محمّد الرصافي المقداد
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الأبحاث العقائدية
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5213-43-0
الصفحات: ٣١٢
رابع تلك المذاهب ، هو المذهب الحنبليّ نسبة إلى أحمد بن حنبل ، الذي ولد سنة ١٦٤ هـ وتوفي ببغداد سنة ٢٤١ هجرية ، ودفن بمقبرة باب حرب ببغداد ، عاش في بغداد التي كانت موطن العلوم وقتها ، ومنافسة عنيدة للمدينة المنورة ، صاحب محمّد بن إدريس الشافعي وأخذ عنه.
بعد اطلاعي على تاريخ ولادة فقهاء المذاهب الأربعة ، التي اصطُلح عليها بمذاهب أهل السنّة والجماعة ، تساءلت في نفسي : بماذا كان يتعبّد أهل القرن الأول قبل مجئ أبي حنيفة ومالك ، والثاني قبل مجئ الشافعي والثالث قبل مجئ ابن حنبل ، ولم ينتشر فقه أصحاب تلك المذاهب فيها ؟ ولماذا تُركت بقيّة الفقهاء وأهملت اجتهاداتهم ، وضرب الصفح عن الأساتذة الكبار ، والتُفت إلى تلاميذهم ؟ ولماذا انحصرت المذاهب التي ادّعت اختصاصها بالسنّة النبويّة في أربعة فقط ؟ وهل صحيح أنّ تلك المذاهب ، هي صاحبة النبيّ صلىاللهعليهوآله وسنته الشريفة ؟
أسئلة عديدة جالت في خاطري ، وكانت تبحث عن جواب مقنع لها ، فازددت تشبثاً بمعرفة ما جرى ، وأين تكمن الحقيقة وسط هذا الركام الهائل من الموروثات ، التي اختلطت إلى حدّ التباين والتناقض.
عند تصفحي لما كُتب عن القرن الأول الهجري ، لم أجد لتلك المذاهب أثراً ; لأنّها لا يمكن أنْ تكون سابقة لوجود مؤسّسيها ، ولا كان لها إشعاع أثناء وجودهم ، ناهيك أنّه قد ضُرب منهم من ضُرب ، وعوقب من عوقب من طرف السلطة ، لفتاوى أو اعتقادات ، لم ترق لخلفاء بني العباس ، وقرّب منهم بعد ذلك من قرّب لتوافق طرأ على علاقاتهم ، كما نلاحظ أنّه لم يتمّ العمل بمقتضاها على الوجه الذي نشهده الآن في القرن الذي تلاه.
كما أنّ حصر تلك المذاهب في إطار وضع له
عنوان مُزيّف ، وهو الادعاء بأنّه يمثّل السنّة النبويّة المطهرة ، مدعاة إلى الاستغراب ; لأنّ ذلك لا يعكس حقيقة
محتوى تلك المذاهب ، نعم يمكن أنْ نقول أنّ تلك المذاهب ، استندت في أخذ السنة النبوية إلى جميع الصحابة ، باعتبار أنّهم عدول بالنسبة إليها ، في مقابل الخط الذي رأى غير ذلك ، إعتماداً على النصوص الملزمة باتّباع أئمّة أهل البيت عليهمالسلام ، وأخذ معالم دينهم عنهم ، قرآناً كان أم سنّة ، وعليه فتسمية خطٍّ ما بأنّه يمثّل السنّة النبويّة ، هو من باب التمويه والتضليل ، لأنّ الأمة قاطبة لم تختلف في وجوب الأخذ بسنّة النبي صلىاللهعليهوآله ، وإنّما وقع الاختلاف في موردها ، لذلك فإنّ الانقسام الذي وقع في تركيبة الأمّة الإسلاميّة يمكن تسميته بالتشيّع إلى هذا الطرف الذي يرى أهلية الأئمة الأطهار في قيادة الأمّة الإسلاميّة أم ذلك الطرف الذي لا يرى ذلك ، ويعتبر أنّ أيّ متصدّر للحكم أهل لذلك ، وشيعة عليّ عليهالسلام بقوا على نهجهم الذي تمسّك به من تمسّك إلى اليوم ، وشيعة معاوية وحزب الطلقاء ، لم ترق تلك التسمية لأتباعهم فيما بعد ، فاستبدلوها بعنوان أكثر جاذبيّة ، وهو اتّباع السنّة النبويّة المطهّرة ، ولا أرى عاقلاً يقول بمفارقة أهل البيت عليهمالسلام للسنّة النبويّة المطهّرة ، وهم يُمثّلون صفوة الخلق بعد النبيّ صلىاللهعليهوآله ، ولا راشداً يعتبر أنّ السنّة الصحيحة عند غيرهم.
فإمّا أنْ تكون أيّها المسلم من شيعة أهل البيت عليهمالسلام ، أو تكون من شيعة غيرهم ممّن هبّ ودبّ ، ويعني أيضاً ، إمّا أنْ تتقيّد بالنصوص الصحيحة التي وردت عن الله تعالى ورسوله صلىاللهعليهوآله ، أو أن تتّبع الوهم والهوى والنصوص المكذوبة.
وعلى ذكر النصوص المكذوبة ، فهي طافحة في كتب الخطّ السنّي منتشرة في عديد من أبواب كتبه ، وقد تفنّن حفّاظه وفقهاؤه في ذلك ، حتى أفردوا باباً مفترى سمّوه باب رضاعة الكبير ، ومن أراد أنْ يقف بنفسه على ذلك الإسفاف ، فليراجع أمّهات كتب هؤلاء ، كالصحاح ، وموطأ مالك ، وغيرها كثير.
ثمّ إنّ أصحاب تلك المذاهب قد تخلّوا عن كثير من المسائل التي أفتوا فيها ، فقالوا بخلافها دون أنْ تصل إلى الناس نقائض تلك الفتاوى ، كما صرّح بذلك السيوطي في شرح موطّأ مالك ، وكما هو الشأن كذلك بخصوص كتاب الشافعي الذي ألّفه في مصر ، فلم ير له أثر بعد ذلك ، وبقيَ فقهه الأول الذي ألّفه في العراق ، تماماً كما أُسقط فقه واجتهادات أصحاب بقيّة المذاهب ، التي اندثرت بحكم عدم مساندة الحكّام لها ، فذهبت برحيل أصحابها.
الحقيقة الماثلة بين أيدينا الآن تقول : إنّ حياة تلك المذاهب واستمرار بقائها ، ما كان له أنْ يتمّ ، لولا مساندة العباسيين والمماليك العثمانيين لها ، بينما تُرك ما لم يوافقهم في الرأي ، وحورب كلّ من وقف في وجه الظلم والتحريف ، ولم يكن هناك من يجرأ على الوقوف في وجه الظلم وأهله ، دفاعاً عن الدين ، غير أئمّة أهل البيت عليهمالسلام وشيعتهم ، الذين استبسلوا في الذود عن حياض الدين الحقّ ، وحفظه من الضياع.
وبقاء خطّ أهل البيت عليهمالسلام منذ أنْ دعا رسول الله صلىاللهعليهوآله الصحابة إلى اتّباعه من بعده ، فاستجاب لذلك ثلّة من خلّصهم كسلمان الفارسي ، وأبي ذر الغفاريّ وعمار ابن ياسر ، والمقداد بن الأسود ، وغيرهم ، من دون سند إلّا دفاع الله تعالى وإرادته في حفظ دينه ، إلى أن وصلنا اليوم غضّاً طريّاً لم تشبه شائبة بدعة أو تحريف ، دليل مادّي على أنّ هذا الخطّ هو الذي يمثّل فعلاً دين محمد صلىاللهعليهوآله ، لأنّه وصل إلينا بفضل الله ، متخطّياً عقبات جمّة ، لو وضعت واحدة منها في طريق تلك المذاهب التي تدّعي السنّة النبويّة باطلاً ، لانمحت من كتب التاريخ ، فضلاً عن استمرارها إلى اليوم.
تتلمذ أبو حنيفة ومالك بن أنس على عدد
من أجلّة العلماء ، على رأسهم الإمام أبي عبد الله جعفر بن محمد الملقب بالصادق عليهالسلام
، الذي وُلد في المدينة
المنوّرة سنة ٨٣ هجرية ، وتوفّي بها ، ودفن في مقابر الشهداء بالبقيع ، إلى جانب آبائه الإمام الحسن بن عليّ عليهالسلام ، والإمام عليّ بن الحسين عليهالسلام ، والإمام محمد بن عليّ عليهالسلام سنة ١٤٨ هجرية.
لم يتتلمذ من أئمّة المذاهب الإسلاميّة ، على يدي الإمام جعفر بن محمّد الصادق عليهالسلام ، أبو حنيفة ومالك بن أنس فقط ، بل تتلمذ عليه أيضاً سفيان الثوري ، وسفيان بن عيينة ، ومحمّد بن الحسن الشيباني ، ويحيى بن سعيد ، ومن العلماء والمحدّثين والفقهاء غيرهم ، كأبي أيوب السجستاني ، وشعبة بن الحجّاج ، وعبد الملك بن جريج ، حتّى أنّ جابر بن حيان عالم الكيمياء الشهير ، كان من تلاميذ الإمام الصادق عليهالسلام في ذلك العلم ، وبلغ مجموع تلامذة الإمام جعفر بن محمد عليهالسلام أربعة آلاف تلميذاً (١).
كان الإمام جعفر بن محمّد الصادق ، ووالده محمّد بن عليّ باقر العلوم عليهالسلام ، المؤسسين لجامعة العلوم الإسلامية ، التي تخرّج منها آلاف العلماء الأجلّاء في شتّى العلوم ، في عصر استفحلت فيه عقائد غريبة على الإسلام ، وظهرت وسط الأمّة فرق تأسّست أفكارها من أجل إبعاد المسلمين عن نبع أهل البيت الصافي ، وصرفهم عن معين دين النبيّ الخاتم صلىاللهعليهوآله ، فتصدى هو ووالده عليهماالسلام إلى ذلك التحريف لإبطاله ، وتفنيد مزاعم التحريفيين في العقائد الإسلاميّة ، على خطى آبائهم وأجدادهم في الذبّ عن الدين ، والدفاع عن بيضته ، ممّا جعلهم عرضة للاضطهاد والتنكيل والقتل ، من طرف طواغيت أزمنتهم من الأمويين والعباسيين ، الذين كانوا يقفون وراء جلّ محاولات التحريف ، والبدع التي ألصقت بالدين.
وقد سجّل المؤرخون مواقف أئمة أهل البيت عليهمالسلام ، وتصدّيهم لإزالة الشوائب التي علقت بالدين ، أقتصر منها على ما نقل عن الإمام الصادق عليهالسلام ، سادس أئمة
_________________
(١) الإرشاد للمفيد ٢ : ١٧٩.
أهل البيت عليهمالسلام ، الذين أذهب الله تعالى عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً ، أقدّمه ليكون دليلاً على أعلميّة هؤلاء الأطهار ، وسعة معارفهم ، وقدرتهم على الإمساك بأزّمة الدين وعلومه.
كان للإمام جعفر بن محمّد الصادق موقف جاد وصارم من أبي حنيفة النعمان ، عندما بلغه أنّ الرجل يستعمل القياس برأيه ، ففي رواية أنّه قال لأبي حنيفة لمّا دخل عليه : « من أنت ؟ »
قال : أبو حنيفة.
قال : مفتي أهل العراق ؟
قال : نعم.
قال : بمَ تفتيهم ؟
قال : بكتاب الله.
قال : وإنّك لعالم بكتاب الله ، ناسخه ومنسوخه ، ومحكمه ومتشابهه ؟
قال : نعم.
قال : فأخبرني عن قول الله عز وجل : ( وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ ) (١) أي موضع هو ؟
قال أبو حنيفة : هو ما بين مكّة والمدينة. فالتفت أبو عبد الله عليهالسلام إلى جلسائه وقال : نشدتكم بالله هل تسيرون بين مكة والمدينة ولا تأمنون على دمائكم من القتل ، وعلى أموالكم من السرقة ؟
فقالوا : اللهم نعم.
فقال أبو عبد الله : ويحك يا أبا حنيفة ! إنّ الله لا يقول إلّا حقّاً ، أخبرني عن قول الله عزّ وجلّ : ( وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا ). أي موضع هو ؟
_________________
(١) سبأ : ١٨.
قال : ذلك بيت الله الحرام.
فالتفت أبو عبد الله إلى جلسائه وقال : نشدتكم بالله هل تعلمون إنّ عبد الله بن الزبير ، وسعيد بن جبير دخلاه فلم يأمنا القتل ؟
قالوا : اللهم نعم.
فقال أبو عبد الله عليهالسلام : ويحك يا أبا حنيفة ! إنّ الله لا يقول إلّا حقاً.
فقال أبو حنيفة : ليس لي علم بكتاب الله ، إنّما أنا صاحب قياس.
قال أبو عبد الله عليهالسلام : فانظر في قياسك إنْ كنت مقيساً ، أيّما أعظم عند الله القتل أم الزنا ؟
قال : بل القتل.
قال عليهالسلام : فكيف رضي في القتل بشاهدين ، ولم يرضَ في الزنا إلّا بأربعة ؟ ، ثمّ قال عليهالسلام : الصلاة أفضل أم الصيام ؟
قال : بل الصلاة أفضل. قال عليهالسلام : فيجب على قياس قولك على الحائض ، قضاء ما فاتها من الصلاة في حال حيضها دون الصيام ، وقد أوجب الله تعالى عليها قضاء الصوم دون الصلاة.
قال له عليهالسلام : البول أقذر أم المني ؟
قال : البول أقذر.
قال عليهالسلام : يجب على قياسك ، أنْ يجب الغسل من البول دون المني ، وقد أوجب الله تعالى الغسل من المني دون البول.
قال : إنّما أنا صاحب رأي.
قال عليهالسلام
: فما ترى في رجل كان له عبد ، فتزوّج وزوّج عبده في ليلة واحدة ، فدخلا بامرأتيهما في ليلة واحدة ، ثم سافرا وجعلا امرأتيهما في بيت واحد ، وولدتا غلامين ، فسقط البيت عليهم ، فقتل المرأتين ، وبقي الغلامان ، أيّهما في
رأيك المالك والمملوك ، وأيّهما الوارث والموروث ؟
قال أبو حنيفة : إنمّا أنا صاحب حدود.
قال عليهالسلام : فما ترى في رجل أعمى فقأ عين صحيح ، وأقطع قطع يد رجل ، كيف يقام عليهما الحدّ ؟
قال أبو حنيفة : إنّما أنا رجل عالم بمباعث الأنبياء. قال عليه السلام : فأخبرني عن قول الله لموسى وهارون حين بعثهما إلى فرعون : ( لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَىٰ ) (١) ولعلّ منك شكّ ؟
قال : نعم.
قال عليهالسلام : وكذلك من الله شكّ إذ قال : لعلّه ؟
قال أبو حنيفة : لا علم لي.
قال عليهالسلام : تزعم أنّك تفتي بكتاب الله ، ولست ممّن ورثه ، وتزعم أنّك صاحب قياس ، واول من قاس إبليس لعنه الله إذ قال ( خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ ) (٢) ولم يبنَ دين الإسلام على القياس ، وتزعم أنّك صاحب رأي ، وكان الرأي من رسول الله صواباً ، ومن دونه خطأ ; لأنّ الله تعالى قال : ( لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ ) (٣) ولم يقل ذلك لغيره ، وتزعم أنّك صاحب حدود ، ومن أنزلت عليه أولى بعلمها منك ، وتزعم أنك عالم بمباعث الأنبياء ، وخاتم الأنبياء أعلم بمباعثهم منك ، ولولا أن يقال : دخل على ابن رسول الله فلم يسأله عن شي ، ما سألتك عن شي ، فقس إنْ كنت مقيسا.
قال أبو حنيفة : لا أتكلم بالرأي والقياس في دين الله بعد هذا المجلس.
_________________
(١) طه : ٤٤.
(٢) الأعراف : ١٢.
(٣) النساء : ١٠٥.
قال عليهالسلام : كلاّ ، إنّ حبّ الرياسة غير تاركك ، كما لم يترك من كان قبلك » (١).
ولم يرَ خطّ من الخطوط المدعيّة للإسلام حاثّا لأتباعه على ربط العلم بالعمل وبذل الجهد من أجل إعلاء كلمة الله ، وفداء الإسلام العظيم بالنفس والمال والولد ، غير خطّ التشيّع لأهل البيت عليهمالسلام ، فكانوا تبعاً لائمتهم أمثلة تضرب ، ونماذج معبّرة عن الإسلام الصافي ، يحتذي بها من يريد النجاة في الدارين ..
قال الإمام الصادق عليهالسلام : « عليكم بتقوى الله ، والورع والاجتهاد ، وصدق الحديث ، وأداء الأمانة ، وحسن الخلق وحسن الجوار ، وكونوا دعاة إلى انفسكم بغير ألسنتكم » (٢).
من البديهي على المسلمين الواعين ، أنْ لا يتقبلوا كلّ ما جاء من تلك العصور ، إلّا بعد فحص وتمييز ، لأنّ أغلب ما كتب فيها كان بإيعاز من أنظمة شهد لها التاريخ بالدموية والظلم والبعد عن الدين ، والتكالب على الشهوات والدنيا ، وعليه ، فمن الواجب أنْ ننبّه بقيّة المسلمين إلى ما ألقي إلينا خلال تلك الفترات ، ليحذروا من الانسياق وراء تبعاته. والمحتاط لدينه اليوم ، حرصاً على النجاة من عقاب الله تعالى ، وسعياً من أجل نيل رضاه ودخول جنّة الخلد التي وعدها الله سبحانه وتعالى عباده المتقين ، يستطيع أنْ يميّز بسهولة كما استطعت أنا أن أعرف طريقي فشققته قرير العين ، متيقناً من امتلاكي للوسيلة التي ستقرّبني من الله سبحانه ، وهي أنّ جميع الفرق التي تدّعي الإسلام ، منقطعة عن العصر النبويّ انقطاعاً واضحاً ، باستثناء فرقة واحدة ، هي الشيعة الاماميّة الاثني عشريّة ، لاعتقادهم ، واقتدائهم ، وطاعتهم لائمتهم المتصلين بالنبيّ صلىاللهعليهوآله اتصالا وثيقاً ، بدأ من الإمام عليّ بن أبي طالب عليهالسلام ، أوّل أئمة الهدى الذين نصّ عليهم الله جلّ
_________________
(١) الاحتجاج للطبرسي ٢ : ١١٥ ـ ١١٧.
(٢) المحاسن للبرقي : ١ / ١٨ وانظر الحديث في الكافي ٢ / ٧٧.
جلاله ، ورسوله صلىاللهعليهوآله ، وانتهاء بالإمام الثاني عشر عليهالسلام وسفرائه الكرام ، ممّا جعل شيعتهم على مدى ثلاثة قرون في مأمن الكذب والوضع ، الذي استفحل منذ وفاة النبي صلىاللهعليهوآله ، وقبل نشوء تلك الفرق والمذاهب ، وقد شهد المخالف والموالف لأئمة أهل البيت عليهمالسلام بالصدق والتقوى والورع ، وقد أسّس الأئمة الأطهار قاعدة الاجتهاد في الفقه ، وشجّعوا تلامذتهم الذين بلغوا درجته على استنباط تلك الأحكام ، تمكيناً للمسلمين من العمل بمقتضى تلك الفتاوى ، واستجابة لمقتضى تطوّر العصر والحاجة إلى رفع أيّ إشكال فيه على المسلمين.
ووقف العلماء الأعلام بعد ذلك ، وأخذوا المشعل في قيادة المسلمين الشيعة ، وإرشادهم وبثّهم تعاليم الإسلام الصحيح ، الذي لم تدنّسه أيدي الظالمين والمحرّفين ، فهم إلى الآن يعتبرون العمل بموجب الرسائل العملية للمراجع العظام ، واجب لا بديل عنه ومبرىء للذمّة ، والمتعبّد عندهم بغير فقه كحمار الطاحونة ، طبقا لحديث الإمام عليّ بن أبي طالب عليهالسلام (١).
لذلك لم أتردّد في أنْ أعلن تشيّعي لأهل البيت عليهمالسلام في مجتمعي وعلى الملأ من الخاصّ والعامّ ، معتزّاً بذلك ، آملاً أنْ يلتفت بقيّة المسلمين إلى حقيقة أئمّة أهل البيت عليهمالسلام ، فيعودون إليهم باعتبارهم ولاة أمورهم في الدنيا والآخرة ، والحمد لله على نعمة الهداية أولا وآخراً.
_________________
(١) الاختصاص للمفيد : ٢٤٥.
الحلقة السابعة عشر
رزيّة الخميس هي التي شيّعتني
أمّا نبيل ، فقال : كنت في ما مضى ميّالاً للتصوّف ، توّاقاً للعزلة هربا من انحرافات المجتمع ، متوقّياً بذلك من الانسياق وراءها ، وتحمّل تبعاتها ، لكنّني بقدر ما تميزت الأجواء التي عشت فيها بروحيّة عالية ، لم أكن أعرفها من قبل ، بقدر ما شعرت بأنّ هنالك حلقة مفقودة في التصوّف حتّمت عليّ عدم الاطمئنان إلى ذلك المنهج ، الأمر الذي دفعني إلى البحث من جديد عن الطريق الذي يمثّل الإسلام الذي جاء به النبيّ الخاتم صلىاللهعليهوآله ، والذي يشكّل سبيل التواصل مع الله سبحانه وتعالى ، لكنّني وبكلّ أسف لم أهتد إلى حل يُسكن الطمأنينة في قلبي.
ومرّت الأيّام ، وأنا على حال من الحيرة والقلق ، إلى أن قيض الله لي رجلاً في زمن قلّ فيه الرجال وكثُر أشباههم ، قلب كياني ، وغيّر مجرى حياتي تغييراً هاما ، أوقفني على تلة الحقيقة ، وأوردني مشرباً رويّاً ، ملأتُ منه حافظتي ، وجمعتُ من خيره العميم ما يمكن أنْ يقيني سرابيل الذلّ بقيّة عمري ، ويكون لي سبباً من أسباب الفوز يوم تبيضّ فيه وجوه وتسوّد وجوه.
منذ اللقاء الأوّل مع ذلك الشخص ، اكتشفت أنّني لا أملك إلّا بعض مظاهر الدين وشكليّاته ، ولا أملك لها عمقاً في وجداني ، وأحسست بضآلتي أمام جبل من القرائن والحجج التي كان يستدلُّ بها ذلك الصديق ، وبقدر ما كان يتملكني الاستغراب ، وتأخذني الحيرة ممّا كان يلقيه إلي الرجل ، بقدر ما كنت أشعر بأنْ هناك نفس جديد يختلجني ، وإحساس بالوعي يأخذ محلّ الغفلة التي كانت تحاصرني ، كما كانت تحاصر الغالبيّة العظمى من المسلمين.
ولعلّ الذي حسم النزاع في نهاية المطاف ، حبي للنبيّ صلىاللهعليهوآله ، ومودّتي لأهل بيته الطاهرين ، فقد جاءني ذات يوم وابتدرني قائلاً : « ماذا يمثّل النبيّ صلىاللهعليهوآله بالنسبة إليك ؟ »
فقلت له : « إنّه خاتم الأنبياء والمرسلين صلىاللهعليهوآله ، به بدأ المولى تعالى الخلق وبه اختتم شرائعه ، وهو فوق ذلك كلّه حبيب الرحمان ، متميّزاً على جدّه إبراهيم الخليل عليهالسلام ، ليس في الخلق من هو أفضل ولا اقرب ولا أرفع منه ».
فقال لي : « إذاً ، أنت من المقرين بفضله ومنزلته عند الله سبحانه وتعالى ».
فقلت له : « أفي ذلك شك ؟ »
فقال : « أنا لا أشكّ في عقيدتك ، وصدق مشاعرك نحو النبيّ الأعظم صلىاللهعليهوآله ، ولكنّني لا أرى لذلك الحبّ أثرا عليك ».
فقلت له : « وكيف ترى يكون الأثر ؟ »
فقال : « أثر ذلك يكمن في اتّباعك ومحبّتك وولائك له ، وغيرتك عليه ، فقد قرن الله سبحانه وتعالى محبّته باتّباع الرسول صلىاللهعليهوآله ، في قوله جلّ من قائل : ( قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ ) (١) وجعل طاعة الرسول صلىاللهعليهوآله طاعته ، ومعصية الرسول صلىاللهعليهوآله معصيته ، في قوله : ( مَّن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ ) (٢) وقال أيضا : ( فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) (٣) وحدّد جملة من التصرفات السيّئة ، واعتبرها سلبيّة ، وسبباً في إحباط الأعمال ، ناهياً عن الإتيان بها ومشدّداً على ذلك في قوله تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا
_________________
(١) آل عمران : ٣١.
(٢) النساء : ٨٠.
(٣) النور : ٦٣.
تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ * إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَىٰ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ * إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ ) (١).
ومع ذلك فقد صدر عن ذلك الجيل المعاصر للنبيّ صلىاللهعليهوآله ، والمعبر عنه بالصحابة ، ما أفاد بأنّ منهم من لم يستوعب الأمر ، ولم يأخذ بالنصيحة ، مظهراً موقفاً دلّ على جاهلية لم تغادر صاحبها ، وجهل بأبسط القيم التي جاء بها الدين الحنيف ، حيث تطاول منهم من تطاول على مقام النبيّ صلىاللهعليهوآله ، إلى درجة تجاهله وإلغاء دوره ».
فقلت له : أعتقد أنّك تتحدّث عن فئة المنافقين الذين كانوا يتربّصون برسول الله صلىاللهعليهوآله وبدينه الخاتم ، هؤلاء الناس قد كشف الوحي عوراتهم ، وأزاح الستر الذي كانوا يختبئون وراءه ».
فقال لي : « لكن هل تعرف منهم أكثر من واحد؟ وقد أرجف منهم بالنبيّ صلىاللهعليهوآله عدد كثير ، لماذا أهملت أسماء هؤلاء على خطورة ما يقدمون عليه ويسعون لتحقيقه ، وهو محق الدين ، وقتل النبيّ صلىاللهعليهوآله ، ثمّ إنّ هؤلاء الذين كانوا من جيل النبيّ صلىاللهعليهوآله ، عاشوا معه في المدينة وما حولها ، ذهبوا معه وسافروا وحاربوا ، وحادثوه وسمعوا منه ، وشهدوا أنّه رسول الله ، ودخلوا في دين الله ، ماذا نسميهم ؟ أليسوا صحابة هم أيضا ، ألم يتطاول منهم من تطاول ، وعُرض على النبي صلىاللهعليهوآله قتله فقال صلىاللهعليهوآله : « لا دعه ، لا يتحدث الناس أنّ محمّداً يقتل أصحابه » (٢). لذا يجب أن يفهم المسلمون أن الصحابة جيل النبي صلىاللهعليهوآله ، لا يختلف في شي عن بقية أجيال المسلمين.
_________________
(١) الحجرات : ١ ـ ٤.
(٢) صحيح البخاري ٦ : ٦٦ ، ٦٧ ، صحيح مسلم ٨ : ١٩.
قلت : « نحن لا نعرف أكثر من ابن أبي سلول ، وقد لا يتجاوز المعروفين منهم عدد أصابع اليدين ».
فقال : « تلك نقطة يجب التنبّه إليها ، لأنّ الذي أراد أنْ يعفو آثار المنافقين وحزبهم الخطير ، كان يقصد التستر على أسماء لا يروق لأتباعها أنْ ينكشف حالهم ، ويظهروا على حقيقتهم ، فمثلاً لو أنّ شخصاً كأبيك أو أخيك أو جدّك كان يعيش مع النبيّ صلىاللهعليهوآله ، ثمّ صدر منه موقف فيه تطاول عليه صلىاللهعليهوآله ، وجرأة على مقامه الشريف ، ماذا يكون موقفك منه ؟
فقالت : « أراجعه ، فإنْ أبى فإنّني أتبرأ منه على الملأ ، معتبراً إيّاه ممّن حادّ الله ورسوله ، وأعتذر لرسول الله صلىاللهعليهوآله مما صدر منه ».
قال : « إذاً ، فماذا تقول في صحابيّ ، قُدّم لنا على أساس أنّه صاحب النبيّ صلىاللهعليهوآله المقرب ، وقد وقف في حجرة رسول الله صلىاللهعليهوآله أربعة أيام قبل وفاته ، ليتجرّأ عليه في بيته ، ويمنعه من كتابة وصيته ، وينعته بالهجر والهذيان ».
قلت له : « ماذا تقول يا رجل ؟ وهل يعقل أن يصدر مثل ذلك الموقف من أناس هم أقرب إلى النبيّ صلىاللهعليهوآله من غيرهم ، وقد سبقونا إلى الإيمان بالإسلام واتّباع النبيّ صلىاللهعليهوآله ، أنا لا أتصور حدوث ذلك ، اللهمّ إلّا إذا كانت الروايات متّفق على صحّتها ، وأخرجها أصحاب الصحاح ».
فقال : « إنّ القرب من النبيّ صلىاللهعليهوآله والبعد عنه ،
يتجسدان في طاعته والامتثال لأمره ، أو معصيته ومخالفته ، وذلك ليس محكوماً باسم أو صفة ميّزت هذا الصحابي عن ذاك ، ناهيك أنّ الصحابة رضوان الله تعالى على أخيارهم ، لا يتميّزون عنّا في شي من فرص التكافؤ التي جعلها الله متاحة للجميع ، بل لقد ذمّ كتاب الله عدداً منهم ، واستثنى النبيّ ذلك العدد من رحمة الله في أحاديث الحوض التي استحضر منها قول النبيّ صلىاللهعليهوآله
الذي أخرجه البخاري وغيره : « ... وإنّ أناساً
من أصحابي يؤخذ بهم ذات الشمال فأقول. أصحابي أصحابي. فيقول : إنّهم لم يزالوا مرتدّين على أعقابهم منذ فارقتهم ... » (١).
أمّا السبق والاتّباع ، فإنّه ليس محدّداً بزمن أو محصوراً في جيل من الأجيال ، لأنّ الله سبحانه وتعالى قد عدل بين الناس أمام طاعته وأعطاهم الفرص متكافئة.
وقد جاء ذكر المتأخرين من المسلمين عن ذلك العصر ، على لسان النبيّ الأكرم صلىاللهعليهوآله ، بأنّهم أفضل أهل الإيمان إمكاناً (٢) فإنّهم سيؤمنون به بمجرد الاطلاع على حقيقة بعثته ، دون حاجة إلى مشاهدة معجزاته ، ولا حضور شخصه ، ورؤية صفاته.
أمّا من جهة إخراج الرواية فقد اتفق الجميع على صحّتها والاعتراف بمضمونها ، بدون أدنى حرج.
قلت له : « فما هي الحادثة ، ومن هو ذلك الصحابي ، وفي أي الكتب أخرجت ؟ »
فقال : « أخرج البخاري ومسلم وغيرهما بأسانيدهم عن ابن عباس أنّه قال : يوم الخميس وما يوم الخميس ؟ ثمّ بكى حتّى خضّب دمعه الحصباء ، فقال : اشتدّ برسول الله صلىاللهعليهوآله وجعه يوم الخميس ، فقال : إئتوني بكتاب ، أكتب لكم كتاباً لن تضلّوا بعده أبداً ، فتنازعوا ولا ينبغي عند نبيّ تنازع ، فقالوا : هجر رسول الله صلىاللهعليهوآله. ( وفي رواية أخرى فقالوا : ما شأنه أهجر استفهموه ؟ فذهبوا يردون عليه ) قال : دعوني فالذي أنا فيه خير ممّا تدعوني إليه » (٣).
_________________
(١) صحيح البخاري ٤ : ١١٠.
(٢) انظر المستدرك على الصحيحين ٤ : ٨٦ ، وتاريخ دمشق ٢٣ : ٣٢١ بلفظ آخر.
(٣) صحيح البخاري ٤ : ٣١ ، (٦٥) ٦٦ و ٥ : ١٣٧ ، صحيح مسلم ٥ : ٧٥ ، ٧٦.
فقلت له : « الحادثة في منتهى الفظاعة والتجنّي على النبيّ صلىاللهعليهوآله ، لكنّها لم تفصح عن الجاني ، ولا أخبرت عن الجماعة التي كانت تقف معه ذلك الموقف وتسانده ».
قال : « الرواية الثانية هي التي فضحت الجاني وكشفت شخصه ، عندما عمد من عمد إلى التخفيف من حدّة الألفاظ التي أطلقها ، واستبدالها بألفاظ تخفّف من الوزر الذي لحق به ».
أخرج البخاري بسنده عن ابن عباس قال : « لمّا حضر النبيّ صلىاللهعليهوآله وفي البيت رجال فيهم عمر بن الخطاب ، قال : هلمّ أكتب لكم كتاباً لن تضلّوا بعده ، قال عمر : إنّ النبيّ صلىاللهعليهوآله غلبه الوجع وعندكم القرآن فحسبنا كتاب الله ، واختلف أهل البيت واختصموا ، فمنهم من يقول : قرّبوا يكتب لكم رسول الله صلىاللهعليهوآله كتاباً لن تضلّوا بعده ، ومنهم من يقول ما قال عمر ، فلمّا أكثروا اللغط والاختلاف عند النبيّ صلىاللهعليهوآله قال : قوموا عنّي. قال عبيد الله : « فكان ابن عباس يقول : إنّ الرزيّة كلّ الرزيّة ما حال بين رسول الله صلىاللهعليهوآله وبين أنْ يكتب لهم ذلك الكتاب من اختلافهم ولغطهم » (١).
وتبين أنّ الذي وقف في وجه النبيّ صلىاللهعليهوآله ليمنعه من إنفاذ أمره في كتابة وصيته ، ليس إلّا عمر بن الخطاب ، وقد أجمع الرواة والمحدّثون وأصحاب السيّر والمؤرخون جميعاً على الإقرار بصحّة وقوع ذلك ، غير أنّهم التمسوا له العذر في موقفه ، معلّلين بأنّه لم يكن قاصداً أذيّة النبيّ صلىاللهعليهوآله ، ولا التعرّض له ، فطبعُ الرجل عندهم دائماً ميّالاً إلى الغلظة والتحرّش والاستفزاز ، وقد ظهرت منه قبل ذلك مواقف طواها الزمن في سجلّه الحافل بالتجاوزات.
قلت له : لكن لماذا وقف عمر ذلك الموقف الغريب ؟ »
_________________
(١) صحيح البخاري ٨ : ١٦١ ، صحيح مسلم ٥ : ٧٦.
قال : قبل أنْ تسأل عن ذلك ، وجب عليك أن تلتفت إلى أنّ مكان عمر ، ما كان له أن يكون في بيت النبيّ صلىاللهعليهوآله ، لولا تمرّده عن الخروج مع أسامة بن زيد ، في الجيش الذي بعثه النبيّ صلىاللهعليهوآله لقتال الروم ، والذي عسكر في الجرف قرب المدينة استعداداً للرحيل ، وكان قائده أسامة يحاول جمع عناصره التي كانت تأبى عليه ذلك ، بعد المعارضة التي ظهرت إثر تعيينه ، استخفافاً بشخصه واستنقاصا له ، وعصياناً لأمر النبيّ صلىاللهعليهوآله.
قلت له : « وهل كان عمر ضمن الأفراد الذين عيّنهم النبيّ صلىاللهعليهوآله ، ليكونوا تحت إمرة أسامة بن زيد ، ثمّ كان من المعارضين لتعيين أسامة ؟ »
قال : « نعم ، لقد صرّح بذلك أغلب أصحاب السيّر والتاريخ ، ذاكرين عدداً من الصحابة الذين نصّ عليهم النبيّ صلىاللهعليهوآله ، ليكونوا ضمن تعداد ذلك الجيش ، منهم : أبو بكر وعمر وأبو عبيدة (١) ، وليست المرّة الأولى التي يكون فيها عمر جنديّاً تحت إمرة غيره ، ففي غزوة ذات السلاسل كان تحت إمرة عمرو بن العاص (٢) ، وفي خيبر كان تحت إمرة الإمام عليّ عليهالسلام ، وقد رجع قبل ذلك يجبّن أصحابه ، وأصحابه يجبّنونه » (٣).
أمّا فيما يخصّ معارضته لتعيين أسامة ، فليس أدلّ على ذلك ، من تحمّله مسؤولية نقل ذلك إلى الخليفة الأوّل عندما طلب منه استبدال أسامة بقائد آخر ، ولو كان الرجل يقدّر المسألة ، لما اندفع في غمارها يطلب بدلاً عن تعيين النبيّ صلىاللهعليهوآله (٤). قلت : « لكن لماذا يُقدم صحابي بذلك المقام على معصية النبيّ صلىاللهعليهوآله » ؟
_________________
(١) فتح الباري ٨ : ١١٥ ، الكامل في التاريخ ٢ : ٣١٧.
(٢) المصدر نفسه ٢ : ٢٣٢.
(٣) انظر المصنّف لابن أبي شيبة ٨ : ٥٢١ ، المستدرك على الصحيحين ٣ : ٣٨.
(٤) الكامل في التاريخ ٢ : ٣٣٥.
قال : « لقد تعلّق الأمر بالحكومة الإسلاميّة ، ومن سيتولّاها بعد النبيّ صلىاللهعليهوآله ، فحديث الثقلين (١) الذي سبق لرسول الله صلىاللهعليهوآله إذاعته في الناس ، قد أشار إلى أنّ العاصم من الضلال ، ليس إلّا التمسّك بكتاب الله ، والعترة الطاهرة من بيت النبيّ صلىاللهعليهوآله ، فهما الثقلان اللذان يمتلكان مُقوّمات بناء الأمّة ، وظاهر الحديث يدلّ على أن القرآن لا يمكن أنْ يكون إلّا عند الذين أذهب الله تعالى عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا ، لأنّهم الناطقون عنه صدقاً وعدلاً ، ولا يستطيع أحد غيرهم بعد النبيّ صلىاللهعليهوآله سبر غوره ، وتفسير رموزه ، وفكّ غموض متشابهه ، والتفريق بين منسوخه وناسخه ، غير الصفوة الطاهرة عليهاالسلام ، وقد أشار سبحانه وتعالى إلى ذلك في سورة الواقعة فقال : ( لَّا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ ) (٢). بمعنى لا يستطيع إدراك حقائقه ، والتمكّن من فهمه الفهم المطابق للمقصد ، غير الذين وقع تطهيرهم ، ليقوموا بذلك الدور ، ولم يقع تطهير من المولى سبحانه وتعالى في هذه الأمّة سوى أهل بيت النبي صلىاللهعليهوآله ، قال تعالى : ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ) (٣) كما لم يدّع أحد اختصاصهم بالآية ودخولهم فيها غيرهم ، وقد قال تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ ) (٤) ، وقد علمنا أنّ الصدق في الناس نسبيّ ، وفيهم كامل ، فليس هناك من هم أصدق منهم قولاً وفعلاً ، وسيرتهم تشهد لهم بذلك ، وقد التفت عمر وجماعته إلى الغاية من إرسالهم إلى حرب الروم ، وصرفهم عن المدينة ، وفهموا أنّ النبيّ صلىاللهعليهوآله كان يرغب في تسليم عليّ عليهالسلام لقيادة الأمّة في أجواء خالية من هؤلاء الطامعين ، بعد أنْ عقد له زمامها في منصرفه من حجّة الوداع عند غدير خمّ ، حينما قال :
_________________
(١) تقدم الكلام عن حديث الثقلين في حلقة سابقة.
(٢) الواقعة : ٧٩.
(٣) الأحزاب : ٣٣.
(٤) التوبة : ١١٩
« ... فمن كنت مولاه فعلي مولاه ... » (١) وقد كان عمر من أوّل المهنئين لعليّ بالولاية قائلاً : بخ بخ لك يابن أبي طالب ، أصبحت مولاي ومولى كلّ مسلم » (٢).
قلت له : « ولكن هل يعقل أنْ يصدر من عمر ذلك الموقف ، وهو الذي جاءت الروايات معظّمة له ، وقد وضعته في مقام الذي لا غنى للنبيّ صلىاللهعليهوآله عنه ، بل وأكثر من ذلك ، فقد نزل القرآن موافقاً لرأي عمر في عدّة آيات ؟ »
قال : « لقد صدر من عمر مواقف أخرى قبل ذلك ، فيها جرأة وتطاول على النبيّ ، يدلّان على جاهليّة وجهالة لم تفارقا الرجل منذ أسلم.
فقد اعترض النبيّ صلىاللهعليهوآله وجذبه من ثوبه ، ليمنعه من الصلاة على ابن أبي سلول (٣) ، وفي صلح الحديبية عندما إشتدّ في المعارضة ، إلى أنْ استعاذ منه النبيّ صلىاللهعليهوآله (٤) ، وأعتقد جازما أنّ ما أهمله المؤرخون ، وغطّاه الطلقاء ، الذين مهّد لهم عمر سبيل السلطة ، من تجاوزاته وجناياته بحقّ النبيّ صلىاللهعليهوآله والإسلام ، أكثر من أن تحصى ، حتّى أنّ السيوطي أفرد باباً في تاريخ الخلفاء سمّاه أوليّات عمر ، تخفيفا لجرمه بحق الله ورسوله صلىاللهعليهوآله.
أمّا قولك بأنّ القرآن نزل موافقا لرأي عمر ، فذلك ما لم يثبت فيه نص مطلقاً ، وكلّ ما كتب في ذلك المعنى ، كان بأيد بعيدة عن الدين والعلم والأمانة ».
قلت : « لكنّ عقيدتي في أصحاب النبيّ صلىاللهعليهوآله تأبى علي قبول كلامك ؟ »
فقال : « لقد بنيت عقيدتكم على قبول الطعن والنقيصة في النبيّ صلىاللهعليهوآله ، وعدم قبولها في أبي بكر وعمر وعثمان ، ورفعتم من مقام هؤلاء ، ووضعتم من مقام رسول الله صلىاللهعليهوآله ، وأهل بيته الكرام ، هذا للأسف الشديد ما نجح فيه معاوية وبنو
_________________
(١) تقدم الكلام عن حديث الغدير في حلقة سابقة.
(٢) مسند أحمد ٤ : ٢٨١ ، تاريخ بغداد ٨ : ٢٨٤ ، واللفظ للأخير.
(٣) صحيح البخاري ٢ : ٧٦ و ٥ : ٢٠٦ ، صحيح مسلم ٧ : ١١٦.
(٤) السيرة الحلبية ٢ : ٧٠٦ ، انظر صحيح البخاري ٣ : ١٨٢.
أميّة وعامّة حزب الطلقاء لعنهم الله ، واستطاعوا بدهائهم وخبثهم وأكاذيبهم ، أنْ يجعلوا من الصحابة بديلاً عن عليّ وأهل بيته عليهمالسلام ، فشجّعوا على الافتراء على النبيّ صلىاللهعليهوآله ، ووضع الأحاديث الممجّدة والمقدّسة لعدد من الصحابة ، وبذلك جعلوا منهم رمز الإسلام ، فتكوّنت عقيدة تنزيه جميع الصحابة برّاً كان أم فاجراً ، مؤمناً كان أم منافقاً ، ورُفع جميعهم إلى مستوى العدالة ، بل اعُتبروا من الذين لا يُخطئون أبداً ، وقُدّم منهم مَن قُدّم حتّى على النبيّ صلىاللهعليهوآله ، في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، كأحاديث الدف (١) والمزمار (٢) ، وقدّموا من قدّموا حياءه على حياء النبيّ صلىاللهعليهوآله ، بل إنّ النبيّ صلىاللهعليهوآله لا يستحي إلّا بحيائه (٣) ، وقبلوا صدور ذنب العبوس والتولي من النبي صلىاللهعليهوآله (٤) ، ولم يقبلوه من صحابي ، وردّوا ذلك ، ودافعوا عنه دفاع المستميت.
_________________
(١) سنن الترمذي ٥ : ٢٨٤.
إشارة إلى ما أخرجه الترمذي من حديث الجارية التي نذرت أنْ تضرب بالدفّ بين يدي رسول الله صلىاللهعليهوآله إنْ أرجعه الله سالماً ، فوافقها رسول الله على ذلك النذر ، وأخذت تضرب بالدفّ أمام النبيّ صلىاللهعليهوآله ولم ينهها عن ذلك ، ثمّ دخل أبو بكر ومن بعده عليّ ثمّ عثمان وهي تضرب ولا تبالي ثمّ تقول الرواية : « ثمّ دخل عمر ، فألقت الدف تحت أستها ، ثمّ قعدت عليه ، فقال رسول الله صلىاللهعليهوآله : إنّ الشيطان ليخاف منك يا عمر ... » ، قال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح. ( سنن الترمذي ٥ : ٢٨٤ ) ، إذن فالشيطان يخشى من عمر ولا يخشى من النبي صلىاللهعليهوآله ، والجارية خشيت من عمر ولم تخش من الرسول ، فالرسول يعمل الحرام وعمر يرفض ذلك ولاحول ولا قوّة إلّا بالله العليّ العظيم.
(٢) صحيح مسلم ٣ : ٢١.
أخرج مسلم وغيره عن عائشة قالت : « دخل عليّ أبو بكر وعندي جاريتان من جواري الأنصار تغنيّان بما تقاولت به الأنصار يوم بعاث ، قالت وليستا بمغنيتين ، فقال أبو بكر : أمزمور الشيطان في بيت رسول الله صلىاللهعليهوآله ، وذلك في يوم عيد ، فقال رسول الله صلىاللهعليهوآله : يا أبا بكر ، إنّ لكلّ قوم عيد وهذا عيدنا » ، صحيح مسلم ٣ : ٢١.
وفي صحيح البخاري ( ٢ : ٣ ) بلفظ : « أمزامير الشيطان في بيت رسول الله » فأبوبكر ينهى عن مزامير الشيطان ، بينما رسول الله صلىاللهعليهوآله يقرّها.
(٣) المعجم الكبير ١١ : ٢٠٣.
(٤) سنن الترمذي ٥ : ١٠٣ ، المستدرك ٢ : ٥١٤ ، والمسألة محلّ إجماع بين مفسّريهم ، انظر تفسير الفخر الرازي مجلد ١١ ، ج ٣١ ، ص ٥٥.
وقد ترسّخت عقيدة تقديس الصحابة وتقديمهم بدلاً عن أهل البيت عليهمالسلام ، إلى درجة صعب معها مراجعة أكثر هؤلاء المقدّسين ، بسبب طول المدّة التي ظلّت فيها أجيالهم عاكفة على تلك الحالة ، فالعقبة إذاً ، هي في ركام تلك القرون وليس في محتواه ، لأنّ المحتوى لا يستند إلى أساس يعتمد عليه ».
قلت له : « إنّني أرى أنّ الإسلام بما حواه من عقيدة وشريعة ، قرآناً وسنّة نبوية وتاريخاً وسيرة ، لو لم يحمله الصحابة علماً وعملاً وجهاداً لما وصل إلينا منه شيء ».
قال : « إنّ هذا الدور الذي نسبته للصحابة ليس إلا لعليّ والأئمة من ذريته عليهمالسلام ، فدور الحفظ والهداية مناط بهم ، والنصوص تشهد لهم بذلك ، واستقامتهم في تطبيق الإسلام علوما وأخلاقا غير خافية أيضا ، وهذا تراثهم قائم بذاته ، قد ظهرت آثاره واضحة للعيان ، وقد سجّل التاريخ تصدّيهم للذبّ عن الدين بما مكّنهم الله سبحانه وتعالى من معارف وعلوم ، بينما ظهر احتياج الصحابة وغيرهم من الأجيال الإسلامية إليهم ، وقد سُئل الخليل بن أحمد الفراهيدي ، ما الدليل على إمامة علي عليهالسلام ، فقال : « احتياج الكل إليه واستغناؤه عن الكلّ » (١) ، وظهر من عليّ عليهالسلام نفسه قوله المتكرر : « سلوني قبل أن تفقدوني » (٢) ». وقد اشتهر بين الحفاظ مقالة عمر نفسه : « لولا علي لهلك عمر » (٣).
قلت له : فهل يمكنك أنْ تقدّم لي الدليل على أحقيّة أهل البيت عليهمالسلام من خلال تراثهم.
_________________
(١) تنقيح المقال ١ : ٤٠٣.
(٢) المستدرك على الصحيحين ٢ : ٣٥٢.
(٣) الاستيعاب في معرفة الأصحاب ٣ : ١١٠٣.