٩٠

لوجب عليه تربيع الأقسام أو جعل القسم الثاني ما يعمّ الجزئيّات الخارجيّة والذهنيّة ، التفاتا إلى وقوع اسم الإشارة بحسب الاستعمالات تارة على الخارجيّة واخرى على الذهنيّة.

نعم يمكن التوجيه بأنّ الجزئي لا يغاير الكلّي إلاّ في أنّ الماهيّة إذا اخذت بلا شرط الوجود والعدم خارجا وذهنا كانت كلّيا ، وإذا اخذت بشرط الوجود خارجا أو ذهنا كانت جزئيّا ، ضرورة أنّ الماهيّة الموجودة في الخارج باعتبار تحصّله الخاصّ ممتنع الصدق على كثيرين ، بناء على أنّ امتناع الصدق فيما بين الجزئيّات الخارجيّة إنّما هو لتغايرها باعتبار تعدّد وجودات الماهيّة ، كما أنّ الماهيّة المرتسمة في الذهن ـ كما هو حقيقة معنى تحصّلها الذهني باعتبار ارتسامها الخاصّ ـ ممتنع الصدق على الكثيرين ، بناء على أنّ التغاير المعتبر في امتناع الصدق إنّما هو باعتبار تعدّد ارتساماتها.

نعم إذا جرّد النظر عن الارتسام الخاصّ انقلبت كلّيا ، كما أنّه إذا جرّد النظر عن وجودها الخاصّ في الخارج انقلبت كلّيا ، فهي إذا اخذت بالاعتبار المذكور كانت جزئيّا ذهنيّا ، فيكون اللفظ الدالّ عليه موضوعا بإزاء الشخص الذهني ، وهذا هو الّذي يساعد عليه دليل هذا القول ، وإن كان يزيّفه : أنّه إنّما يدفع المناقشة بالتقرير الثاني.

وأمّا تقريرها الأوّل فعلى حاله ، لتطرّق المنع إلى وجود لفظ يكون وضعه للدلالة على الجزئيّات الذهنيّة ، بل منع ما يكون من الألفاظ الموضوعة دالاّ على الجزئي الذهني من حيث إنّه جزئي ذهني ، كما هو واضح.

وهاهنا توجيه ثالث لهذا القول ، وهو أنّ من المعاني ما هو من قبيل الأعراض المحتاجة إلى محلّ تقوم به ، ومن الأعراض ما هو قائم بالذهن ، كالمعرفة والعلم والإدراك وغيرها من الصور الذهنيّة ، باعتبار أنّها قائمة به من جهة كونها علما أو إدراكا أو غيرهما لا باعتبار أنّها حاصلة فيه.

ولا ريب أنّها إذا اخذت بمشخّصاتها من حيث خصوصيّات المحلّ كالذاهن ،

٣٩١

أو المتعلّق أو غيرهما كانت جزئيّات ذهنيّة ، ويكون الألفاظ الدالّة عليها كنكرات ألفاظ المعرفة ، والعلم والظنّ واليقين والشكّ موضوعة بإزائها ، بناء على أنّ النكرة موضوعة للفرد المأخوذ بوصف الانتشار.

وهذا كما ترى أوجه ممّا تقدّم ، إلاّ أنّ كلام القائل ودليله لا يساعد عليه.

وكيف كان فالإنصاف : أنّ القول بوضع الألفاظ للامور الخارجيّة لا يغاير القول بالماهيّة باعتبار المعنى ، وإن غايره بحسب العبارة.

وبيانه : أنّ معاني الألفاظ مطلقا إن اخذت لذواتها وفي حدّ أنفسها كانت امورا واقعيّة جزئيّة كانت أو كلّية ، حتّى ما لم يكن له مصداق في الخارج بالفعل مع الإمكان أو الامتناع ، بعد مراعاة الفرض وملاحظة إمكانه وإن استحال المفروض كما عليه مبنى كلّية الكلّي ، وإن اخذت متحصّلة في الذهن لم يكن الداخل فيه ذوات هذه المعاني وأعيانها ، فإنّه ممّا يستحيله العقل بل صورها المطابقة لها وأشباهها المنطبقة عليها ، على حدّ ما يحصل في المراة من الجسم المحاذي لها ، فإنّ الذهن المدرك للأشياء حاله كالمراة ينطبع منها فيه صورها شبه ما ينطبع منها في المراة ، وهذا هو المراد من الصور الذهنيّة في كلام من يزعم وضع الألفاظ بإزائها ، والأمر في مسألة وضع الألفاظ في نظر القوم مردّد بين تعلّقه بصور المعاني المنطبعة في الأذهان ، أو بذواتها وأعيانها وهذا هو المراد من وضعها للامور الخارجيّة ، بناء على أنّ المراد من الخارج هنا إنّما هو الخارج عن الذهن ، وهو المرادف للواقع على حدّ ما اريد به في حدّ الخبر ، بأنّه : « كلام لنسبته خارج ».

وممّا يفصح عن ذلك مضافا إلى أنّه المستفاد من مطاوي كلماتهم ومساق أدلّة الطرفين ، عبارة العلاّمة في النهاية ، فإنّه بعد ما حكم بأنّ الألفاظ لم توضع للدلالة على الموجودات الخارجيّة بل للدلالة على الذهنيّة ، وذكر حجّته في المفردات والمركّبات معا ، قال : وفيه نظر ، فإنّ الواضع إنّما وضع الألفاظ للمعاني الخارجيّة

٣٩٢

والحقائق العينيّة ، وأمر من يتحدّث على لغته باستعمال اللفظ فيما وضعه له ، إلى اخر كلامه رفع مقامه.

فإنّ قوله : « والحقائق العينيّة » عطف تفسير للمعاني الخارجيّة ، وهو مع وصف الحقائق بالعينيّة قرينة واضحة على أنّ مراد أهل القول بوضعها للمعاني الخارجيّة دعوى وضعها لحقائق المعاني وأعيانها ، قبالا لمن يدّعي وضعها لصور تلك الحقائق وأشباهها ، والتعبير « بالعين » تنبيه على مقابلته للشبه والصورة ، فالنزاع بناء على ما قرّرناه لا يرجع إلى أخذ الوجود بأحد قسميه في مداليل الألفاظ ومعانيها الموضوع لها شطرا أو شرطا ، كما زعمه جماعة بل هو المعروف في أعصارنا هذه ، فإنّه اشتباه في فهم معنى عنوان المسألة وغفلة عن حقيقة مراد المتنازعين فيها.

والظاهر أنّ منشأ الاشتباه أمران ، أحدهما : ما تكرّر في تضاعيف المسألة ، من التعبير عن القولين بالوضع للموجودات الخارجيّة والوضع للموجودات الذهنيّة.

وثانيهما : احتجاج أهل القول بالوضع للامور الخارجيّة ، بما يأتي من قول القائل : « شربت الماء وأكلت الخبز ... » الخ.

وقد عرفت ما يصرف الأوّل عمّا يوهمه ، وليس مبنى الاستدلال على كون هذه الألفاظ مستعملة فيما دخل فيه الوجود ، بل على كونها مستعملة في أعيان المعاني المرادة منها لا في صورها المرتسمة في الذهن ، بدليل أنّ الأفعال المذكورة لا تتعلّق إلاّ بالأعيان ولا يعقل تعلّقها بالصور الذهنيّة ، وكما أنّه ليس مبنى النزاع على أخذ الوجود بأحد قسميه في الوضع بعنوان الجزئيّة أو بعنوان القيديّة ، فكذلك ليس مبناه على ملاحظته حيثيّة في الوضع للمفاهيم من دون اعتباره جزا ولا قيدا ، ولا على ملاحظة الحيثيّة بالقياس إلى المفاهيم ، بأن يعتبر الوضع لها من حيث كونها عنوانات لمصاديقها خارجيّة أو ذهنيّة ، فإنّه على ما قرّرناه من تحريره لا يقتضي شيئا من هذه الاعتبارات ، بل يأبى أكثرها كما لا يخفى على المتأمّل.

٣٩٣

ومن هنا اتّضح ضعف ما في كلام بعض الأفاضل (١) من ذكره وجوه أربع للقول بوضعها للامور الخارجيّة ، مع اختياره هذا القول في وجهه الرابع :

أحدها : اعتبار الوجود الخارجي ، على أن يكون جزا للموضوع.

وثانيها : اعتباره على أن يكون قيدا خارجا عنه ، مع دخول التقييد فيه.

وثالثها : اعتبار الوضع للمفاهيم باعتبار وجودها الخارجي ومن حيث تحقّقها كذلك ، على معنى كون الموضوع له نفس تلك المفاهيم بهذه الملاحظة ، أعمّ من أن تكون موجودة في الخارج فعلا أو لا.

ورابعها : اعتباره لها من حيث كونها عنوانات لمصاديقها في الواقع ، سواء كان من شأن مصاديقها أن تكون خارجيّة أو ذهنيّة أو أعمّ منهما ، ولو كان تقديريّا كما في الممتنعات ، ثمّ أطنب حتّى ساق الكلام إلى إجراء هذه الوجوه في القول بوضعها للمعاني الذهنيّة ، فإنّ هذا كلّه كما ترى خروج عن وضع المسألة حسبما دوّنه الأساطين ، منشؤه ما نبّهنا هنا عليه من الغافلة عن حقيقة مرادهم.

وأضعف منه ما عرفته عن بعض أجلّة السادة (٢) من دعوى إمكان رجوع القول بالماهيّة إلى ما اختاره من التفصيل ، فإنّ جميع المعاني بالقياس إلى ألفاظها الدالّة عليها ـ بالنظر إلى ما قرّرناه في معنى النزاع ـ على حدّ سواء ، لجريان احتمال كون وضعها لأعيان المعاني كلّية أو جزئيّة خارجيّة أو ذهنيّة بالوجه الثالث من التوجيهات المتقدّمة ، أو لصورها المرتسمة في الأذهان ، ولا يعقل فيه التفصيل على الوجه الّذي اختاره كما هو واضح.

وأضعف من الجميع ، ما عن بعضهم من القول بأنّ من قال : بأنّ الألفاظ موضوعة للامور الذهنيّة إنّما أراد بالصور الذهنيّة الماهيّة من حيث هي ، فإنّه قد يطلق عليها اسم الصورة ، تعليلا بأنّه لو كان النزاع في الصورة الذهنيّة بمعنى المعلوم لم تنهض الدلائل الّتي ذكروها على إفادة المدّعى ، إذ لا يلزم من عدم

__________________

(١) هداية المسترشدين : ٧٣ ( الطبعة الحجرية ).

(٢) هو السيّد مهدي بحر العلوم رحمه‌الله.

٣٩٤

كونها موضوعة للأمر الخارجي كونها موضوعة للصور الذهنيّة من حيث إنّها صور ذهنيّة ، فإنّ هذا في معنى جعل النزاع لفظيّا ، فإنّ الماهيّة إذا اريد بها أعيان المعاني وحقائقها لا واسطة بينها وبين صورها المنطبعة في الأذهان ، ليرجع إليها القول بكونها موضوعة للصور الذهنيّة.

وقد علم بما قرّرناه انّ أهل القول بذلك لا يدّعون الوضع لها باعتبار أنّها امور معلومة ، بل مرادهم ثبوت الوضع بإزائها بزعم عدم ثبوته لأعيان المعاني وحقائقها ، باعتبار أنّها امور واقعيّة.

ومثله في الضعف ما عن بعض المحقّقين (١) من جعل النزاع في مسألة الوضع لفظيّا ، بدعوى : كون مال القولين إلى القول بالوضع للماهيّة بمعنى الصورة المعلومة ، فمن قال : إنّها موضوعة للأمر الخارجي أراد بالأمر الخارجي ما يقابل الصورة الذهنيّة ، بمعنى الصورة العلميّة القائمة بالذهن ، ومن قال : إنّها موضوعة للامور الذهنيّة أو الصور الذهنيّة أراد بها الماهيّة المعلومة ، إذ كثيرا مّا يطلق عليها الصورة ، فإنّ هذا على ما قرّرناه كلام خال عن التحقيق ويبعد صدوره عن المحقّقين ، وهو كما ترى يستلزم كون مراد القائلين بالوضع لنفس الماهيّات هو هذا المعنى ، وهو بعد ما بيّنّاه من أنّ المراد بها وبالوضع للامور الخارجيّة نفس المعاني وأعيانها وحقائقها الواقعيّة من حيث إنّ المعاني الذهنيّة صور لها وأشباه منطبقة عليها واضح الفساد ، فالمراد بالامور الخارجيّة ما يقابل الصور المنطبعة في الذهن المنطبقة على ذواتها ، لا ما يقابل الصور العلميّة القائمة بالذهن.

وبجميع ما قرّرناه يندفع ما اعترض على القول بالماهيّة ، من أنّ الوضع لها إنّما يستقيم في الامور الكلّية كالإنسان مثلا ، فإنّ الظاهر أنّها موضوعة للماهيّة من حيث هي ، مع قطع النظر عن الوجود الذهني والخارجي.

وأمّا الامور الشخصيّة فلا يصحّ فيها القول بالماهيّة ، إذ ظاهر أنّ « زيدا » مثلا

__________________

(١) هو سلطان العلماء في حاشيته على المعالم.

٣٩٥

ليس موضوعا لماهيّة الإنسان من حيث هي ولا يعقل له مع قطع النظر عن الوجودين ماهيّة غير ماهيّة الإنسان أصلا ، إذ لا يمكن أن يكون شخص واحد موجودا في الذهن والخارج معا ... الخ ، فإنّ الماهيّة بمعنى عين المعنى في مقابلة الصورة المنطبعة عنه في الذهن لا يتفاوت فيها الحال بين كلّية المعنى وجزئيّة.

وكلّ هذه الكلمات كما ترى مبنيّ على ما ذكرناه من توهّم رجوع النزاع إلى أخذ الوجودين في الوضع وتجريده عنهما ، اشتباها عن حقيقة تصوير المسألة ، فلا ينبغي الالتفات إليها.

نعم هاهنا شيء اخر ، وهو أنّه ربّما يحكى عن بعض الأفاضل (١) أنّه بنى الخلاف في هذه المسألة على الخلاف في مسألة المعلوم بالذات ، مدّعيا : أنّ من قال : بأنّ المعلوم بالذات هو الصورة الذهنيّة كالشيخين وأتباعهما ، بناء على أنّ الحاصل في الذهن حقيقة إنّما هو الصور الذهنيّة وذو الصورة إنّما يحصل فيه بناء على أنّ صورته المطابقة أو غير المطابقة حاصلة فيه ، وأنّا كثيرا مّا نتصوّر أشياء لا وجود لها في الخارج ، قال : بأنّ الألفاظ موضوعة للصور الذهنيّة ، ومن قال : إنّ المعلوم بالذات هو ذو الصورة كالعلاّمة الرازي ، والمحقّق الطوسي ، والسيّد الشريف وغيرهم ، بناء على أنّ ذو الصورة هو الملتفت إليه بالذات ، وأنّ الصورة إنّما هي مراة لملاحظته ، ولذا قد يحصل الالتفات إلى الأمر الخارجي من دون شعور بالصورة ، بل مع إنكارها ، كما للمتكلّمين النافين للوجود الذهني وارتسام الصور ، وإنّا إذا أبصرنا « زيدا » كان المبصر هو زيد الخارجي لا صورته المنطبعة في الجليديّة ، فإنّها ليست من المحسوسات فضلا عن أن يكون من المبصرات ، قال : بأنّ الألفاظ موضوعة للامور الخارجيّة ، وهذا بناء على أن الألفاظ موضوعة لما هو معلوم بالذات.

وهذا البناء كما ترى غير واضح الوجه ، وإن كان مورد المسالّتي ن واحدا ، فإن

__________________

(١) هداية المسترشدين : ٧٩ ( الطبعة الحجرية ).

٣٩٦

كان النظر فيه إلى أنّ الوضع لما هو معلوم بالذات من مقتضى حكمة الواضع ، والوضع لغيره خروج عنها ، فهو راجع إلى ترجيح اللغة بالعقل.

وإن كان النظر فيه إلى أنّ الوضع له أقرب وأدخل بحكمة الوضع وهو التفهيم والتفهّم ، من حيث إنّ غير المعلوم بالذات ربّما يغافل عنه فلم يحصل التفهيم والتفهّم ، ففيه : أنّ الأقرب بحكمة الوضع ما عليه مدار الأحكام المتعلّقة بمعاني الألفاظ ، على حسب حوائج أهل المحاورة ومقاصدهم ، وليس إلاّ ذو الصورة.

وإن كان النظر فيه إلى أنّ الوضع مسبوق بتصوّر الموضوع له ، وتصوّر ما هو معلوم بالذات قد حصل للواضع لا محالة ، وتصوّر غيره لكونه ممّا يغافل عنه غير معلوم الحصول ، فينفى احتماله بالأصل ولا يعقل ذلك في تصوّر المعلوم بالذات ، فتعيّن التزام الوضع له ، لأنّه فيما لم يتصوّر غير معقول.

ففيه : مع عدم استقامته على تقدير توقيفيّة اللغات ، أنّ مراعاة حكمة الوضع في نظر الواضع ممّا يدعوه إلى مراعاة ما هو أقرب بها ، وإن فرضناه غير معلوم بالذات والظاهر أنّ النظر في البناء المذكور ليس إلى شيء من هذه الوجوه ، مع أنّه لو صحّ هذا لوجب على أصحاب القولين هنا تعليل ما اختاره بما رجّحه ثمّة من المعلوميّة بالذات ، فالعدول عنه إلى ما يأتي من الأدلّة بيّنة واضحة على انتفاء الملازمة بين كون شيء معلوما بالذات وكونه موضوعا له في نظر أصحاب القولين هاهنا ، بل الاستناد لإثبات الوضع للامور الخارجيّة إلى تعلّق الأحكام بها كالاستناد لإثباته للصور الذهنيّة إلى دوران التسمية وجودا وعدما معها ، دليل على أنّهما العلّة الكاشفة في نظر الفريقين عن مورد الوضع وإن فرضناه غير معلوم بالذات ، مع أنّ بناء المسألة اللغويّة على المسألة العقليّة مع وضوح انتفاء التلازم بينهما كما ترى.

نعم لو ثبت اتّفاق الفريقين على كون الألفاظ موضوعة لما هو معلوم بالذات ثمّ افترقا لتعيينه في المسألة العقليّة كان له وجه ، غير أنّه مع عدم مساعدة أدلّة المسالّتي ن عليه محلّ منع ، ولذا قيل في الاعتراض عليه بأنّ تلك المقدّمة ليست

٣٩٧

بيّنة ولا مبيّنة ولا مسلّمة للجميع ، فتفريع الخلاف عليها مجرّد دعوى لا شاهد لها.

واعترض عليه أيضا (١) : بأنّه لو صحّ البناء المذكور فالواجب أن يزاد في المسألة قول ثالث ، هو أنّ اللفظ في الموجود الخارجي موضوع لما هو موجود في الخارج وفيما عدا ذلك للأمر الذهني ، فإنّ الظاهر من كلام صاحب المحاكمات أنّه قال بذلك في مسألة المعلوم بالذات.

وقد رجّحه أيضا بعض المحقّقين مدّعيا رجوع الإطلاقين إلى هذا التفصيل ، وأنّ النزاع في المسألة لفظيّ ، قال : وكيف يتوهّم في شأن المحقّق الطوسي والإمام الرازي وأمثالهما من القائلين بأنّ المبصر هو زيد الخارجي ، أنّهم ذهبوا إلى أنّ المعلوم في غير الموجودات الخارجيّة هو الموجود الخارجي ، فالظاهر أنّ مرادهم أنّ المعلوم بالذات هو الموجود الخارجي في الموجودات الخارجيّة لا مطلقا ، فينطبق على التفصيل المذكور ، وكذا يبعد من الشيخ والفارابي وأحزابهما القول بأنّ الألفاظ موضوعة للصور الذهنيّة مطلقا ، فلو صحّ أنّ الخلاف في الوضع متفرّع على الخلاف في المعلوم بالذات ، فالظاهر أنّ المراد كون الصورة معلومة بالذات فيما لم يكن ذو الصورة موجودا في الخارج ، فينطبق على التفصيل أيضا ، ويصير النزاع بين الفريقين لفظيّا في كلتا المسالّتي ن ، إلى اخر ما ذكر.

وفي التفصيل في مسألة الوضع ما لا يخفى ، وكذلك التفصيل في مسألة المعلوم بالذات ، فإنّ التحقيق فيها أنّه إن اريد بالمعلوم بالذات ما يحصل في نفسه في الذهن ، فلا ينبغي التأمّل في كونه الصورة لا غير ، لاستحالة حصول ذي الصورة بعينه فيه ، ولذا اخذت الصورة في مفهوم العلم التصوّري ، ففسّر تارة بحصول صورة الشيء في الذهن ، واخرى بالصورة الحاصلة من الشيء عند العقل ، وإن اريد به ما هو المقصود بالأصالة من العلم بالمعنى المذكور ، فلا ينبغي التأمّل في أنّه ذو الصورة وأنّ الصورة يعتبر حصولها في الذهن الة لملاحظته ، ولذا

__________________

(١) هداية المسترشدين : ٨٠ ( الطبيعة الحجرية ).

٣٩٨

صحّ أن يقال ـ بعد حصول صورته في الذهن ـ : عرفته أو علمته أو أدركته ، أو تصوّرته بإضافة العلم والمعرفة والإدراك والتصوّر إلى ذي الصورة نفسه ، ومن هنا أيضا يتعلّق به الأحكام المترتّبة عليه المشروطة بالعلم ، ولا يتفاوت الحال بين ما له مصداق في الخارج وما لا مصداق له فيه ، لأنّه يفرض له المصداق من الموجودات الخارجيّة كالصنم بالقياس إلى شريك الباري مثلا.

ثمّ إنّ مسألة الوضع لدوران الأمر فيها بين المتبائنين لا يجري فيها أصل ، لأنّ الحادث لا يتعيّن بالأصل.

والتمسّك بالأصل النافي لاعتبار أمر زائد على أصل المعنى في الموضوع له ، وهو الوجود بأحد قسميه.

يزيّفه : ابتناؤه على توهّم رجوع النزاع إلى أخذ الوجود خارجا أو ذهنا في مداليل الألفاظ باعتبار الوضع ، على معنى كون المأخوذ في الوضع ما دخل فيه الوجود خارجا أو ذهنا ، وقد بيّنّا بما لا مزيد عليه أنّه بمعزل عن التحقيق.

ثمّ المعتمد بل الحقّ الّذي لا محيص عنه ، كون الألفاظ بأسرها الموضوعة لجواهر المعاني وأعراضها ، بجميع أصنافهما ، كلّية وجزئيّة ، موضوعة للامور الخارجيّة ، على معنى حقائق المعاني وأعيانها الّتي ترتسم صورها وتنطبع أشباهها في الأذهان.

لنا : تبادر الامور الخارجيّة بهذا المعنى من الألفاظ عند إطلاقها من دون أن يسبق الذهن إلى صورها المنطبعة في الأذهان تفصيلا ولا إجمالا ، مضافا إلى عدم صحّة السلب عن الامور الخارجيّة وصحّته عن الصور الذهنيّة ، فلا يصحّ سلب « الأسد » عن الحيوان المفترس من حيث إنّه أمر واقعي ، مع صحّة سلبه عن صورته المرتسمة في الذهن ، ولا سلب « الماء » عن الجسم الرطب السيّال من حيث إنّه أمر واقعي ، مع صحّته عن الصورة المائيّة المنطبعة في الأذهان.

وهذا كلّه اية أنّ المأخوذ في وضع الألفاظ إنّما هو الامور الواقعيّة دون الصور الذهنيّة ، هذا مع أنّه المركوز في أذهان احاد العرف قاطبة ، فإنّا بعد مراجعة

٣٩٩

أنفسنا وملاحظة حالات سائر أهل العرف ، علمنا انّه لم يعهد أحد في معاني الألفاظ الموضوعة سوى الامور الخارجيّة ، من دون أن يتوجّه النفس ولا تلتفت إلى الصور الذهنيّة ولو إجمالا ، فالمعهود في « أكلت الخبز » ونظائره ممّا لا يحصى والمركوز في أذهان العقلاء ، إنّما هو الأكل الواقعي المتعلّق بالخبز الواقعي ، من دون توجّه النفس إلى صورتهما المنطبعة في الأذهان ، كما هو واضح.

مضافا إلى أنّ المعلوم بالاستقراء القطعي وقوع الاستعمالات الدائرة في المحاورات على الامور الخارجيّة ، على معنى الخارجة عن الذهن المعبّر عنها بالمعاني الواقعيّة ، ولم يعهد فيها ما وقع على الصورة الذهنيّة ، فلو صحّ أنّ الألفاظ كانت موضوعة للصور الذهنيّة مع عدم وقوع استعمالها فيها ، كانت بأسرها أو بأكثرها مجازات بلا حقيقة ، وهذا واضح الفساد.

وإلى بعض ما ذكرنا يرجع احتجاج أهل القول بالوضع للامور الخارجيّة بتعلّق الأحكام بالامور الخارجيّة ، فإنّ من قال : « دخلت الدار ، وأكلت الخبز ، وشربت الماء ، وبعت العبد ، وأخذت الدرهم ، واشتريت الدابّة » ونحو ذلك ممّا لا يحصى ، إنّما يريد بذلك كلّه الامور الخارجيّة دون الصور الذهنيّة ، فعلم أنّ الألفاظ موضوعة لها دون الصور.

وتوهّم أنّ تلك الألفاظ استعملت في الامور الخارجيّة مجازا من باب المشاكلة لوجود القرينة الصارفة ، بعيد بل مقطوع بفساده ، فإنّ ذلك يفضي إلى انسداد باب الحقيقة بالمرّة ، وارتكاب التجوّز في الألفاظ بالكلّية ، وهو باطل بالاتّفاق.

ودفعه تارة : بأنّ الاستعمال في جميع هذه الموارد استعمال مع القرينة ، فإنّ الأكل والشرب والبيع والأخذ والشراء من لوازم الفرد ، ويشهد له أنّه لو قيل الخبز أو الماء أو الدار لا يفهم منه الموجود الخارجي ، فلو لم يتحقّق المنافاة في موضع لا نسلّم استعمالها في الخارجيّات.

واخرى : بمعارضته بالألفاظ الكثيرة الّتي موضوعاتها المعدومات الممكنة

٤٠٠