علي موسى الكعبي
الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: مركز الرسالة
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-218-0
الصفحات: ٢٤٩
والنفس مظانّها في غدٍ جدث ، تنقطع في ظلمته آثارها ، وتغيب أخبارها ... » (١).
٣ ـ وممّا يدلّ علىٰ ذلك قول الصديقة الطاهرة فاطمة عليهاالسلام بأن رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم قد أعطاها فدك مع شهادة أمير المؤمنين عليهالسلام وأُمّ أيمن لها عليهاالسلام ، وذلك بعد أن وضعت السلطة يدها علىٰ الأرض ، وأخرجت وكيلها منها ، ومطالبة الزهراء عليهاالسلام بالنحلة وشهادة أمير المؤمنين عليهالسلام لها ، أمرٌ متواتر يعرفه الخاص والعام ، سنأتي علىٰ بيانه لاحقاً.
٤ ـ ومما يدلّ علىٰ أنّ ذلك كان أمراً معروفاً شائعاً ، هو موقف عمر بن عبدالعزيز والمأمون في ردّهما فدك علىٰ ولد الزهراء عليهاالسلام لمّا تبيّن لهما أنّ الحقّ كان معها عليهاالسلام وأنّها عليهاالسلام كانت صادقة في دعواها.
أمّا عمر بن عبدالعزيز ، فقد كتب إلىٰ عامله علىٰ المدينة أبي بكر بن عمرو بن حزم : إذا ورد عليك كتابي هذا ، فاقسمها في ولد علي من فاطمة عليهماالسلام والسلام. فنقمت بنو أُمية علىٰ عمر بن عبدالعزيز عمله هذا وعاتبوه فيه ، فقال لهم : انكم جهلتم وعلمتُ ، ونسيتم وذكرتُ ، إنّ رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم قال : « فاطمة بضعة مني ، يسخطني ما أسخطها ، ويرضيني ما أرضاها » قالوا : فأن أبيت إلّا هذا فأمسك الأصل ، وأقسم الغلّة ، ففعل (٢).
وفي رواية الجوهري أنّه قال لهم : قد صحّ عندي وعندكم أنّ فاطمة بنت رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم أدعت فدك ، وكانت في يدها ، وما كانت لتكذب علىٰ رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم مع شهادة علي عليهالسلام وأُمّ أيمن وأُمّ سلمة ، وفاطمة عندي صادقة فيما تدّعي وإن لم تقم البيّنة ، وهي سيدة نساء أهل الجنة ، فأنا اليوم
_______________________
١) نهج البلاغة / صبحي الصالح : ٤١٧ / الكتاب ٤٥. وشرح ابن أبي الحديد ١٦ : ٢٠٨.
٢) شرح ابن أبي الحديد ١٦ : ٢٧٨. وتلخيص الشافي / الطوسي ٣ : ١٢٨.
أردّها علىٰ ورثتها... ولو كنت بدل أبي بكر وادّعت فاطمة كنت أصدّقها علىٰ دعواتها. فسلّمها إلىٰ محمد بن علي الباقر عليهالسلام وعبد الله بن الحسن (١).
أما المأمون فقد جلس مجلساً مشهوراً ونصب فيه وكيلاً لفاطمة عليهاالسلام وآخر لأبي بكر ، وجلس هو لسماع المناظرة والقضاء ، وحكم بردّ فدك إلىٰ أولاد فاطمة عليهاالسلام بعد قيام الحجة ووضوح الأمر (٢).
وكتب كتاباً في الثاني من ذي القعدة سنة ٢١٠ هـ إلىٰ عامله علىٰ المدينة قثم بن جعفر أمره فيه بتسليمها إلىٰ محمد بن يحيى بن الحسين بن زيد بن علي بن الحسين عليهالسلام ، ومحمد بن عبدالله بن الحسين بن علي بن الحسين عليهالسلام ، ومما جاء في الكتاب : قد كان رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم أعطىٰ فاطمة بنت رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم فدك وتصدّق بها عليها ، وكان ذلك أمراً ظاهراً معروفاً لا اختلاف فيه بين آل الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم ... فرأىٰ أمير المؤمنين أن يردّها إلىٰ ورثتها ويسلّمها إليهم ، تقرباً إلىٰ الله تعالىٰ بإقامة حقّه ، وإلىٰ رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم بتنفيذ أمره وصدقته (٣).
مطالبة الزهراء عليهاالسلام بالنحلة وموقف السلطة :
لما انتزعت السلطة حقّ الزهراء عليهاالسلام في فدك ظلماً وأخرجت وكيلها
_______________________
١) السقيفة وفدك / الجوهري : ١٤٦. وكشف الغمة / الاربلي ١ : ٤٩٥.
٢) الشافي / المرتضىٰ ٤ : ١٠٢. وتلخيص الشافي / الطوسي ٣ : ١٢٧. والسقيفة وفدك / الجوهري : ١٠٤. وشرح ابن أبي الحديد ١٦ : ٢١٧. والطرائف / ابن طاووس : ٢٤٨.
٣) فتوح البلدان / البلاذري : ٤٦. ومعجم البلدان / ياقوت ـ فدك ـ ٤ : ٢٧٢. والشافي / المرتضىٰ ٤ : ١٠٢.
منها قهراً (١) ، اندفعت مَن يغضب الله لغضبها ويرضىٰ لرضاها ، للمطالبة بحقها ، وقد ذكر كثير من المؤرخين أنّ فاطمة عليهاالسلام صرّحت بوجه أبي بكر بأنّ فدكَ ملك لها ، فردّ أبو بكر قولها ، وطلب منها البينة !! ، فأتت بأمير المؤمنين علي عليهالسلام وأُمّ أيمن فشهدا لها ، واعتبر شهادتهما غير كافية فقال : قد علمت أنّه لا يجوز إلّا شهادة رجلين أو رجل وأمرأتين (٢).
وعن هشام بن محمد الكلبي ، عن أبيه ، أنّ أبا بكر قال لفاطمة عليهاالسلام : إنّ هذا المال لم يكن لرسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ، وإنّما كان مالاً من أموال المسلمين ، يحمل به الرجال ، وينفقه في سبيل الله (٣) ، فأنكر كون فدك خالصة لرسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم كما قدمناه.
وروي من عدّة طرق أنّ أبا بكر أذعن أولاً لحقّ الزهراء عليهاالسلام في فدك بعد سماعه الشهود ، وقال لفاطمة عليهاالسلام : ما كنت لتقولين علىٰ أبيك إلّا الحقّ ، فكتب لها فيها ، فخرجت فلقيت عمر ، فأخذ الكتاب وجاء إلىٰ أبي بكر فقال : أعطيت فاطمة فدك وكتبت لها ؟! قال : نعم. قال عمر : علي يجرُّ إلىٰ نفسه ، وأُمّ أيمن امرأة ، فمزّق عمر الكتاب بعد أن بصق فيه ومحاه. فدعت
_______________________
١) راجع : الكافي / الكليني ١ : ٥٤٣ / ٥. وعلل الشرائع / الصدوق : ١٩١ / ١ ـ باب (١٥١). والاختصاص : ١٨٣.
٢) راجع : السيرة الحلبية ٣ : ٣٦٢. ومعجم البلدان / ياقوت ـ فدك ـ ٤ : ٢٧٢. والصواعق المحرقة / الهيتمي : ٣٧ ـ الشبهة السابعة. وسنن النسائي ٢ : ١٧٩. وفتوح البلدان / البلاذري : ٤٤. وفاء الوفا / السمهودي ٣ : ٩٩٩. والملل والنحل / الشهرستاني ١ : ١٧ ـ المقدمة الرابعة. وشرح ابن أبي الحديد ١٦ : ٢٢٠. وكشف الغمة ١ : ٤٧٨.
٣) شرح ابن أبي الحديد ١٦ : ٢١٤ و ٢٢٥.
فاطمة عليهاالسلام وقالت : « بقر الله بطنك كما بقرت صحيفتي » (١).
وفي رواية سبط ابن الجوزي : أن عمر قال لأبي بكر : ممّاذا تنفق علىٰ المسلمين وقد حاربتك العرب كما ترىٰ (٢) ؟
ولا تعارض بين هذه الرواية وبين ما تقدم من أنّ أبا بكر منع الزهراء عليهاالسلام وطلب منها إكمال البيّنة ، ذلك لأنّه كتب لفاطمة عليهاالسلام بفدك وعمر غير حاضر ، فلمّا حضر عمر وطعن بالشهود ، طالبها أبو بكر بالشاهد الآخر.
كما أنّ هذه الرواية لا تعارض خبر أبي بكر في أن النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم لا يورث ، لأنّه كتب لفاطمة عليهاالسلام بفدك عندما طالبت بالنحلة لا بالميراث ، فلمّا طالبت بالميراث روىٰ الخبر القاضي بمنع الميراث علىٰ ما سيأتي بيانه.
ولم يكتفِ عمر بالطعن في شهادة أمير المؤمنين عليهالسلام وأُمّ أيمن في ردّه لدعوىٰ الزهراء عليهاالسلام ، بل إنّه زعم أنّ رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم كان يقسمها ، فقد روىٰ الثقفي باسناده عن ابن عائشة ، قال : حدثني أبي ، عن عمّه ، قال : قالت فاطمة عليهاالسلام لأبي بكر : إنّ فدك وهبها لي رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم قال : فمن يشهد بذلك ؟ فجاء علي بن أبي طالب عليهالسلام فشهد ، وجاءت أُمّ أيمن فشهدت أيضاً ، فجاء عمر بن الخطاب وعبدالرحمن بن عوف ، فشهدا أن رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم كان يقسمها.
_______________________
١) راجع : شرح ابن أبي الحديد ١٦ : ٢٣٤ و ٢٧٤. وتفسير القمي ٢ : ١٥٥ و ٣٢٦. وتفسير العياشي ٢ : ٢٨٧ / ٤٩. والكافي / الكليني ١ : ٥٤٣ / ٥. والشافي / المرتضىٰ ٤ : ٩٧. وتلخيص الشافي ٣ : ١٢٤ ـ ١٢٥. والاحتجاج / الطبرسي : ٩١. والاختصاص / المفيد : ١٨٥. وأعلام النساء / كحالة ٤ : ١١٨. والتتمة في تواريخ الأئمة عليهمالسلام / تاج الدين العاملي : ٤٣.
٢) السيرة الحلبية ٣ : ٣٦٢ ، المكتبة الإسلامية ـ بيروت.
فقال أبو بكر : صدقت يا بنة رسول الله ، وصدق علي ، وصدقت أُمّ أيمن ، وصدق عمر ، وصدق عبدالرحمن بن عوف ! وذلك أنّ مالك لأبيك ، كان رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم يأخذ من فدك قوتكم ، ويقسم الباقي ، ويحمل منه في سبيل الله ، فما تصنعين بها ؟ قالت : « أصنع بها كما يصنع بها أبي ». قال : فلك عليَّ أن أصنع فيها كما يصنع فيها أبوك. قالت : « الله لتفعلنّ ؟ ». قال : الله لأفعلنّ. قالت : « اللهمَّ اشهد » (١).
وهكذا صدّق جميع الشهود مع تباين الشهادتين ، وهو شيء عجيب !! ، في محاولة لاتخلو من المناورة السياسية ، ورجّح جانب عمر بن الخطاب ، ذلك لأنّه لم يفِ للزهراء عليهاالسلام بشيءٍ ممّا قاله ، ولو كان فعل لما سخطت عليه حتىٰ أنّها أوصت أن لا يحضر جنازتها ولا يصلي عليها ، وقد ارتحلت عليهاالسلام إلىٰ جوار ربّها العزيز وهي غاضبة عليه وعلى صاحبه.
نحلة الزهراء عليهاالسلام في الميزان :
هناك عدة شواهد تدلُّ علىٰ مظلومية الزهراء عليهاالسلام في هذه المسألة وجور الحاكم وتماديه في ظلمها واغتصاب حقها ، وقد كان اللازم علىٰ سائر المسلمين أن يقفوا بوجه الظلم ، ولا يدعو ابنة نبيّهم تضطر للخروج أمام الصحابة للمطالبة بحقّها ، مما جرّ هذا الاغتصاب وظلم آل محمد صلىاللهعليهوآلهوسلم إلىٰ متابعة هضم حقوقهم من لدن السياسات المتعاقبة في الإسلام.
وسوف نقتصر علىٰ جملة من الشواهد الدالة علىٰ مظلومية الزهراء عليهاالسلام في شأن فدك :
_______________________
١) شرح ابن أبي الحديد ١٦ : ٢١٦.
١ ـ بالرغم من أن فَدَكَ كانت في حيازة الزهراء عليهاالسلام وهي صاحبة اليد عليها ، فقد استولت السلطة عليها وأخرجت وكيلها وعمّالها منها ظلماً (١).
٢ ـ لقد شهد الله تعالىٰ للزهراء عليهاالسلام بإذهاب الرجس عنها ، والطهارة من الدنس ، وقامت الدلالة علىٰ أنّها كانت صدّيقة ومعصومة من الغلط ، ومأموناً منها فعل القبيح ، ومن كانت هذه صفته لا يحتاج إلىٰ بيّنة فيما يدعيه.
هذا مع أنّ أبا بكر كان يعلم أنّ لسانها يتجافىٰ عن قول الباطل ، فقد شهد لها بالصدق (٢) ، وأنّها لا تقول علىٰ أبيها صلىاللهعليهوآلهوسلم إلّا الحقّ (٣) والمسلمون جميعاً يشهدون بذلك ، لكن أبا بكر بقي مصرّاً علىٰ مطالبة الزهراء عليهاالسلام بالشهود حتىٰ بعد أن احتجّ عليه أمير المؤمنين عليهالسلام بمحضر المهاجرين والأنصار وأكّد له أنّ الله تعالىٰ شهد لفاطمة عليهاالسلام بالطهارة ، وأن ردّ شهادتها ردّ علىٰ الله (٤) ، ولا يخلو ذلك من العنت والعدول عن جادة الصواب.
٣ ـ لقد ثبت أنّ أبا بكر كان قد أعطىٰ بعض الصحابة بمجرد الدعوىٰ بالدَّين أو العِدَة ، دون أن يطلب منهم البيّنة ، ومن ذلك ما رواه البخاري في كتاب الشهادات ، بالإسناد عن جابر بن عبدالله رضياللهعنه ، قال : لمّا مات النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم جاء أبا بكر مالٌ من قبل العلاء بن الحضرمي ، فقال أبو بكر : من كان له علىٰ النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم دَين ، أو كانت له قبله عِدَةٌ فليأتنا.
_______________________
١) راجع : الكافي / الكليني ١ : ٥٤٣ / ٥. وعلل الشرائع : ١٩١ / ١ ـ باب (١٥١). والاختصاص : ١٨٣.
٢) شرح ابن أبي الحديد ١٦ : ٢١٦.
٣) شرح ابن أبي الحديد ١٦ : ٢٧٤. وتلخيص الشافي ٣ : ١٢٤.
٤) علل الشرائع : ١٩١ / ١ ـ باب (١٥١). وتفسير القمي ٣ : ١٥٦. وكتاب سُليم : ١٠٠. والاحتجاج / الطبرسي : ٩٢.
قال جابر : فقلت : وعدني رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم أن يعطيني هكذا وهكذا وهكذا ، فبسط يديه ثلاث مرات. قال جابر : فعدّ في يدي خمسمائة ، ثمّ خمسمائة ، ثمّ خمسمائة (١).
وروىٰ ابن سعد في ( الطبقات ) عن أبي سعيد الخدري ، قال : سمعت منادي أبي بكر ينادي بالمدينة حين قدم عليه مال البحرين : من كانت له عِدة عند رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم فليأتِ ، فيأتيه رجال فيعطيهم ، فجاء أبو بشير المازني ، فقال : إنّ رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم قال : يا أبا بشير ، إذا جاءنا شيءٌ فأتنا ، فأعطاه أبو بكر حفنتين أو ثلاثاً ، فوجدها ألفاً وأربعمائة درهم (٢).
فلماذا إذن يطلب البينة من ابنة رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم سيدة نساء أهل الجنة ، بل ويردّ دعواها مع قيام البيّنة علىٰ أنّ أباها صلىاللهعليهوآلهوسلم قد أعطاها فدك خلال حياته ، وليس هي من قبيل العِدَة التي لا يلزم أداؤها ؟ ولماذا يصدّق جابر بن عبدالله وأبا بشير المازني في دعواهما دون أن يقدّما شاهداً واحداً يثبت صحة مدّعاهما ؟ وهل إنّ جابراً وأبا بشير أتقىٰ وأبرّ وأصدق في دعواهما من الصديقة الطاهرة فاطمة عليهاالسلام أم هي السياسة التي تجعل الحقّ باطلاً والباطل حقاً.
٤ ـ لو سلّمنا أنّ الزهراء عليهاالسلام تحتاج كسائر المؤمنات الصالحات إلىٰ بينة في إثبات دعواها ، فقد شهد لها أمير المؤمنين عليهالسلام وحسبها أخو النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم ووصيّه وصدّيق الاُمّة الأكبر (٣) وصالح المؤمنين (٤) ومن قال فيه رسول
_______________________
١) صحيح البخاري ٤ : ١٤ / ٤٦ ـ باب من أقام البينة بعد اليمين. وسنن البيهقي ٦ : ٣٠٢.
٢) الطبقات الكبرىٰ ٢ : ٣١٨. وكنز العمال ٥ : ٦٢٦ / ١٤١٠٢.
٣)
راجع : سنن ابن ماجة ١ : ٤٤. والاستيعاب ٤ : ١٧٠. وأُسد الغابة ٥ : ٢٨٧. وفضائل
الصحابة /
الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : « عليٌ مع الحقّ والحقُّ مع علي ، يدور معه حيثما دار » (١).
فكيف تردّ شهادته مع قيام البينة علىٰ عصمته عن الذنب وطهارته من الرجس ؟
وشهدت لها مع أمير المؤمنين عليهالسلام أُمّ أيمن ، وهي حاضنة رسول الله ومولاته ، وقد شهد لها بالجنة (٢) ، وقال فيها : « أُمّ أيمن أُمّي بعد أُمّي» (٣) وردّ شهادتها أيضاً ، فإذا كان مثل هؤلاء يجوز ردّ شهادتهم فعلىٰ الإسلام السلام.
٥ ـ لو سلّمنا أنّ شهادة علي عليهالسلام كشهادة رجلٍ واحدٍ من عدول المؤمنين ، وأنّ أبا بكر وجد نقصاً في البينة ، فلم يتيقّن له الحقّ ، فهلّا استحلف فاطمة عليهاالسلام ليكمل النصاب باليمين مع الشاهد ، كما فعل رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم في مثل هذه المسائل (٤) ، بدلاً من أن يردّ دعواها ملغياً شهادة علي عليهالسلام وأمُ أيمن.
وخلاصة القول : لقد أُخذت فدك من أهل البيت قسراً وعنوة وظلماً وجوراً ، ودليل ذلك فضلاً عما قدمناه ، ما جاء في شرح كتاب أمير المؤمنين عليهالسلام إلىٰ عثمان بن حنيف الذي ذكرناه آنفاً ، قال عليهالسلام : « فشحّت عليها نفوس قومٍ ، وسخت عنها نفوس آخرين ».
قال ابن أبي الحديد في شرحه : فشحّت ، أي بخلت ، وسخت : أي
_______________________
ابن حنبل ٢ : ٥٨٦ / ٩٩٣. والرياض النضرة ٣ : ١٠٦ و ١١٠. وخصائص النسائي : ٦ / ٦٣.
٤) راجع : الدر المنثور / السيوطي ٨ : ٢٢٤. وتفسير القرطبي ١٨ : ١٨٩.
١) سنن الترمذي ٥ : ٦٣٣ / ٣٧١٤. ومستدرك الحاكم ٣ : ١٢٤. وتاريخ بغداد ١٤ : ٣٢١.
٢) كنز العمال ١٢ : ١٤٦ / ٣٤٤١٦.
٣) كنز العمال ١٢ : ١٤٦ / ٣٤٤١٧.
٤) راجع : مجمع الزوائد ٤ : ٢٠٢. وكنز العمال ٥ : ح ١٤٤٩٨ ، و٧ : ح ١٧٧٥٣.
سامحت وأغضت ، وليس يعني هاهنا بالسخاء إلّا هذا ، لا السخاء الحقيقي ، لأنّه عليهالسلام وأهله لم يسمحوا بفدك إلّا غصباً وقسراً ، ثم قال عليهالسلام : « ونعم الحكم الله » الحكم : الحاكم ، وهذا الكلام كلام شاكٍ متظلّم (١).
ويدلّ علىٰ ذلك أيضاً كلامه عليهالسلام وهو ينفض غبار قبرها عليهاالسلام كالمناجي لرسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : « وستنبئك ابنتك بتضافر أُمّتك علىٰ هضمها ، فأحفها السؤال ، واستخبرها الحال ، هذا ولم يطل العهد ، ولم يخلُ منك الذكر » (٢).
ولو كان أبو بكر قد استولىٰ علىٰ فدك عن حسن نية أو علىٰ اشتباه عرض له ، لكانت فاطمة عليهاالسلام قد أقنعته بالحجة والدليل ، ولما غضبت عليه وقاطعته حتىٰ لقيت ربها ، وأوصت أن لا يحضر جنازتها ولا يصلي عليها ، وفي هذا دليل واضح علىٰ اعتقاد بضعة المصطفىٰ صلىاللهعليهوآلهوسلم واعتقاد عليّ المرتضىٰ عليهالسلام بأنّهم لم يشتبهوا بفدك قطّ ، وإنّما سوّلت لهم أنفسهم أمراً ، والله المستعان علىٰ ما يصفون.
أخيراً إنّ فاطمة عليهاالسلام لو أتت بقسامة من الشهود لردّ دعواها وعارضها بعشرات الشهود ، كما عارض شهادة علي عليهالسلام وأُمّ أيمن بشهادة عمر وعبدالرحمن بن عوف ، وعارض دعواها بالارث بحديث ( لا نورث ) وأشهد عليه عمر بن الخطاب وأوس بن الحدثان وعائشة وحفصة (٣) ، ذلك لأنّ السلطة كانت مصرّة علىٰ انتزاع كامل حقوق عترة المصطفىٰ صلىاللهعليهوآلهوسلم
_______________________
١) شرح ابن أبي الحديد ١٦ : ٢٠٨.
٢) نهج البلاغة / صبحي الصالح ـ الخطبة (٢٠٢). والكافي / الكليني ١ : ٤٥٩. وشرح ابن أبي الحديد ١٠ : ٢٦٥.
٣) قرب الاسناد / الحميري : ٩٩٠ / ٣٣٥. وتفسير القمي ٢ : ١٥٦. والاختصاص / المفيد : ١٨٣. وبحار الأنوار ٢٩ : ١٥٦ / ٣١.
لأهداف تبتغيها سنأتي علىٰ بيانها لاحقاً.
أخرج الهيثمي عن الطبراني في ( الأوسط ) ، عن عمر بن الخطاب ، قال : لمّا قبض رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم جئت أنا وأبو بكر إلىٰ علي عليهالسلام فقلنا : ما تقول فيما ترك رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم؟ قال : « نحن أحقّ الناس برسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ». قال : فقلت : والذي بخيبر ؟ قال : « والذي بخيبر ». قلت : والذي بفدك ؟ قال : « والذي بفدك ». فقلت : أما والله حتىٰ تحزّوا رقابنا بالمناشير فلا (١).
وهذا في الواقع من جملة الأسباب التي أدّت بالحزب السياسي القرشي إلىٰ تخوّفه من وصول الوصيّ إلىٰ الخلافة بعد النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم ، فحاولوا إبعاده وإضعافه بكلِّ وسيلة ومنها فدك.
ثانياً : حرمان الزهراء عليهاالسلام من الإرث :
لما دفعت الزهراء عليهاالسلام عن نيل حقّها في أرضها بفدك ، طالبت بها عن طريق الإرث ، فكان ميراث النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم من موارد النزاع بينها وبين أبي بكر ، فقد ذكرت كتب التاريخ والسيرة أنّ فاطمة عليهاالسلام أتت أبا بكر تطالبه بحقها من ميراث الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم فاعتذر إليها زاعماً بأنه سمع النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم يقول : « نحن معاشر الأنبياء لا نورث » وأبىٰ أن يدفع لها شيئاً.
روىٰ البخاري ومسلم وغيرهما بالاسناد عن عروة بن الزبير ، عن عائشة ، أنها أخبرته : أن فاطمة بنت رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم أرسلت إلىٰ أبي بكر ، تسأله ميراثها من رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ، مما أفاء الله عليه بالمدينة وفدك ، وما بقي من خمس خيبر ، فقال أبو بكر : إنّ رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم قال : « لا نورث ما تركنا
_______________________
١) مجمع الزوائد ٩ : ٣٩.
صدقة ، إنّما يأكل آل محمد صلىاللهعليهوآلهوسلم في هذا المال ». وإنّي والله لا أُغيِّرُ شيئاً من صدقة رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ، عن حالها التي كانت عليها ، في عهد رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ، ولأعملنَّ فيها بما عمل به رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم. فأبىٰ أبو بكر أن يدفع إلىٰ فاطمة شيئاً. فوجدت فاطمة علىٰ أبي بكر في ذلك.
قال : فهجرته فلم تكلمه حتىٰ توفيت ، وعاشت بعد رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ستة أشهر ، فلمّا توفيت دفنها زوجها عليُّ بن أبي طالب ليلاً ، ولم يؤذن بها أبابكر ، وصلَّىٰ عليها علي (١).
فسمّىٰ تركة النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم صدقةً ، وإذا كانت فدك وخيبر وفيء المدينة صدقة منذ زمان رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ، فليس ثمة محلّ لروايته أنّ النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم لا يورث ، إذ لا ميراث حتىٰ يحتاج إلىٰ رواية مثل هذا الخبر.
أما قوله : ( لأعملنّ فيها بما عمل رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ) فيريد به أنه سيجعلها لشؤونه الشخصيّة وحوائجه الخاصة ، يدلّ علىٰ ذلك حديث عائشة المروي في الصحاح ، قالت : أمّا صدقة رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم بالمدينة ، فدفعها عمر إلىٰ علي والعباس ، وأمّا خيبر وفدك ، فأمسكهما عمر وقال : هما صدقة رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم كانتا لحقوقه التي تعروه ونوائبه ، وأمرهما إلىٰ من ولي الأمر بعده ، فهما علىٰ ذلك إلىٰ اليوم » (٢).
_______________________
١) صحيح البخاري ٥ : ٢٨٨ / ٢٥٦ ـ كتاب المغازي ، باب غزوة خيبر. وصحيح مسلم ٣ : ١٣٨٠ / ١٧٥٩ ـ كتاب الجهاد والسير ، باب قول النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم : « لا نورث ». وسنن أبي داود ٣ : ١٤٢ / ٢٩٦٨ ـ باب صفايا رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم.
٢) صحيح البخاري ٦ : ١٧٨ / ٢ ـ كتاب الخمس. وصحيح مسلم ٣ : ١٣٨٢ / ٥٤ ـ كتاب الجهاد والسير. وسنن أبي داود ٣ : ١٤٣ / ٢٩٧٠ ـ باب في صفايا رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم من الأموال. وسنن البيهقي ٦ : ٣٠١. ومسند أحمد ١ : ٦.
ويدلّ عليه ما رواه أبو داود عن أبي الطفيل ، قال : جاءت فاطمة عليهاالسلام إلىٰ أبي بكر تطلب ميراثها من النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم فقال أبو بكر : سمعت رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم يقول : إنّ الله عزَّ وجلَّ إذا أطعم نبياً طعمة ثم قبضه ، فهي للذي يقوم من بعده (١).
وفي حديث أُمّ هانىء : أنّ أبا بكر قال لفاطمة عليهاالسلام : سمعت رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم يقول : إنّما هي طعمة أطعمنيها الله حياتي ، فإذا متُّ فهي بين المسلمين (٢).
بقي أنّ حديث البخاري المتقدم يذكر أنّ الزهراء عليهاالسلام قد ودّعت الدنيا وهي ساخطة علىٰ أبي بكر ، ومعلوم أنّ فعل الزهراء عليهاالسلام وقولها لا يتجافىٰ عن الحقّ ، لأنّ الله تعالىٰ يغضب لغضبها ويرضىٰ لرضاها ، ولم تغضب فاطمة عليهاالسلام علىٰ أبي بكر بمجرد سماعها حديثه ، بل سخطت عليه بعد نزاع واحتجاج طويلين (٣) ، حيث عارضت حديثه بالآيات العامة المشرّعة للتوارث بين المسلمين بما فيهم النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم ، ثمّ ذكرت الآيات الدالة علىٰ توريث الأنبياء ، كعيسىٰ وداود وزكريا عليهمالسلام ، وسيأتي ذلك في المبحث الثاني عند ذكر خطبتها عليهاالسلام.
_______________________
١) سنن أبي داود ٣ : ١٤٤ / ٢٩٧٣ ـ باب في صفايا رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم من الأموال. والرياض النضرة / المحب الطبري ١ : ١٩١. وسنن البيهقي ٦ : ٣٠٣. ومسند فاطمة عليهاالسلام / السيوطي : ١٥. وشرح ابن أبي الحديد ١٦ : ٢١٩.
٢) فتوح البلدان / البلاذري : ٤٥. ومسند فاطمة عليهاالسلام / السيوطي : ١٣. ونحوه في شرح ابن أبي الحديد ١٦ : ٢٣٢. والسقيفة وفدك / الجوهري : ١١٧ عن مولىٰ أُمّ هانيء.
٣) راجع طرفاً من احتجاجاتها ومطالبتها عليهاالسلام بالارث في كشف الغمة / الأربلي ١ : ٤٧٨. وشرح ابن أبي الحديد ١٦ : ٢١٩. وفتوح البلدان / البلاذري : ٤٤.
حجيّة حديث لا نورث :
الملاحظ أنّ حديث عدم توريث الأنبياء الذي زعمه أبو بكر لا حجيّة له وأنّه مردود من عدة وجوه :
الأول : الحديث مخالف لصريح القرآن الكريم ، الذي نصّ علىٰ توريث الأنبياء عليهمالسلام لعموم قوله تعالىٰ : ( لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَّفْرُوضًا ) (١) وغيرها من آيات المواريث المطلقة (٢) التي تشمل رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم فمن دونه من سائر البشر.
ونصّ القرآن الكريم علىٰ خصوص توريث الأنبياء بقوله تعالىٰ حكاية عن زكريا عليهالسلام : ( فَهَبْ لِي مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا ) (٣) ولا ريب أنّ الميراث في الاستخدام اللغوي يطلق علىٰ ما يصحّ أن ينتقل من الموروث إلىٰ الوارث علىٰ الحقيقة كالأموال وما يجري مجراها ، ولا يستعمل في غيرها إلّا مجازاً وتوسعاً ، وليس لنا أن نعدل عن ظاهر الكلام بغير قرينة قطعية ودلالة واضحة.
ومنه قوله تعالىٰ : ( وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ ) (٤) وهي ظاهرة في الدلالة علىٰ المراد ، إذ إنّ اطلاق لفظ الميراث يقتضي أن يراد منه الأموال ومافي معناها.
_______________________
١) سورة النساء : ٤ / ٧.
٢) راجع : سورة النساء : ٤ / ١١. وسورة الأنفال : ٧ / ٧٥.
٣) سورة مريم : ١٩ / ٥ ـ ٦.
٤) سورة النمل : ٢٧ / ١٦.
وسيأتي في خطبة الزهراء عليهاالسلام أنّها احتجت علىٰ أبي بكر بهذه الآيات التي لا تردّ ولا تكابر ، وكذلك احتجّ بها أمير المؤمنين عليهالسلام لكن أبا بكر أبىٰ إلّا اللجاج والعناد والمكابرة وعدم الانصات لصوت الحقّ والعدل.
أخرج السيوطي عن ابن سعد ، عن أبي جعفر عليهالسلام قال : « جاءت فاطمة عليهاالسلام إلىٰ أبي بكر تطلب ميراثها وجاء العباس بن عبدالمطلب يطلب ميراثه ، وجاء معهما علي عليهالسلام ، فقال أبو بكر : قال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : « لا نورث ما تركنا صدقة » وما كان النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم يعول فعليّ. فقال علي عليهالسلام : ( وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ )(١) وقال زكريا : ( يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ ) (٢) فقال أبو بكر : هو هكذا ، وأنت والله تعلم مثل ما أعلم. فقال علي عليهالسلام : « هذا كتاب الله ينطق ! » فسكتوا وانصرفوا » (٣).
الثاني : أنّه علىٰ تقدير صحته وعدم اختلاقه ، فهو من أخبار الآحاد ، فلا يجوز الأخذ بعموم ظاهره لمخالفته للكتاب الكريم ، وحاشا لرسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم أن يقول بما يخالف كلام الله عزَّ وجلّ.
هذا زيادة علىٰ رفض باب مدينة علم النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم وسيدة نساء العالمين عليهاالسلام لما زعمه أبو بكر ، ولو كان صادقاً بزعمه ، لكانا عليهماالسلام أولىٰ الخلق بحقيقة ذلك الحديث ، مما يكشف عن اختلاقه ووضعه.
ولكن أنصاره حاولوا الكذب علىٰ النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم فنسبوه إلىٰ آخرين أيضاً ، مع أنّ الثابت هو اختصاص أبي بكر به وتفرّده بنقله.
_______________________
١) سورة النمل : ٢٧ / ١٦.
٢) سورة مريم : ١٩ / ٦.
٣) مسند فاطمة عليهاالسلام / السيوطي : ١٧.
قالت عائشة : إنّ الناس اختلفوا في ميراث رسول الله ، فما وجدوا عند أحدٍ من ذلك علماً ، فقال أبو بكر : سمعت رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم يقول : إنّا معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة (١).
قال ابن أبي الحديد : إنّ أكثر الروايات أنّه لم يروِ هذا الخبر إلّا أبو بكر وحده ، ذكر ذلك معظم المحدثين ، حتىٰ إنّ الفقهاء في اصول الفقه أطبقوا علىٰ ذلك في احتجاجهم في الخبر برواية الصحابي الواحد. وقال شيخنا أبو علي : لا تقبل في الرواية إلّا رواية اثنين كالشهادة (٢).
وقال السيد المرتضى رضياللهعنه : إنّ الخبر علىٰ كلِّ حال لا يخرج من أن يكون غير موجب للعلم ، وهو في حكم أخبار الآحاد ، وليس يجوز أن يرجع عن ظاهر القرآن بما يجري هذا المجرىٰ ، لأنّ المعلوم لا يُخَصّ إلّا بمعلوم ، وإذا كانت دلالة الظاهر معلومة لم يجز أن يرجع عنها بأمر مظنون (٣).
وقال الشيخ الطوسي رحمهالله : إنّ هذا الخبر خبر واحد ، لم يروه إلّا أبو بكر ، وخبر الواحد لا يجوز قبوله عندنا في موضع من المواضع ، ولو قبلناه لما قبلناه في تخصيص القرآن وترك عمومه (٤).
ولا ندري كيف تُقبل رواية الخصم متفرداً بحديث يناقض كتاب الله ويعارض النقل ، ولا تقبل شهادة فاطمة عليهاالسلام التي توافق الكتاب الكريم ولا تعارض النقل ، وهي الصديقة المطهّرة من الرجس ؟! إلّا أن يكون الخصم هو الحاكم ، وللحاكم أن يحكم بما يشاء ، والحقّ معه علىٰ أيّ حال.
الثالث : والذي يدلّ علىٰ ما تقدّم في الوجه الثاني أيضاً ، وهو يفضي إلىٰ
_______________________
١) الصواعق المحرقة : ٣٤ ، كنز العمال ٧ : ٢٢٦ و٢٣٥ و٢٣٦ و٢٣٧ ، ١١ : ٤٧٥ و٤٧٩ ، ١٢ : ٤٨٨ ، منتخب كنز العمال ٤ : ٣٦٤.
٢) شرح ابن أبي الحديد ١٦ : ٢٢٧.
٣) الشافي / المرتضىٰ ٤ : ٦٦.
٤) تلخيص الشافي ٣ : ١٣٧ ـ ١٣٨.
نتيجة واحدة هي بطلان الحديث ، أنّ أمير المؤمنين عليهالسلام والعباس عمّ الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم وأُمّهات المؤمنين لم يسمعوا بهذا الحديث ، حيث طالبوا بالارث حتىٰ بعد وفاة أبي بكر ووفاة الزهراء عليهاالسلام.
فقد روي أنّ العباس رضياللهعنه وعليّاً عليهالسلام جاءا عمر بن الخطاب يطلبان ميراثهما من رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم (١) ، وأنّ أزواج النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم أرسلن عثمان بن عفان إلىٰ أبي بكر يسألن ميراثهن من رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم وردّتهن عائشة (٢).
وعن الإمام الباقر عليهالسلام ، قال : « جاءت عائشة إلىٰ عثمان فقالت : أعطني ميراثي من رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم. فقال لها : أولم تجيئي ومالك بن أوس النصري ، فشهدتما أنّ رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم لا يورث ، حتىٰ منعتما فاطمة ميراثها ، وأبطلتما حقّها ، فكيف تطلبين اليوم ميراثاً من النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم ؟!
فتركته وأنصرفت ، وكان عثمان إذا خرج إلىٰ الصلاة ، أخذت عائشة قميص رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ثمّ قالت : إنّ عثمان قد خالف صاحب هذا القميص وترك سنّته » (٣).
فهل يصح مع ذلك ماروي من أن عمر بن الخطاب ناشد عليّاً عليهالسلام والعباس رضياللهعنه : هل تعلمان ذلك ؟ ـ أي حديث منع الارث ـ فقالا : قد قال
_______________________
١) شرح ابن أبي الحديد ١٦ : ٢٢٩.
٢) صحيح البخاري ٧ : ٢٦٨ / ٧ كتاب الفرائض ـ باب قول النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم : « لا نورث ». وسنن أبي داود ٣ : ٤٥ / ٢٩٧٦ ـ كتاب الخراج والامارة والفيء. وسنن البيهقي ٦ : ٣٠١. وشرح ابن أبي الحديد ١٦ : ٢٢٣.
٣) الأمالي / المفيد : ١٢٥ / ٣. وكشف الغمة ١ : ٤٧٩.
ذلك (١) فإذا كانا يعلمانه ، فكيف جاء العباس وفاطمة عليهاالسلام إلىٰ أبي بكر يطلبان الميراث (٢) ؟ وكيف جاء علي عليهالسلام والعباس إلىٰ عمر بن الخطاب يطلبان الميراث ؟
فهل يصح أن يقال : إنّهما كانا يعلمان الحديث ، ثمّ جاءا يطلبان الارث الذي لا يستحقانه ؟ أو أن عليّاً عليهالسلام كان يعلم ذلك ثمّ يمكّن فاطمة عليهاالسلام أن تخالف قول الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم وتطلب مالا تستحقه ، وأن تخرج من دارها وتنازع أبا بكر ، وتكلمه بما كلمته دفاعاً عن حقها ؟ مع ما لعلي عليهالسلام من الزهد والعصمة والطهارة والذوبان في ذات الله والحبّ الشديد لاجراء أحكامه وسُنّة نبيه صلىاللهعليهوآلهوسلم ، إنّ أهل البيت عليهمالسلام أورع وأبرّ وأتقىٰ من أن يطلبوا دنيا فانية أو عرضاً زائلاً ، خصوصاً وأن أمير المؤمنين قد ضرب أروع أمثلة الزهد في هذه الدنيا التي طلّقها ثلاثاً لا رجعة له فيها.
فهل يتصور عاقل بأنّه عليهالسلام جاء ينازع المسلمين حقّهم وهو الذي عرف عنه تصلّبه في الحق إلىٰ الدرجات القصوىٰ حتىٰ أن الحق لم يترك له صديقاً !!
وفي حديث مسلم عن مالك بن أوس بن الحدثان : أنّ عمر قال للعباس وعلي عليهالسلام حينما جاءا يطلبان ميراثهما من رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : فرأيتماه ـ أي أبابكر ـ كاذباً آثماً غادراً خائناً ، ثمّ قال لمّا ذكر نفسه : فرأيتماني كاذباً آثماً
_______________________
١) صحيح البخاري ٧ : ٢٦٧ / ٥ ، كتاب الفرائض ـ باب قول النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم : « لا نورث ». وسنن البيهقي ٦ : ٢٩٩. وشرح ابن أبي الحديد ١٦ : ٢٢٢.
٢) صحيح البخاري ٧ : ٢٦٦ / ٣ كتاب الفرائض ـ باب قول النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم : « لا نورث ». وسنن البيهقي ٦ : ٣٠٠. ومسند أحمد ١ : ١٠. وتاريخ الطبري ٣ : ٢٠٨. وشرح ابن أبي الحديد ١٦ : ٤٦ و ١٦ : ٢١٨. ومسند فاطمة عليهاالسلام / السيوطي : ١٧.
غادراً خائناً (١). ورواه ابن أبي الحديد عن الجوهري بألفاظ أخرىٰ (٢).
فكيف يران هذا الرأي ، ويحكمان هذا الحكم علىٰ أبي بكر وعمر في عملهما بأمر فدك وسائر إرث النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم وهما يعلمان أن رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم قال : « لا نورث » ؟! وعليه فلا تستقيم مطالبة الزهراء عليهاالسلام وأمير المؤمنين عليهالسلام بإرث النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم إلّا لعلمهما بكذب الخبر المانع للإرث.
الرابع : لو صحّ صدور الحديث لوجب علىٰ النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم أن يبين لورثته أن تركته صدقة لكلِّ المسلمين ، وليس لهم حقّ المطالبة بالإرث بعده ، لئلا يتعرضوا لمواضع التهمة في المطالبة بما لا يستحقونه ، وليقطع دابر الفرقة والاختلاف.
وكيف يمكن أن نتصور أن النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم يشرّع حكماً يخالف نصوص القرآن الكريم ويخفيه عن جميع المسلمين حتىٰ عن ألصق الناس به من ورثته الذين يتعلق بهم الحكم ، ولا يبلغه إلّا لأبي بكر وهو غير وارث ؟ بل كيف يمكن أن نتصور أنّ أمير المؤمنين علياً عليهالسلام وباب مدينة علم الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم كان يجهل هذا الحكم ، وهو أقضىٰ الاُمّة وأعلمها بالكتاب والسُنّة ؟!
فهل يمكن أن يقال : إنّ النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم لا يعلم أن ورثته سيقسمون تركته من بعده وفقاً لأحكام الشريعة ؟ أو إنّه كان يعلم ذلك ولكن قصّر في تبليغ الأحكام والعياذ بالله ؟! وتلك علامات استفهام جوابها أنّ الحديث موضوع
_______________________
١) صحيح مسلم ٣ : ١٣٧٩ / ٤٩ ، ورواه البخاري في الصحيح ٧ : ٢٦٧ / ٥ وأبو داود في السنن ٣ : ١٣٩ ، والبيهقي في السنن ٦ : ٢٩٩ بدون ذكر الألفاظ.
٢) شرح ابن أبي الحديد ١٦ : ٢٢٢ و ٢٢٧ و ٢٢٩.
علىٰ رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم.
الخامس : ولو صحّ حديث أبي بكر ، لكان عليه أن يحرم جميع الورثة من أموال الرسول الخاصة به ، لكنّه ترك أزواج النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم في حجرهن من غير بينة ولا شهادة تدلّ علىٰ الهبة أو التمليك ، ولم يُدخِل بيوت النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم وأثاثها في الأموال العامة ، فهل الحكم بعدم التوريث مختصاً بالزهراء عليهاالسلام ؟ أم هناك آية خصّت عائشة وحفصة وغيرهما وأخرجت بنت المصطفىٰ صلىاللهعليهوآلهوسلم من الإرث ؟ وليس ثمة آية إلّا السياسة التي تجعل الحقّ باطلاً والباطل حقاً.
ولقد أوصىٰ أبو بكر حينما حضرته الوفاة أن يُدفَن إلىٰ جنب رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم وفي حجرته ، واستأذن لذلك من عائشة ، فلو كانت أمواله صدقه ، فإنّ حجرة النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم من الأموال العامّة ، وينبغي لأبي بكر أن يستأذن من جميع المسلمين في ذلك ، فكأنه لم يصدق روايته.
وكان من استئثار عائشة ببيت النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم غير دفن أبي بكر وعمر في حجرته صلىاللهعليهوآلهوسلم ، أنّها منعت الإمام الحسين عليهالسلام أن يدفن أخاه الحسن عليهالسلام إلىٰ جانب جدّه وركبت بغلة ، وخرجت تنادي : لا تدفنوا في بيتي من لا أُحبّ ، واصطفّ بنو هاشم وبنو أُميّة للحرب ، ولكن الإمام الحسين عليهالسلام قال لها : « إنّه سيطوف بأخيه عليهالسلام علىٰ قبر جده صلىاللهعليهوآلهوسلم ثمّ يدفنه في البقيع ، ذلك لأنّ الإمام الحسن عليهالسلام أوصاه أن لا يهرق من أجله ولو محجمةً من دم ».
فقال ابن عباس رضياللهعنه : واسوأتاه يوماً علىٰ بغل ، ويوماً علىٰ جمل ؟ وفي رواية : يوماً تجمّلت ، ويوماً تبغّلت ، وإن عشت تفيّلت.
فأخذه من الشعراء ابن الحجاج البغدادي
مشيراً إلىٰ استئثار عائشة بكل
بيت النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم دون باقي نسائه ، فقال :
لكِ التسع من الثمن |
|
وبـالكلِّ تملكتِ |
تجمّلتِ تـبغّلتِ |
|
وإن شئت تفيّلتِ (١) |
وقال الصقر البصري :
ويوم الحسن الهادي |
|
على بغلك أسرعتِ |
ومـايست ومانعتِ |
|
وخـاصمتِ وقاتلتِ |
وفي بيت رسول اللـ |
|
ـه بـالظلم تحكّمتِ |
هل الزوجة أولىٰ بالـ |
|
ـمواريث من البنتِ |
لك التسع من الثمن |
|
فبـالكلِّ تـحكّمتِ |
تـجمّلتِ تـبغّلـتِ |
|
ولو عشت تفيّلتِ (٢) |
السادس : لو صحّ الحديث لانصرفت الصديقة الطاهرة فاطمة عليهاالسلام عن مطالبتها راضية مخبتة ، لكن المحقّق أنّ الزهراء عليهاالسلام غضبت علىٰ أبي بكر وعمر وهجرتهما بعد سماعها الحديث المفترىٰ علىٰ أبيها العظيم محمد صلىاللهعليهوآلهوسلم ، وماتت وهي ساخطة عليهما (٣) ، وأوصت أن تدفن ليلاً ، وأن
_______________________
١) الخرائج والجرائح / القطب الراوندي ١ : ٢٤٣.
٢) المناقب / ابن شهرآشوب ٤ : ٤٥.
٣)
صحيح البخاري ٥ : ٢٨٨ / ٢٥٦ ـ كتاب المغازي. وصحيح مسلم ٣ : ١٣٨٠ / ١٧٥٩ ـ كتاب الجهاد والسير. وسنن أبي داود ٣ : ١٤٢ / ٢٩٦٨ ـ باب صفايا رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم. ومسند أحمد ١ : ٦ و ٩. ومشكل الآثار / الطحاوي ١ : ٤٨. وسنن البيهقي ٦ : ٣٠٠ ـ ٣٠١. والبداية
والنهاية