نعم لقد تشيّعت

محمّد الرصافي المقداد

نعم لقد تشيّعت

المؤلف:

محمّد الرصافي المقداد


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الأبحاث العقائدية
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5213-43-0
الصفحات: ٣١٢
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

رغبتهم وحدهم ، ويختارون بأنفسهم بعد موته ، طالما أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يختر في حياته أحداً ؟ ولماذا تحسّر عمر على فقد صاحب السقيفة الثالث ، أبو عبيدة بن الجراح ، ولو بقيَ حيّا لولّاه ؟ (١) ولماذا تحسّر بعد ذلك على فقد سالم مولى أبي حذيفة ، الذي كان الساعي لهم بالأخبار من داخل المدينة ، ولو كان حيّاً لولّاه ؟ (٢) ولماذا ضيّق عمر الشورى إلى ستّة أشخاص ، وجعل عبد الرحمان بن عوف الفيصل في اختيار الخليفة ؟ (٣)

قال : كلّ ذلك أوجده الحرص على سلامة الدولة الفتيّة من أطماع الأعداء ، وكانت تلك اجتهادات مأجورة من قبل أناس هم أهل للاجتهاد.

قلت : فهل كان هؤلاء أحرص من النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ؟

قال : بل إنّ اجتهادهم هو نابع من التربيّة التي ربّاهم عليها النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله.

قلت : وهل يوجد تصوّر آخر لنظام الحكم في الإسلام بخلاف هذا التصوّر ؟

قال : يوجد تصوّر آخر خلاف ما نعتقده نحن أهل السنّة والجماعة ، وهو عقيدة الشيعة في النصّ على إمامة عليّ بن أبي طالب رضي‌الله‌عنه والأئمّة من ولده ، وهؤلاء يبنون تصوّرهم على نصوص رأوا فيها بيانا واضحاً يؤكّد عندهم على إمامة أهل البيت رضي الله عنهم.

قلت : وهل انفردت تلك الطائفة بنصوصها وبتأويل تلك النصوص ؟

قال : لا ، فكلّ ما استدلّوا به من نصوص موجودة عندنا ، وهي مدوّنة في أُمّهات كتبنا المعتمدة ، أكثرها صحيح من طرقنا ، وأسانيد رواتنا.

_________________

(١ و ٢) انظر تاريخ المدينة لابن شبة ٣ : ٩٢٢ ، تاريخ الطبري ٣ : ٢٩٢ ، الكامل في التاريخ ٣ : ٦٥.

(٣) انظر على سبيل المثال تاريخ الطبري ٣ : ٢٩٢ ـ ٢٩٣ ، الكامل في التاريخ ٣ : ٦٥ ـ ٦٦ والمسألة محلّ إجماع لا خلاف فيها.

٢٦١

قلت : طالما أنّ النصوص مشتركة النقل ، فلماذا اختلف في مقاصدها ومعانيها ؟

قال : بسبب التأويل الذي سلكه العلماء ، في تحديد معاني المفردات التي وردت في أحاديث النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله.

قلت : ولم يكن هناك سبب آخر أسهم في خلق ضبابيّة حالت دون بلوغ مقاصد تلك الأحاديث ؟

قال : ربّما تأخّر تدوين أحاديث النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، هو الذي أسهم بشكل كبير في خلق حالة من سوء الفهم والتأويل الخاطىء لبعض المصطلحات التي تكلّم بها النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله.

إلى هنا انتهى حديث الأستاذ ، ومنه انطلقت في أفق السنّة النبويّة ، والتاريخ ، والسيرة ، أبحث عن قرينة تمكّنني من التعرّف على نظام الحكم الإسلامي الصحيح ، وكان عَلَيّ أوّلا أنْ أتعرّف على تفاصيل السيرة النبويّة العطرة ، لكنّني اصطدمت منذ الخطوة الأولى بعائق كبير ، تمثّل في طعن الرواة والحفّاظ بعضهم بعضاً ، الأمر الذي دفع المحقّقين إلى التشكيك في صدقيّة أكثر الحفّاظ ، للدور الكبير الذي لعبه سلاطينهم ، في إذكاء روح التفرقة وغرس أسباب الفتنة بين المسلمين ، وفي إجبار عدد كبير من علماء السلطان على تجاهل عدد من الحقائق ، أو توهينها ، والسكوت عنها ، ومن بين تلك الحقائق ، حادثة هامّة ومصيريّة إن صحّ وقوعها ، فإنّها قد تعصف بكلّ البناء الذي أسّسه الاتجاه الشوروي في الحكم بعد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، الحادثة كما أُخبر عنها ، تمثّلت في أمر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بتجهيز جيش من الصحابة لمحاربة الروم ، وقد عقد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، بيديه الشريفتين لواء تلك السريّة ، وأمّر عليها أسامة بن زيد ، وأشرك فيها كما نصّ على ذلك أغلب أصحاب السيرة والتاريخ ، ووجوه الصحابة منهم أبو بكر

٢٦٢

وعمر وأبو عبيدة بن الجراح وغيرهم.

لم أجد خلافا حول بعث أسامة بن زيد في التواريخ والسير ، ولا وجدت عدم توافق في أسماء الذين ذكروا في ذلك التجهيز ، الخلاف الوحيد الذي نشأ تمثّل في اختلاف المحدثين عن ردّة فعل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله حيال ذلك التمرّد والتقاعس على تأميره لأسامة ، هل لعن المتخلّف عن الجيش ، أو لم يلعنه ؟ (١)

ومهما يكن من أمر ذلك اللعن بالنسبة لي ، سواء صدر أم لم يصدر ، فإنّ مجرد الوقوع في معصية النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله تستوجب اللعن والبراءة ، والنعت بالضلال ، قال تعالى : ( وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا ) (٢) فقد وقفت على حقيقة وقوع ذلك التعيين ، وقلت في نفسي ، بعد أن وجدت أمامي ازدواجية في تواجد عدد من الصحابة المعيّنين من النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله في جيش أسامة ، الذين يفترض أن يكونوا خارج المدينة بالجرف ، حيث عسكر أسامة بجيشه ليستكمل عدّته وعدده ، غير أنّ الحاصل خلاف ذلك ، فكان عمر يتوسط جماعة من الصحابة في حجرة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وعلى مرأى ومسمع منه ، يتصدّى لأمره في كتابة وصيّته ، ويتقوّل عليه بالهذيان ، ويتهمه بالهجر (٣) ، وإذا بأبي بكر في المسجد يصلّي بالناس ، فهل استثناهما النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله من ذلك الجيش ؟ أو أنّ في الأمر سرّاً مخفيّاً آخر ؟

ولمّا لم يذكر المؤرخون لذلك الاستثناء أصلاً ، وظهر ما يدعو إلى القول

_________________

(١) وممّن ذكر اللعن وأقرّ به ، الشهرستاني في الملل والنحل ١ : ٢٣ ، والآمدي على ما نقله الأيجي في المواقف ٣ : ٦٤٩ ـ ٦٥٠ ، وراجع بعث جيش أسامة في صحيح البخاري ٤ : ٢١٣ ، ٥ : ٨٤ ، صحيح مسلم ٧ : ١٣١ ، الطبقات الكبرى لابن سعد ٢ : ٢٤٩ ، ١٩٠ ، تاريخ الطبري ٢ : ٢٤٩ ، الكامل في التاريخ ٢ : ٣١٧. فتح الباري ٨ : ٨١٥ عمدة القاري ١٨ : ٧٦ ، شرح نهج البلاغة ٦ : ٥٢.

(٢) الأحزاب : ٣٦.

(٣) وذلك في رزيّة الخميس المشهورة ، وقد تقدّمت في حلقة سابقة.

٢٦٣

بافتعال أبي بكر ومن كان معه الصلاة بالناس ، لبلوغ غاية ما ، فقد ظهرت بعض الروايات تنوء بتحريف عجيب ، وتحكي حالة فريدة من نوعها في صلاة الجماعة ، في محاولة للتعمية على حقيقة تنحية أبي بكر عن إمامة الصلاة ، فقالوا : صلّى أبو بكر مقتدياً بالنبيّ ، وصلى الناس مؤتمين بأبي بكر (١) ، فلم أتقبل رواية الصلاة بإمامين ، كما لم يقبل عقلي أن يقتدي الناس بأبي بكر ، ويتركون النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، في حين أنّ الحقيقة المطموسة تقول : لقد وقعت تنحية أبي بكر عن إمامة الصلاة بالناس ، في وقت ظنّ هو وجماعته أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، لم يعد باستطاعته أنْ يستفيق من إغمائه ، ولا أنْ يعي بما يدور حوله ، فيكون ذلك التقديم وتلك الإمامة ، مبرراً على طريق استلام الحكم ، وحجّة تمكنه من الادّعاء بأنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أمره بالصلاة بالناس.

كما ظهر من خلال تتبّعي لسيرة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله في تعامله مع إمامة الصلاة ، أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يكن يُعيّن أحداً يُصلّي بالناس في غيابه ، وقد كانت كلمته دائما : « مروا مَنْ يُصلّي بالناس » (٢) وذلك بناء على قاعدة الأعلميّة والتفقّه ، وليس على القاعدة التي اعتمدها أهل الجاهليّة في تنصيب زعمائهم ، وهي اعتبار كبر السن والمكانة الاجتماعيّة والماليّة ، مع أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله في حياته الشريفة كان ملتفتاً إلى مسألة الإمارة في غيبته عن المدينة ، فأهميّتها كمنصب حسّاس وخطير ، كانت تحتّم عليه تنصيب من يخلفه عليها في غزواته وسفراته ، فعيّن فيمن عيّن عليّاً ، ولم يعيّن أحداً من الذين تولّوا الحكم قبله ، وذلك يدلّ على استحقاقه للإمارة قبل هؤلاء جميعاً.

_________________

(١) صحيح البخاري ١ : ١٦٢ ، سنن ابن ماجة ١ : ٣٩١.

(٢) انظر مسند أحمد ٤ : ٣٢٢ ، لكن كالعادة فإن الرواية طعمت بما يخالف ذلك فصورت استياء شديد من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لعدم صلاة أبي بكر بالناس ! فلا ندرى لماذا يعمم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله القول فيمن يؤم الناس ، ثم يستاء ذلك الاستياء الشديد لعدم صلاة ابي بكر.

٢٦٤

إحدى الحقائق التي قفزت إلى فكري ، جاءت نتيجة مقارنة بين موقفين وقفهما مؤسّس الانقلاب على إمامة عليّ عليه‌السلام ، ألا وهو الخليفة عمر بن الخطاب ، ففي غزوة أحد فرّ الرجل مع من فرّ من الصحابة (١) عندما اعتقدوا بمقتل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، لمّا راجت إشاعات أكدت ذلك ، ففي تلك اللحظة وفي ذلك اليوم صدّق عمر أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله قد قتل ، وكان من ضمن الفارّين ، واقفاً على صخرة في أعلى الجبل يدرأ عن نفسه غيلة القتل. وعقيدته بأنّ النبيّ بشر يمكن موته وقتله ، هي التي كانت الدافع وراء فراره في محاولة منه للنجاة بنفسه.

والموقف الثاني ، عندما بلغته وفاة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فما كان منه إلّا أنْ سلّ سيفه ، ووقف أمام الوافدين على بيت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، لاستجلاء الخبر ، وإظهار الفجيعة والحزن ، قال : والله ! ما مات رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ; ولا يموت ، حتّى يقطع أيدي أناس من المنافقين كثير ، وأرجلهم ، فقام أبو بكر فصعد المنبر فقال : من كان يعبد الله فإنّ الله حيّ لم يمت ، ومن كان يعبد محمّداً فإنّ محمّداً قد مات ( وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ ) (٢) قال عمر : فَلَكأنّي لم أقرأها إلّا يومئذ » (٣).

فلم يهدأ الرجل من تهديده ، ولا انقطع وعيده ، ولا سكنت دعايته الغريبة والعجيبة ، إلّا عندما أقبل صاحبه ابن أبي قحافة من خارج المدينة ، وقال كلمته التي أعادت لعمر رشده ، وأطلعته على حقيقة موت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله.

وبالاطلاع على الموقفين لعمر تبيّن لي تناقضهما ; لأنّ موقف قبول مقتله على

_________________

(١) انظر فرار عمر في تفسير الفخر الرازي مجلد ٣ ، ح٩ : ٥٠ ، وشرح نهج البلاغة ١٥ : ٢٤ ، عن الواقدي ، وغير ذلك من المصادر العديدة.

(٢) آل عمران : ١٤٤.

(٣) انظر سنن ابن ماجة ١ : ٥٢٠ ، وانظر ترتيب منه في الأحكام ٢ : ٢٣٨.

٢٦٥

أيدي المشركين ، وتسليمه بذلك ، وفراره عند سماعه لذلك النبأ ، يختلف تمام الاختلاف مع ما صدر منه عند سماعه لنباء وفاة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وتحقّقه من تلك الوفاة بقدومه إلى بيت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وإشهاره السيف أمامه.

فهمت قطعاً ، وفهم كلّ عاقل مرّت عليه هذه الاستنتاجات ، أنّ عمر كان يدرك جيّداً وقوع الموت على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وعلى كلّ الناس ، ولشدّة إدراكه لموت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، جاء هروبه ، ووقع فراره من أحد لمجرد إشاعة تناهت إلى أسماعه ، مع أنّه قد يكون من الذين تحدّث عنهم الحلبي الشافعي في سيرته المعروفة بالسيرة الحلبية ، حيث ذكر أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله كان يناديهم : إليّ يا فلان إليّ يا فلان ، أنا رسول الله ، فما يعرج إليه أحد » (١). ولم يكن موقفه يوم وفاة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله نابعاً من عقيدة تخلّلت عقله ، وغيّرت من اعتقاده ، وإنّما جاءت تنفيذاً لمخطّط يقضي بحصر نبأ وفاة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، حتّى لا ينتشر ، فتمتلىء المدينة بالوافدين ; فيكون ذلك عائقاً دون تنفيذ مخطّط الانقلاب على منصب الحكومة الإسلاميّة.

الحقيقة الأخرى التي أطلّت عليّ ، ولم أتبيّنها إلّا فيما بعد هي حركة التمرّد على تأمير النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله لأسامة بن زيد ، فمن يكونوا هؤلاء ؟ ولماذا ذلك الطعن ؟ وهل هو متعلق بشخص أسامة فقط ، أم يتجاوزه إلى أشياء أخرى ؟

فقد ذكر المؤرّخون وأصحاب السير ، أنّ عمر ذهب إلى أبي بكر بعد أنْ تمّ له أمر الحكومة ، وعبّر له عن رغبته في تغيير القائد أسامة بن زيد ، وتكلّم على أساس أنّه مفوّض من قبل عدد من الصحابة ، فردّ عليه قائلاً : « ثكلتك أمّك يابن الخطّاب ، مستعمله رسول الله وتأمرني أنْ أعزله » (٢). فلو كان ابن الخطاب يدرك معنى النبوّة والنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وقدسيّته وطاعته حيّا وميّتا لدافع عن ذلك التعيين ، ولما

_________________

(١) السيرة الحلبية ٢ : ٥٠٥.

(٢) تاريخ الطبري ٢ : ٤٦٢ ، الكامل في التاريخ ٢ : ٣٣٥ ، تاريخ دمشق ٢ : ٥٠ ، واللفظ للكامل.

٢٦٦

احتاج منه الأمر إلى طلب تغيير قائد عيّنه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولكن ماذا يمكن أن يقال في رجل قضى عمره في مواجهة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله والتصدي له في كلّ صغيرة وكبيرة ، كأنّما يريد إسقاط مكانته ، والتقليل من قيمته ، ولا شكّ أنّ صلح الحديبيّة شاهد على ما اقترفه الرجل بحقّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله (١) ، كأنّما هو الوحيد الذي يدرك الحقائق.

وفهمت أنّ الطعن لم يكن بالأساس موجّهاً إلى أسامة ، بقدر ما كان موجّهاً إلى البعث من أساسه ، فالوقت الذي أراده النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله للبعث ، أوحى إليهم بأنّ مقصده كان إخلاء المدينة من عناصر ظهرت عليها رغبة وأطماع في السلطة ، وبقاء تلك العناصر ، قد يسبّب مشاكل في المجتمع الإسلامي الفتي وهو في غنى عنها ، وعندما بلغهم أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله يموت ، تحرّك المتمرّدون على أمره وقراره ، فدخلوا المدينة لاستجلاء الأمر ، وتنفيذ ما كان متّفقاً عليه بينهم.

وقد تسبب دخولهم ذلك ، في فرض واقع على الأنصار ، أملاه خوفهم وخشيتهم من تلك التحرّكات التي كانوا ينظرون إليها بقلق كبير ، وفي مضامينها العصيان والتمرّد والتحدّي للنبوّة والنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فكانت سقيفة بني ساعدة ملجأهم في البحث عن سبيل لدرء هذا الخطر القادم أمام أعينهم.

كلّ ذلك ما كان له أنْ يوجد لولا انقلاب بعض الصحابة ممّن تحيّن فرصة انشغال أهل بيت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، لينقض على الحكم.

وفوق ذلك فإنّني لا أرى موجباً يسمح بإهمال مسألة نظام الحكم في الإسلام بعد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولا مدعاة إلى تركه لأناس مازالوا حديثي عهد بالدين ، لم يفهموا منه أبسط أحكامه ، فضلاً عن استيعاب مبدأ الشورى ، ومعرفة نمط الحكومة.

وقد ورد في القرآن الكريم عدد كبير من الآيات التي ضمّنت من بين مفرداتها

_________________

(١) تقدّمت الإشارة إلى ذلك في حلقة سابقة.

٢٦٧

مصطلح الحكم وأولي الأمر ، وجاء تعدّدها تأكيداً على أهميّتها ، وضرورتها ، في مجتمع ناشىء في بداية بناء مؤسساته ، ولا شكّ في أنْ النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله قد أوضح مفهوم الحكم والحكومة في الإسلام امتثالا لأمر الله تعالى ، في بيان دينه وشريعته ، وإبلاغها للناس ، وتفسيراً لمقاصد الآيات التي جاءت متضمنة لمصطلح الحكم ، وولاية الأمر ، فتركُ أمر مهمّ وخطير كالحكومة ، وتجاهل مسألة ولاية الأمر في منصب حسّاس ، تنطلق به مرحلة ما بعد النبوة ، إهمال لا يمكننا أن نتصوّر وقوعه من النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولا من الله تعالى مشرّع تلك الوظيفة ، ومضمّنها في كتابه العزيز.

إنّ ما حدث في سقيفة بني ساعدة ، لا يمكن وضعه في إطار عملية الشورى التي يدّعيها الفريق القائل بأنّ نظام الحكم في الإسلام يستند على أساسها ، حيث إنّ المكان لا يمكنه أنْ يسع غير عدد قليل من المسلمين ، والزمان لا يحتمل غير انتظار توديع ومواراة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله التراب ، ثمّ الحضور إلى المسجد ، ذلك المكان الطبيعيّ الذي ربّى فيه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله الناس على حزم أمورهم وإبرامها فيه ، وقد أسرف من قال بصحّة ما وقع في تلك الفترة الوجيزة من الزمن ، والتي كان لها الأثر السلبيّ على مفهوم الحاكميّة الصحيح ، فلا القدامى منهم كالأشعريّ ولا المتأخرين كأبي الأعلى المودودي في كتابه الخلافة والملك ، قد رجّحوا فكرتهم بخصوص نظرية الحكم في الإسلام ، وجميعهم في ذلك مبرّرون ومثبتون لجملة كلّ تلك التجاوزات التي حصلت ، ومؤسّسون على منوالها نظرية متهافتة ، وبعيدة عن المنطق القرآني للحكومة الإسلاميّة.

كانت تبريرات الأستاذ مهمّة بالنسبة لي ، ورأيت فيها دافعاً نحو مزيد من البحث عن حقيقة نظام الحكم في الإسلام بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، عدت إلى قراءة تلك الحقبة من الزمن في تاريخ الطبري ، الذي يعتبر من أقدم مصادرها في كتب

٢٦٨

السنّة ، فازددت حيرة من أمري ، ولم يفدني ذلك بشي.

وفي أحد الأيّام ، بينما أنا أتجوّل في أحدى دورات معرض الكتب التي تقام سنويّاً في البلاد ، تراءى لي من أحد أروقة المعرض عنوان لكتاب قد يجيب على تساؤلاتي التي لا تزال قائمة حول نظام الحكم في الإسلام ، يحمل عنوان ( السقيفة ) ، لصاحبه الشيخ المظفّر ، فانتهيت إليه واستخرجته من الدرج ، وبدأت في تصفحه ، ومن خلال ذلك عرفت أنّ مؤلّفه عالم من علماء الشيعة ، ومع ذلك اقتنيته لقراءة وجهة نظر تلك الطائفة من الحكومة الإسلاميّة.

إنّ مقدّمات أحداث السقيفة ، وما تخللها وتلاها ، يؤكّدان بوضوح على أنّ الذي حصل للنبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وللإمام عليّ عليه‌السلام ، لم يكن سوى مؤامرة خسيسة على الدين ، أُريد بها صرف الإمامة عن أهلها ، كما نُقل عن الخليفة الثاني قوله لعبد الله ابن عباس : « كرهوا [ يعني قريش ] أنْ يجمعوا لكم النبوة والخلافة » (١) ، وقريش كما لا يخفى على كلّ ذي بصيرة ليست كلّ المهاجرين من مكّة ، وإنّما أولئك الذين وقفوا للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله يوم الخميس الذي سبق وفاته ، وتطاولوا على مقامه وانتهاك حرمته وحرمة بيته ، بالادّعاء عليه بدعوى لا تجوز على النبوّة والوحي ، حيث نسبوا له الهذيان ، فقالوا : إنّه يهجر والعياذ بالله (٢) ، وأولئك الذين تمرّدوا عليه ، ورفضوا الخروج في جيش أسامة (٣).

أما ما حاولوا الاحتجاج به على الشورى بما ورد في القرآن من قوله تعالى : ( فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ) (٤). وقوله

_________________

(١) تاريخ الطبري ٣ : ٢٨٩ ، الكامل في التاريخ ٣ : ٦٣ ، شرح نهج البلاغة ١٢ : ٥٣.

(٢) والقائل هو الخليفة عمر وقد هذّبها البعض فقال : إنّه قال : غلب عليه الوجع وقد تقدّم ذلك.

(٣) تقدّمت الإشارة إلى أولئك فيما تقدّم.

(٤) آل عمران : ١٥٩.

٢٦٩

تعالى أيضاً : ( وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ ) (١).

فلم يرد بها المولى سبحانه وتعالى ، غير تربية النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله لصحابته ، على مبدأ الشورى فيما يتعلق بالمسائل الحياتيّة التي تعترضهم ، فلا ينصرف معنى الشورى والتشاور ، إلى ما يتعلق بأحكام الدين وتفاصيل الشريعة ; لذلك فان مقصد الآيتين في هذا الإطار ، ليس احتياج النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى أخذ آراء المحيطين به ، بقدر ما كان يراد به تربية الصحابة ومن سيأتي بعدهم على العمل بذلك المبدأ ، لأنّ علاقة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بالوحي ، لا تترك له مجالاً حتى يحتاج إلى أحد يعطيه رأيه في مسألة من المسائل العرضية.

أمّا ما حيك من روايات تُخطّىء النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وترجّح آراء بعض أصحابه عليه ، كرواية أسرى بدر (٢) ، فمردود من ناحية كون النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله معصوماً عن الخطأ ، ويجب أن يكون دوره دائماً ، هو المصحّح وليس العكس ، مضافاً لصريح القرآن الدال على وجوب طاعة النبي مطلقاً.

بعد هذه الحقائق المتتابعة ، هل يصحّ لنا أنْ نقول بأنّ ما أقدم على فعله هؤلاء الصحابة ، يعتبر شورى مستقاة من الدين الحنيف ، وليست ستاراً وهمياً أريد به الاستيلاء على السلطة ؟

_________________

(١) الشورى : ٣٨.

(٢) وحاصل الرواية أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله استشار أبو بكر وعمر في شأن أسارى بدر ، فقال أبو بكر : « يا نبيّ الله ، هم بنو العمّ والعشيرة. أرى أنْ تأخذ منهم فدية فتكون لنا قوّة على الكافر ، فعسى الله أنْ يهديهم للإسلام » أمّا عمر فرفض ذلك وقال : « ما أرى الذي رأى أبو بكر ، ولكنّي أرى أنْ تمكّنا فنضرب أعناقهم ... » فهوى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ما قال أبو بكر ولم يهو ما قال عمر ، لكنّ الله سبحانه وتعالى خالف الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ووافق عمر فنزلت الآية : « ما كان لنبيّ أنْ يكون له أسرى حتّى يثخن في الارض .. » [ الأنفال : ٦٧ ] وانظر ما تقدّم في صحيح مسلم ٥ : ١٥٧ ، مسند أحمد ١ : ٣١ ، سنن الترمذي ٤ : ٣٣٦ ، وقد رواه مختصراً ، وانظر عمدة القاري ٤ : ١٤٤ حيث أشار الى القصّة باعتبارها من موافقات عمر.

٢٧٠

أنا لم أجد مسوّغاً واحداً يؤيّد نسبة ما وقع إلى شورى مرجعها الدين الإسلاميّ ; لأنّها في واقع الأمر مجموعة من الأعمال المتناقضة التي هدّمت بعضها بعضاً ، فحصر الشورى في ستّة كان القصد منها تسليم الحكم بطريقة غير شريفة من الصهر ابن عوف إلى صهره ابن عفّان ، وهي رغبة الخليفة الثاني ، والسبب قد يكون إسداء يد لابن عفان مقابل كتابة هذا الأخير لوصيّة الخليفة الأول التي نقلها المؤرّخون ، أو قد يكون استمراراً في تنفيذ الاتّفاق الذي أبرمه المتحزّبون على صرف الحكومة عن الإمام عليّ عليه‌السلام ، وأغلب هؤلاء هم طلقاء النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله من بني أميّة. وقد تهاوت نظرية الشورى بتنصيص أبي بكر على عمر وحصر عمر لها بسته اشخاص فقط !

وما أنْ تمّ للإمام عليّ عليه‌السلام أمر الحكومة ، حتّى كشّر أعداءه عن أنيابهم ، ووقفوا في وجهه يحولون دونه والمضيّ بالأمّة في طريق التوحيد والإنابة ، بسبب السياسات الخاطئة التي صدرت عمّن سبقه ، واستطاع الطلقاء أنْ يبنوا قوّة على مدى عشرين سنة ، استكملت عدّتها وعددها ، ووقفت جحافلها تريد صرف الإمامة عن عليّ عليه‌السلام تحت مبرّر القصاص من قتلة عثمان.

وفي واقع الأمر ، ما كانت المطالبة بدم عثمان ، إلّا تعلّة للخروج على إجماع الأمّة ، وإحداث الفتنة في صفّها ، ومحاولة خبيثة لتحويل الثورة التي قام بها المسلمون الحقيقيون الغيارى على الدين وأهله من عنت وظلم وبغي بني أميّة ، إلى جريمة ، وقلب حقيقة الخليفة عثمان الذي استغله بنو أبيه ، من حاكم ظالم بدّل وغيّر ، واستنزف الأموال الإسلاميّة في مصالح شخصيّة ، واستعمل المنافقين والفسقة والأدعياء ، أمراء وحكّاما وقادة على وجوه الأمّة وخيارها ، إلى خليفة مظلوم ، مات شهيداً والمصحفُ بين يديه.

إنّ من يشكّ في إسلاميّة الثورة التي قامت على الخليفة الثالث ، وأحقيّة

٢٧١

القائمين بها ، لا يملك من التعقّل والإنصاف شيئا ; لأنّ الدلائل التي وردت في كتب التاريخ تؤكّد مظلومية هؤلاء الثوّار وإصرار الخليفة على عدم الاستجابة لهم في مطالبهم التي تقدّموا بها إليه والتي كان فيها الإمام عليّ عليه‌السلام وسيطاً بين الطرفين ، ولمّا يئس المسلمون من إمكانية الإصلاح ، عادوا فحاصروا بيت الخليفة مدّة تجاوزت الأسبوعين ، على مرأى ومسمع ومشاركة من وجوه الصحابة كعمار ابن ياسر الذي شمله النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بقوله : « أبشروا فإن آل ياسر ، موعدكم الجنّة » (١) ، ولو كان الأمر كما حاول تصويره لنا أتباع خطّ الخلافة ، من استضعاف ومظلمة للخليفة الثالث ، لوجد أنصاراً أشدّاء في المدينة ، كالإمام عليّ عليه‌السلام ، وشجعان بني هاشم رضوان الله تعالى عليهم ، وأكثريّة الصحابة الذين ما زالت تعجّ بهم المدينة ، ولما بقي الرجل محاصراً تلك المدّة ، ولما قتل تلك القتلة ، ولما بقي في بيته ثلاثة أيّام ، ولما دفن ليلاً على عجل ، وفي مكان لم يسبق للمسلمين أنْ دفنوا موتاهم فيه ، بعد أنْ أصرّ من بالمدينة من صحابة على عدم دفنه في البقيع (٢).

الغريب أنّ من ظهر مطالباً بدم عثمان ، كعائشة كانت ممّن ألّب المسلمين عليه ، فهي التي قالت كلمتها الشهيرة : « اقتلوا نعثلا فقد كفر » (٣). وكالزبير وطلحة الذين كانوا مع الثوار (٤) ، لذلك يمكن القول بأنّ مطالبتهم بدم عثمان من عليّ عليه‌السلام وأصحابه ، لم يكن إلّا وسيلة قذرة للوصول إلى إزاحة الإمام عليّ عليه‌السلام ، وتسلّم الحكم بعده.

_________________

(١) كنز العمال ١١ : ٧٢٧.

(٢) انظر ذلك في تاريخ المدينة ١ : ١١٣ ، تاريخ الطبري ٣ : ٤٣٨ وما بعدها ، الاستيعاب ٣ : ١٠٤٧ ، المعجم الكبير ١ : ٧٩ ، مجمع الزوائد ٩ : ٩٥ وغيرها الكثير من المصادر.

(٣) تاريخ الطبري ٣ : ٤٧٧ ، الكامل في التاريخ ٣ : ٢٠٦.

(٤) راجع سير أعلام النبلاء ١ : ٣٤.

٢٧٢

ولولا تعيين الخليفة الثاني لطلحة والزبير في شورى الستّة المزعومة ، لكانت أطماعهما أقلّ حدة ، ولما خلعا بيعتيهما وانساقا بولديهما وراء مطلب خطير تسبّب في تمزيق أوصال الأمّة إلى اليوم ، فقد أخرجا عائشة على جمل وهي المأمورة بأنْ تقرّ في بيتها ، من مكّة إلى البصرة في محاولة خبيثة لاستنفار الأعراب من حول مكّة والمدينة ، فمن من هؤلاء يسمع بخروج ( أمّ المؤمنين ) فلم يبادر إلى سيفه وراءها ؟

وأمّا زعيم الطلقاء معاوية بن أبي سفيان لعنهما الله ، قد بنى ملكه على مهل ، وتصرّف في الشام وفلسطين تصرّف المالك ، بفضل إقرار عمر له عليهما ، بعد أنْ كان عيّنه الخليفة الأوّل قائداً للجيش الفاتح لبلاد الروم.

فإذا تهاوت نظريّة الشورى بمعاول مؤسّسيها ، وتركت وراءها أثرين خطيرين ما تزال الأمّة الإسلاميّة تعاني من نتائجهما الخطيرة على الدين والأمّة الإسلاميّة هما :

الأول ـ تحوّل وهم الشورى ( لأنّ ما وقع إدراجه ضمن إطار شورى الحكم بعد وفاة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، لم يجسّد حقيقة الشورى حتّى في أبسط مفاهيمها ) إلى ملك غاشم ظلوم خلال فترة قصيرة جدّاً من خوض تلك التجربة.

الثاني ـ فصل الدين عن دوره في الإشراف على كلّ أوجه الحياة ، وتسبّبت تلك الأحداث في فصل الدين عن السياسة خصوصاً والحياة عموماً.

ومقابل الرأي الذي ادّعى إهمال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله لأمر الحكومة الإسلاميّة ، تاركاً شأنها للناس ، جاءت عقيدة أهل البيت عليهم‌السلام ، لتعكس الواقع الصحيح لحكومة الإسلام بعد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهو عدم ترك ذلك المنصب الحسّاس والخطير ، والذي يتوقف عليه مصير الدين بكافّة تشريعاته ، وبقاء مؤسّساته وتماسك مجتمعه ، فإنّ التعيين لمن سيكون وليّ أمور المسلمين من بعد مرحلة النبوّة أمراً لازماً تحتّمه

٢٧٣

المرحلة التي مرّ بها هذا الكيان الناشىء من بين معتقدات جاهليّة ، ضاربة جذورها في عمق المتدينين الجدد ، وتحتاج إلى وقت لتغييرها وإحلال بدائل إسلاميّة مكانها ، وتحتّمه تواجد قوّتين معاديتين تترّبصان بالدين الجديد وتريدان الخلاص منه ; لأنّه يشكّل تهديداً مباشراً لها ، مضافاً إلى الأكثر خطراً منهما ، وهو حزب المنافقين الذي أسّسه الطلقاء ، ودخلوا في الدين من خلاله ; ليسيئوا إليه ويقوّضوا أركانه بالكذب والدعاية والبهتان ، فكلّ تلك المخاطر تستوجب عدم ترك الدين الجديد والأمّة بلا راع بعد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله.

والاعتقاد بحتميّة تعيين من يحكم المسلمين بعد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، أملتها المعطيات التي وفقت إلى الوقوف عليها ، وشواهد تاريخية قالت بأنّ التعيين كان سائداً فيمن يتولى زمام الأمور بعد عصر الأنبياء عليهم‌السلام.

كما أنّ في قوله تعالى : ( لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ) (١) دليل على أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ليس له حقّ في التصرّف من تلقاء نفسه ، بل هو في إطار دوره ، ليس إلّا مبلغا عن الله تعالى ، فكيف يكون للناس ما لا يكون للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله في مسألة حسّاسة كالحكومة الإسلاميّة.

وبذلك عرفت أحقيّة أهل البيت عليهم‌السلام في قيادة الأمّة الإسلاميّة ، واقتنعت بأنّ تكالب أعداء الدين من أجل إحلال الصحابة محلّ هؤلاء الأطهار ، كان مؤامرة خسيسة دُبّرت من أجل صرف الناس عن أبواب الهدى التي أمر الله سبحانه وتعالى بإتيانها ، وأخذ الدين منها ، فلم أتردّد لحظة في موالاة العترة الطاهرة ، فاتّخذتهم أولياء في الدنيا والآخرة والحمد لله ربّ العالمين.

_________________

(١) آل عمران : ١٢٨.

٢٧٤

الحلقة السابعة والعشرون

شيّعتني روحيّة أئمة أهل البيت عليهم‌السلام

عمار ، شخص من وسط المجتمع التونسي ، شديد التواضع بحيث لم يعرف له ترفّع أو تعال على غيره ، ولعلّ ذلك ناشىء من أصله الذي ينحدر من أهل بيت النبوّة عليهم‌السلام ، فلا غرابة من خلق صدر من موضعه ، مع أنّ الاحترام والتقدير الذين حازهما من معاشريه ، لم يتأتّيا من نسبته إلى الأشراف عليهم‌السلام ، بل فرضتهما جملة سلوكياته ومحاسن أخلاقه ، تأخّرت نسبته إلى الطاهرين عليهم‌السلام فكراً وعقيدة بعد أنْ تقدّمت نسبته إليهم نسباً ، ومردّ ذلك إلى عصور امتلأت بالقمع والإبادة ، لأهل البيت عليهم‌السلام وشيعتهم رضوان الله تعالى عليهم ، والتي لم يسلم منها حتّى من جهل حاله ، فلم ينجُ من الفتك والقتل الذريع ، إلّا القليل ممّن لاذ بالصحارى النائية ، أو الجبال الوعرة التي لا يستطيع طلب بلوغها ، لاستبعاد بلوغ الفارّين إليها.

لم يكن في بداية تدينه يأبه لمذهب من المذاهب ; لذلك لم يخالطه تعصّب مريض ، فلم يستند إلى فئة أو طائفة من الطوائف السنيّة الأربعة ، ممّا سهّل عليه اعتناق إسلام التشيّع لأهل البيت عليهم‌السلام ، واعترافه بأحقيّتهم ، وإقراره بإمامتهم بعد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، خصوصاً بعد اطلاعه على بعض الجوانب العملية التي دأب الطاهرون على القيام بها طاعة لخالقهم ، وتحقيقاً لعبوديتهم الحقيقيّة له.

دعوته إلى جلستنا ، فلبّى الدعوة ، وجاء إلى المكان المحدّد ; ليقول كلمة قد يكون لها الأثر في استنقاذ نفس تريد الهداية إلى الحقّ ، والحقّ أحقّ أنْ يتّبع ، فلمّا جاء دوره أفاد قائلا :

كنت في أواسط الثمانينات من الذين تحمّسوا للدين الإسلامي على الرغم من

٢٧٥

أنّ بداية التزامي بالإسلام لم تكن متأخّرة ، فإنّني لم أكن فيها بذلك النضج والفهم الذي أصبحت عليه منذ مدّة ، وذلك عائد تحديدا إلى خصلة ميّزت شخصيتي ، تمثّلت في حبّي للمعرفة ، وولعي باستشراف الحقائق والتطلّع إليها ، مهما صَغُرت وتضاءلت من حيث قيمتها ; لذلك بنيت عقلي على عدم الخضوع لفكرة إلّا إذا اجتمعت لديّ قرائنها ، ووقفت على مدى صحّتها.

اهتممت في البداية بالتاريخ الإسلاميّ ، فوجدته مؤلفاً تأليفاً غلب عليه الطابع الانتمائي على المستويين المذهبي والعرقي ، جاء محتواه مؤرّخا للخلفاء والملوك ، متجاهلاً العناصر المؤثّرة التي صنعت الأحداث الرائعة في الأزمنة التي خلت ، وهي طبقات الناس الفاعلة في حركة التاريخ ، وفئات الرجال الذين قدمهم الله سبحانه وتعالى أمثلة ونماذج يمكن للبشريّة أنْ تحتذي حذوها.

كنت مولعاً بالكتب إلى أبعد حد ، فلم يمنعني مانع من مطالعة أي كتاب ينال إعجابي ، وتتبعت مكتباته ومعارضه ، إلى درجة أنفقت فيها جزءاً هامّاً من أموالي ، ودفعني عشقي للكتاب إلى أن أجعل جلّ نفقاتي متّجهة إليه ، فلم التفت إلى بقيّة متطلبات الحياة ، إلّا بشحُّ وتقتير كبيرين.

عند اقتراب موعد افتتاح المعرض الدولي للكتاب ، الذي يلتئم بالعاصمة التونسيّة ، اتّفقت مع أحد الأصدقاء على الذهاب إليه ، على متن سيّارته الخاصّة ، فوافق على مقترحي ; لأنّه هو أيضاً من المولعين باقتناء ومطالعة الكتب ، ومواكبة النهضة الثقافية العالميّة على وجه العموم ، والإسلاميّة على وجه الخصوص.

في إحدى دور النشر المشرقيّة المشاركة ، استقطبت اهتمامي عناوين كتب مصفّفة على رفوف العرض في جناح تلك الدار ، لم تترك لي مجالا لتجاوزها والبحث عن غيرها ، فمددت يدي لتصفّح أوّلها ، وهي الصحيفة السجاديّة للإمام زين العابدين عليه‌السلام ، فانبهرت بما بين دفّتي الكتاب من جوامع الكلم ، وعظمة

٢٧٦

الدعاء المُبوّب فيه ، وتناسق ألفاظه ، ودقّة معانيه ، وعمق مطالبه ، والذي لم أقرأ عنه من قبل ، ولا سمعت به ، على مدى سِنيّ مطالعاتي ، ولا حتّى في المساجد التي كنت أرتادها مدّة طويلة طويلة ، وأصلّي فيها جماعة الصلوات الخمس ، أصابتني دهشة كبرى لمّا وقعت عليه عيناي ، واستغربت من تجاهل المسلمين ـ الذين أعيش بينهم ـ لهذه الأدعية وتجنبهم لها ، ثمّ التفتّ إلى كتاب آخر يحملُ عنوان مُهج الدعوات ، وهو مجلّد كبير ، جمع فيه مؤلّفه السيد ابن طاووس رضي‌الله‌عنه ، لباب الأدعية وزبدتها ، نقلاً عن النبي الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، والأئمّة الهداة من أهل بيته عليهم‌السلام ، وامتدت يدي إلى كتاب البلد الأمين للكفعمي ، ثمّ إلى كتاب مصباح المتهجّد للشيخ الطوسي ، ثمّ إلى كتاب مفاتيح الجنان للشيخ عباس القمّي ، ثمّ إلى كتاب جمال الأسبوع والإقبال للسيّد ابن طاووس وغيرها من كتب الأدعية التي وجدتها إلى حدّ يزيد عن الكفاية.

لم يعد للوقت عندي قيمة في تلك اللحظات ، فقد ذهلت عنه بما عثرت عليه من ذخائر لا تقدّر بثمن ، وبقدر ما تملّكني إحساس بالفرح لما عثرت عليه ، بقدر ما علت نفسي كآبة على الإهمال والتجاهل لهذا التراث العظيم الذي بقي المسلمون الشيعة ينعمون به لوحدهم قروناً طويلة ، وتمنيت لو أنّ هذه الأدعية والمناجات كانت منحه عند جميع المسلمين ، ولكن ما كلّما يتمنّى المرء يُدركه ، فالمانع الذي حال دون ذلك ، هو الأنظمة التي حكمت على أهل البيت عليهم‌السلام وشيعتهم بالخروج عن سلطانها ، فأعلنت الحرب عليهم بكلّ الوسائل ، والتي منها منع تداول تراثهم بين المسلمين ، وإرهاب أو قتل كلّ مَن تجرّأ على عصيان أمر ذلك الحظر.

الأمثلة التي يمكنني أنْ أسوقها للتعريف بعظمة دعاء أئمّة أهل البيت عليهم‌السلام ، دعاء كميل الذي علّمه أمير المؤمنين عليّاً عليه‌السلام صاحبه كميل بن زياد النخعي ،

٢٧٧

والذي يجتمع المسلمون الشيعة عقب صلاة العشاء ليلة الجمعة للدعاء به ، ودعاء الصباح ، ودعاء الإمام الحسين عليه‌السلام يوم عرفة ، ودعاء السحر الكبير للإمام زين العابدين ، واختصارا لمطلب التعريف ، رأيت أنْ أنقل إلى القرّاء نماذج من أدعية أئمة أهل البيت عليهم‌السلام ، تعبّر عن مخزون علم لا يضاهى ، ومقام روحي لا يقاس.

دعاء مكارم الأخلاق :

« اللهمّ صلّ على محمّد وآله ، وبلّغ إيماني أكمل الإيمان ، واجعل يقيني أفضل اليقين ، وانته بنيّتي إلى أحسن النيّات ، وبعملي إلى أحسن الأعمال ، اللهمّ وفّر بلطفك نيّتي ، وصحّح بما عندك يقيني ، واستصلح بقدرتك ما فسد منّي ... » (١).

دعاء السحر : ويدعى به في أسحار شهر رمضان :

إلهي لا تؤدبني بعقوبتك ، ولا تمكر بي في حيلتك ، من أين لي الخير يا رب ، ولا يوجد إلّا من عندك ، ومن أين لي النجاة ، ولا تستطاع إلّا بك ، لا الذي أحسن استغنى عن عونك ورحمتك ، ولا الذي أساء اجترأ عليك ولم يرضك خرج من قدرتك ، يا ربّ يا ربّ يا ربّ ... ( حتى ينقطع النفس ) بك عرفتك ، وأنت دللتني عليك ، ودعوتني إليك ، ولولا أنت لم أدر ما أنت ، الحمد لله الذي أدعوه فيجيبني ، وإنْ كنت بطيئاً حين يدعوني ، والحمد لله الذي أسأله فيعطيني ، وإنْ كنت بخيلاً حين يستقرضني ، والحمد لله الذي أناديه كلّما شئت لحاجتي ، وأخلو به حيث شئت لسرّي ، بغير شفيع فيقضي لي حاجتي ، الحمد لله الذي أدعوه ولا أدعو غيره ، ولو دعوت غيره لم يستجب لي دعائي ، والحمد لله الذي أرجوه ولا أرجوا غيره ، ولو رجوت غيره لأخلف رجائي ... » (٢).

دعاء الافتتاح : ويدعى به في كلّ ليلة من ليالي شهر رمضان :

_________________

(١) الصحيفة السجادية ، من دعاء الإمام زين العابدين في مكارم الأخلاق : ١٧٦.

(٢) المصباح للكفعمي ، دعاء السحر للإمام علي بن الحسين زين العابدين عليه‌السلام : ٥٨٨.

٢٧٨

« اللهمّ إني أفتتح الثناء بحمدك ، وأنت مسدّد للصواب بمنّك ، وأيقنت أنّك أرحم الراحمين في موضع العفو الرحمة ، وأشدّ المعاقبين في موضع النكال والنقمة ، وأعظم المتجبرين في موضع الكبرياء والعظمة ، اللهم أذنت لي في دعائك ومسألتك ، فاسمع يا سميع مدحتي ، وأجب يا رحيم دعوتي ، وأقل يا غفور عثرتي ، فكم يا إلهي من كربة قد فرّجتها ، وهموم قد كشفتها ، وعثرة قد أقلتها ، ورحمة قد نشرتها ، وحلقة بلاء قد فككتها ... ».

دعاء الصباح لأمير المؤمنين :

« اللهمّ يا من دلع لسان الصباح بنطق تبلّجه ، وسرح قطع الليل المظلم بغياهب تلجلجه ، وأتقن صنع الفلك الدوّار في مقادير تبرّجه ، وشعشع ضياء الشمس بنور تأجّجه ، يا من دلّ على ذاته بذاته ، وتنزه عن مجانسة مخلوقاته ، وجلّ عن ملائمة كيفياته ، يا من قرب من خطرات الظنون ، وبعد عن لحظات العيون ، وعلم بما كان قبل أنْ يكون ، يا من أرقدني في مهاد أمنه وأمانه ، وأيقظني إلى ما منحني به من مننه وإحسانه ، وكفّ أكفّ السوء عنّي بيده وسلطانه ، صلّ اللهمّ على الدليل إليك في الليل الأليل ، والماسك من أسبابك بحبل الشرف الأطول ، والناصع الحسب في ذروة الكاهل الأعبل ، والثابت القدم على زحاليفها في الزمن الأوّل ، وعلى آله الأخيار المصطفين الأبرار ، وافتح اللهمّ لنا مصاريع الصباح بمفاتيح الرحمة والفلاح ، وألبسني اللهمّ من أفضل خلع الهداية والصلاح ، واغرس اللهم بعظمتك في شرب جناني ينابيع الخشوع ، وأجر اللهمّ من آماقي زفرات الدموع ، وأدّب اللهم نزق الخرق منّي بأزمّة القنوع ... » (١).

مناجاة الراجين للإمام زين العابدين :

« يا من إذا سأله عبد أعطاه ، وإذا أمل ما عنده بلغه مناه ، وإذا أقبل عليه قرّبه وأدناه ،

_________________

(١) بحار الأنوار ٩١ : ٢٤٣.

٢٧٩

وإذا جاهره بالعصيان ستر عليه وغطّاه ، وإذا توكّل عليه أحسبه وكفاه ، إلهي من الذي نزل بك ملتمساً قراك فما قريته ، ومن الذي أناخ ببابك مرتجيا نداك فما أوليته ، أيحسن أن أرجع عن بابك بالخيبة مصروفا ، ولست أعرف سواك مولى بالإحسان موصوفا ، كيف أرجو غيرك ؟ والخير كلّه بيدك ، وكيف أؤمل سواك ؟ والخلق والأمر لك ، أأقطع رجائي منك ، وقد أوليتني ما لم أسأله من فضلك ؟ أم تفقرني إلى مثلي ، وأنا اعتصم بحبلك ؟ يا من سعد برحمته القاصدون ، ولم يشق بنقمته المستغفرون ، كيف أنساك ولم تزل ذاكري ؟ وكيف ألهو عنك وأنت مراقبي ؟ إلهي بذيل كرمك أعلقت يدي ، ولنيل عطاياك بسطت أملي ، فأخلصني بخالصة توحيدك ، واجعلني من صفوة عبيدك ، يا من كل هارب إليه يلتجىء ، وكلّ طالب إيّاه يرتجي ، يا خير مرجوّ ، ويا أكرم مدعوّ ، ويا من لا يردّ سائله ، ولا يخيّب آمله ، يا من بابه مفتوح لداعيه ، وحجابه مرفوع لراجيه ، أسألك بكرمك أن تمنّ عليّ من عطائك بما تقرّ به عيني ، ومن رجائك بما تطمئنّ به نفسي ، ومن اليقين بما تهوّن به عليّ مصيبات الدنيا ، وتجلو به عن بصيرتي غشوات العمى ، برحمتك يا أرحم الراحمين » (١).

لم أكن أعرف عن أئمّة أهل البيت عليهم‌السلام في ذلك الوقت شيئاً يستحقّ الذكر ، فقد غاب أثرهم في خضمّ الصحابة ، وذهل المسلمون عن مقامهم ، لاعتقاد أسّسه الغاصبون للحكم الإسلامي.

اقتربت من صاحب المكتبة ، وكان لبنانيّاً وقلت له : أصحيح نسبة هذه الأدعية إلى أهل بيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ؟

فقال : هذا شيء مؤكّد وتداولته الأجيال ، وتقبلته بالتصديق والعمل ، لكن لماذا سألتني هذا السؤال الغريب ؟

قلت له : لأنّنا لا نجد شيئاً من هذه الكنوز العظيمة ، والخيرات العميمة ، في

_________________

(١) بحار الأنوار ٩١ : ١٤٥.

٢٨٠