ولاية البصرة في ماضيها وحاضرها - ج ١

المؤلف:

الكسندر أداموف


المترجم: الدكتور هاشم صالح التكريتي
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار ميسلون للنشر
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٨٧
  الجزء ١ الجزء ٢
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

الطقس في‌ أثناء ذلک ماضياً في‌ سيره حيث الترنيم الرتيب وجواب المصلين. عندما تصبح الأقراص کلها جاهزة يأخذ أحد القسس من الشکندة أي الدياکون الواقف بجانبه الحمامة الباقية في‌ القفص ويقطع عنقها بسرعة بواسطة سکين حادة ويأخذ دمها بحرص شديد، ثم يقوم القسان اللذان صنعا الأقراص بجلب هذه الأقراص بحيث تقع أربع قطرات من الدم بشکل صليب على کل منها. وبعد ذلک يقوم القسان اللذان أعدا الأقراص بتوزيعها على المصلين وذلک بأن توضع لهم في أفواههم مباشرة مع تلفظ عبارة «لينطبع ختم الحي عليک».

«وفي أثناء ذلک يقوم الدياکونات الأربعة بحفر حفرة صغيرة في المعبد نفسه خلف المذبح ويدفنون فيها الحمامة الذبيحة وينهي القس الأکبر قراءته ويتنحى فيحل محله أمام الکتاب المقدس الرئيس الديني ويبدأ بتلاوة المسخثه متوجهاً طيلة الوقت نحو النجم القطبي‌ الذي لا يحيد المصلون أيضاً عنه بأبصارهم طيلة استمرار الطقس. ويستمر الرئيس الديني بتلاوة المسخثه حتى يحل الفجر فيصيح عند ذلک بصوت عال: «أتذکرک يا اواتر فتذکرني أنت أيضاً» وبهذا ينتهي الطقس».

وعند الانتهاء يقاد الى الکوخ القصبي الذي يقام مقام المعبد خروف کان قد أحضر مسبقاً فيقوم الکنزفرة بذبحه هناک ويراعي في ذلک القواعد المعتادة في مثل هذه الحالات. إن هذا الخروف هو أضحية تقدم لاواتر وبثاهيل ولهذا فإن لحمه يقسم بعد أن يسيل منه الدم الى قطع بعدد الموجودين وتوزع عليهم، وينتهي الاحتفال بأجمعه قبل حلول الفجر ويعود الصابئة الى بيوتهم قبل أن تشرق الشمس في‌ الأفق.

أما فيما يتعلق بـ «البهثه ايلويو» أي القرابين فينبغي أن نلاحظ بأن

٣٨١

کاتب المقطع الذي أوردناه أعلاه يختلف مع السيد سيوفي (١) الذي يذکر في الفصل السادس عشر من کتابه بأن «البهثة ايلويو» لا يقدم إلا للأساقفة والقسس وللذين يتميزون بحياتهم الصالحة مع العلمانيين فقط. أما الأشخاص العاديون البسطاء فإن لهم عند الصابئة شکل آخر من أشکال القربان يسمى «بهثه» فقط ويجري على النحو التالي:

يقوم قسان بتعميد أحدهما الآخر بالتعاقب ويجلبان معهما إلى النهر کمية معينة من الحنطة يقومان بغسلها فيه ثم يجففانها بنشرها على قطعة من القماش الأبيض، ثم يقومان بطحن هذه الحبوب برحى يدوية ويصنعان من الطحين عجيناً غير مختمر يعملون منه أقراصاً خفيفة کالورق. ويرافق هذه العمليات کافة قراءة الصلوات المقررة لهذه المناسبة. فهذه الصلوات على ما يعتقد الصابئة تحول تلک الأقراص الى نفس الخبز الذي يأکله سکان ألمه اد نهورا أي الجنة. وتحفظ «البهثه» في‌ أواني خاصة مغلقة بإحکام في بيوت القسس ويقوم هؤلاء بتوزيع هذه الأقراص على الصابئة في أيام الأعياد بأن يضعوها في أفواههم مباشرة لأنها تتحول الى خبز عادي عندما يلمسها أحد العلمانيين.

ولکي يجري «البهثه» بالصورة الصحيحة ينبغي على الشخص أن يکون قد عمد على الطريقة الصابئية، وأن يتمتع بسمعة طيبة وسلوک لا غبار عليه، ويفقد الصابئي الذي يتخلى عن دينه طوعاً الحق في تذوق «البهثه» والذين لا يتعرضون لهذا العقاب هم فقط أولئک الذين أکرهوا على التخلي عن دينهم بالإکراه ثم عادوا إليه بمجرد أن سنحت لهم الفرصة لذلک. ومن يتذوق «البهثه» يحصل على قوة جديدة من الإيمان تطهره من

______________________

(١) (m.n. siouffi op. cit. p. q٢ ff)

٣٨٢

الذنوب ويصبح بإمکانه أن يرى مستقر النعيم ألمه اد نهورا بعين الروح إذا ما رکز على ذلک أفکاره کما يجب. والقس الذي يشرک في «البهثه» من لا يستحق يکون قد ارتکب ضلالاً أما الشخص الذي يشارک فيه ثم يقع في‌ الاثم مرة أخرى فإن عقابه يتضاعف بسبب ذلک عشرة مرات.

ويوجد لدي الصابئة الى جانب القرابين الاعتراف أيضاً ويعرف عندهم باسم «شومخوته» (١) وان کان لا يشبه، من حيث جوهره السر المقدس المسيحي، وبالمقابل فکما أن الکنيسة عند المسيحيين لا تنکر على الآثم النادم أبداً الأمل في أن يحصل على الغفران المنشود فإن الاعتراف عند الصابئة لا يؤدي الى الغفران إلا في حالة ما إذا لم يرتکب النادم الاثم السابق مرة أخرى، وتعطى للصابئي من باب التساهل فرصة الاعتراف بالذنب الواحد ثلاث مرات لا أکثر حيث لا يعود الاعتراف في المرة الرابعة نافعاً ولا ينقذ الآثم من أهوال الجحيم. والوسيلة الوحيدة أمام الآثم لتجنب هذه الأهوال في مثل هذا الاثم المستعصي هي توزيع الحسنات ومساعدة البائسين وتحرير المحبوسين من السجون أما بدفع ديونهم أو عن طريق التوسط لهم عند السلطات، وکذلک استنساخ أکثر ما يمکن من الکتب المقدسة على حسابه الخاص.

ويجري الاعتراف أو «شومخوته» عند القس في بيته حيث يلبس القس «الرسته» ويصغي‌ للنادم على انفراد لأن سر الاعتراف يجب أن يصان بحرص شديد. وبعد أن يسمع «الترميدة» اعتراف المعترف يفتح الکتاب المقدس ويقرأ منه الموضع الذي يجري فيه الحديث عن العذاب المعد في جهنم لعقاب من يرتکب الذنب الذي اعترف به النادم، ثم ينصح هذا

______________________

(١) الاعتراف عند الصابئة هو «أياسه وتيابه» أي الغفران والتوبة. المترجم.

٣٨٣

الأخير بأن يمتنع في المستقبل عن ارتکاب هذا الذنب. فيعبر المعترف عن تصميمه على التوبة ويقبِّل الکتاب المقدس ويد الکاهن.

لم يبقَ في الختام إلا أن نتحدث باختصار عن الأعياد وعن الصيام عند الصابئة. يوم العيد في الأسبوع هو الأحد الذي يسمى «هبشبه» وهو اسم لأحد لملوک الجنة الذي يخرج في هذا اليوم من الجنة الى العالم الأرضي غير المنظور (مشوني کشطه) ليعمد سکان ذلک العالم. ويقوم رجال الدين الصابئة محاکاة له بتعميد الصابئة وتزويجهم في يوم الأحد عادة. ويقضي الصابئة المؤمنون هذا اليوم في الراحة حيث يترکون العمل ويجتمعون عند القسس لسماع قراءة الکتب الدينية أو يتحدثون في قضايا الوعظ والإرشاد.

ويحتفل الصابئة بالإضافة إلى يوم الأحد وعيد «البانشو» أي عيد الأيام الخمسة الذي‌ مر ذکره، بالأعياد التالية :

١ ـ يوم رأس السنة الجديدة. ويقع في اليوم الأول من أول شهر من أشهر الشتاء. حيث تعمل کان عائلة على أن تحضر قبيل حلول هذا العيد أباريق من الفخار بعدد أفرادها إضافة إلى کمية من اللوز والجوز والتفاح وما أشبه ذلک لکنهم لا يتناولون هذه المآکولات إلا بعد إنصرام أسبوع رأس السنة الجديدة، وفي الوقت نفسه يتزود کل واحد بکمية من اللحم والماء تکفي‌ لهذا الوقت لأن ذبح الحيوانات وجلب الماء من النهر محرم في أثناء احتفالات السنة الجديدة. وفي اليوم الذي يسبق السنة الجديدة والذي‌ يعتبر هو الآخر عيداً يتعمد الصابئة ومن أجل أن لا يتدنسوا فإنهم يقضون ليلة رأس السنة الجديدة ساهرين ولا يخرجون من بيوتهم طيلة اليوم التالي. وأول عمل يقومون به بعد أن يغادروا بيوتهم في اليوم التالي هو زيارة کهنتهم الذين يبدأون بعد ذلک بالطواف برعيتهم حيث يتسلمون

٣٨٤

من کل عائلة هدايا نقدية.

٢ ـ العيد الثاني من حيث الأهمية هو «دهقه حنينه» الذي يحتفل به في الثامن عشر من أول شهر من أشهر الربيع احتفاء بذکرى عودة هبيل زيوا الميمونة الى الجنة من سفرته الطويلة والصعبة بحثاً عن روهية أم أور. ويستمر هذا العيد خمسة أيام يتناول الصابئة خلالها طعاماً مجهزاً بشکل خاص من الخبز والرز والتمر وذلک بالرغم من أن ذبح الحيوانات والطيور وأکل لحمها غير محرم في هذه الأيام.

٣ ـ ولدى الصابئة أيضاً يوم خاص مکرس لذکرى الأموات وهو اليوم الأول من الشهر الثاني من أشهر الربيع وهو اليوم الذي تذکر مآثر الصابئة بأن الصابئة الذين قادهم ملکهم الأسطوري فرّوق ملکة ماتوا فيه في البحر الأحمر. وتقوم کل عائلة هذا اليوم بإرسال کمية من الطعام الى القسس لکي يصلوا ويذکروا الأموات من أفرادها.

أما عن الصيام فإنه في نظر الصابئة إمساک عن أي قضية سيئة ولهذا فإنهم يحجمون في أيام الصيام التي تسمى «مُبَطّلْ» (١) عن القضاء على حياة أي مخلوق فيمتنعون عن ذبح الحيوانات والطيور، ولذلک فإنهم يتجنبون بدون قصد أکل اللحوم مثل المسيحيين، وعدد أيام الصيام إثنان وثلاثون يوماً لکنها غير متصلة بمعنى أنها لا تتعاقب الواحد بعد الآخر وأنما هي‌ موزعة على الأشهر المختلفة فيما عدا الأربعة عشر يوماً الأول من أول شهر من أشهر الشتاء التي تعتبر جميعها أيام صيام.

______________________

(١) المبطل عند الصابئة هو اليوم غير المبارک أي‌ اليوم النحس الذي يجب عدم التعامل أثناءه کما يجب عدم إجراء أية مراسيم دينية. انظر: الليدي دراوور، المصدر السابق، ص١٥٠. المترجم.

٣٨٥

وإذا عمدنا الى إجمال النتائج التي نستخلصها من جميع ما ذکرناه عن الصابئة ليس بإمکاننا اعتبارهم مسيحيين على الرغم من آثار المسيحية المعروفة البادية في‌ عقائدهم الدينية. فالواقع أنهم يعبدون ويتوجهون في صلواتهم بالإضافة الى الکائن الأعلى الى ثلاثمائة وستين ملکاً من ملوک الجنة ويبجلون الکواکب ولا يعترفون بعيسى المسيح وينکرون التوراة والإنجيل. کما أن عندهم ما يشبه أسرار التعميد والقربان والاعتراف ويستعملون في بعض الأحيان علامة الصليب. کذلک لا يمکن قرن الصابئة باليهود بسبب عدم ممارستهم للختان على الرغم من أنهم لا يأکلون إلا اللحم الحلال ويفرقون بين الحيوانات التي يسمح بأکل لحمها وتلک التي يحرم أکلها کما أنهم ينظفون أنفسهم ويغتسلون بنفس الدقة التي يفعل بها ذلک اليهود.

وإننا في الواقع نمسک عن أن نقرر من هم الصابئة على أساس عقائدهم الدينية وذلک لأن العلماء الأوروبيين ما زالوا لم يصلوا الى استنتاج نهائي بهذا الخصوص من جهة، ومن الجهة الأخرى يتعذر إعطاء رأي علمي دقيق دون دراسة جدية مسبقة لعلم اللاهوت المقارن ودون اطلاع مفصل وعميق على جوهر عقائد الصابئة الدينية وعلى محتويات کتبهم المقدسة، بل وحتى على حياتهم وعاداتهم وأعرافهم.

انتهى الجزء الأول ويليه الجزء الثاني

٣٨٦

فهرس الكتاب

مقدمة الناشر: البصرةُ علوية المنشأ والهوى ......................................  ٣

البصرة في اللغة ..............................................................  ٤

فضل البصرة ................................................................  ٥

أوّلاً: جذور التشيع في البصرة ................................................  ٧

الفرق الشيعية الإمامية في البصرة ..............................................  ٨

وصايا الإمام عليّ عليه‌السلام ببني تميم .............................................  ٩

دور أهل البصرة في نصرة الإمام عليّ عليه‌السلام في صفين ...........................  ١١

شيعة البصرة والإمام الحسن بن عليّ .........................................  ١٣

ثانياً: دور شيعة البصرة في نصرة الإمام الحسين بن علي .........................  ١٥

ثالثاً: دور شيعة البصرة في الأخذ بثارات الإمام الحسين .........................  ١٨

شهداء الطف من شيعة البصرة ...............................................  ٢٠

الفصل الأوّل ...............................................................  ٢٩

الفصل الثاني .............................................................  ١١٧

الفصل الثالث ............................................................  ١٨٩

الفصل الرّابع ..............................................................  ٢٦٣

الفصل الخامس ...........................................................  ٣٣٥

فهرس الكتاب ............................................................  ٣٨٧

٣٨٧