كيف نفهم الرّسالة العمليّة - ج ١

محمد مهدي المؤمن

كيف نفهم الرّسالة العمليّة - ج ١

المؤلف:

محمد مهدي المؤمن


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
المطبعة: عترت
الطبعة: ١
ISBN: 964-7777-28-0
الصفحات: ١٦٨
  الجزء ١   الجزء ٢
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

الطّبيعيّة فهي إيجاد مسبَّب بلا سبب ، ويشترط في صحّة المعجزة أن يعجز الجنّ الإنس عن الإتيان بها ، ولهذا سُمّيتْ معجزة ، وإلا لم يكن معنىً لتسميتها بذلك وعدّها إعجازاً.

فمن توفّرت فيه العصمة وظهرت عصمة منجهة تحلّيه بالصّفات الحميدة والكمال النَّفساني ، وأفعاله وسلوكياته المستقيمة وكان أهلاً لادّعاء النّبوّة والسّفارة الإلهيّة ، ثمّ ادّعى ذلك وأتى بفعل يعجز عنه الجنّ والإنس ، فهو نبيٌّ صادق في دعواه ، وتجب له الطّاعة في كلّ ما يأمر به وينهي عنه.

ولهذا جاء في الحديث المروي في اُصول الكافي عن أبي عبد الله ـ الصادق عليه‌السلام ـ : « إنّا لمّا أثبتنا أنّ لنا خالقاً صانعاً متعالياً عنّا ، وعن جميع ما خلق ، وكان ذلك الصّانع حكيماً متعالياً لم يجز أن يشاهده خلقه ، ولا يلامسوه فيابشرهم ويباشروه ، ويُحاجّهم ويحاجّوه ثَبُتَ أنّ له سفراه في خلقه ، يعبّرون عنه الى خلقه وعباده ، ويدلّونهم على مصالحهم ومنافعهم ، وما به بقاؤهم ، وفي تركه فَناؤهم ، فثبت الآمرون والنّاهون عن الحكيم العليم في خلقه ، والمعبّرون عنه جلّ وعزّ ، وهم الأنبياء عليه‌السلام وصفوته من خلقه ، حكماء مؤدّبين بالحكمة ، مبعوثين لها ، غير مشاركين للنّاس ـ على مشاركتهم لهم في الخلق والتّركيب ـ في شيء من أحوالهم ،

١٢١

مؤيّدين من عند الحكيم العليم بالحكمة ، ثم ثبت ذلك في كلّ دهر وزمان ممّا أتتْ به الرُّسُلُ والأنبياء من الدّلائل والبراهين ، لكيلا تخلو الأرض من حُجّةٍ يكون معه علم يدلّ على صدق مقالته وجواز عدالته » (١).

ومن خصائص الإعجاز أنّه : أوّلاً ـ ليس أمراً اكتسبياً ، فلا يحصل بالتّعليم والتّعلُّم ، وثانياً ـ لا تؤثر فيه القوى الاُخرى ، ولا يتأثر بها ، وهي خاصّة بالخواصّ من أولياء الله ـ تعالى ـ ولا تقع إلا بإذنه ـ تعالى ـ.

وهناك الكثير من هذه المعجزات التي ظهرت على أيدي الأنبياء والصَّالحين من عباد الله المخلَصين ، كخروج النّاقة من الجبل بدعاء سيّدنا صالح النّبي عليه‌السلام ، وماء زمزم الذي جرى في البرّ الأقفر عند موضع الكعبة المشرَّقة بيد سيّدنا إسماعيل عليه‌السلام وهو طفل رضيع ، وسفينة نوح ، وصهر الحديد على يد سيّدنا داوود عليه‌السلام ، ومنطق الطَّير والحيوان الذي اُوتي سيّدنا سليمان عليه‌السلام ، وطاعة الجنّ والإنس والحيوانات والطٌّيور ، الذي سُمّي بملك سليمان عليه‌السلام ، وآلاف المعجزات التي ظهرت على أيدي الأنبياء

__________________

(١) الكافي ج ١ / ١٦٨ ح ١ ، توحيد الصدوق : ص ٢٤٨ ، بحار الأنوار ج ١٠ / ١٦٤ ـ ١٦٥ ح ٢.

١٢٢

على مرّ العصور والتأريخ.

وأخيراً فلابدّ أن تكون المعجزة ـ عادةً ـ تناسب الزّمان والمكان وأحوال النّاس ، فمثلاً العصى معجزة سيّدنا موسى عليه‌السلام كانت تلائم تلك الظروف الّتي كثر فيها السّحر ، أو نزول الدّم والضّفادع وما شابه ذلك من السّماء تناسب طغيان فرعون وجبروته وجبروت من كانوا معه ، أو إحياء الموتى وشفاء الأمراض ، لا سيّما المستعصية من غير علاج طبيعي ودواء ، معجزة تناسب تلك الفترة الّتي بُعث فيها سيّدنا عيسى عليه‌السلام من تقدّم مذهل في علم الطّبّ والعلوم الطّبيعيّة وهلمّ جرّا من المعجزات لا سيّما عشرات المعجزات التي ظهرت على يد سيّدنا محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتّى عُدّتْ اكثر من ألف معجزة ، أهمّها وأعظمها المعجزة الخالدة أعني القرآن الكريم الذي جاء في زمن تتباهي فيه العرب بقوّة البلاغة وشدّة الفصاحة وسحر البيان وقد تحدّى العرب جميعاً ( فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ ) (١) ، بل تحدّي الجنّ والإنس حيث قال ـ جلّ وعلا ـ : ( وَادْعُوا شُهَدَاءَكُم مِّن دُونِ اللهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ) (٢) وقال ـ تعالى ـ : ( قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَىٰ أَن يَأْتُوا

__________________

(١) سورة البقرة : ٢٣.

(٢) سورة البقرة : ٢٣.

١٢٣

بِمِثْلِ هَٰذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ ) (١) ، وبما أن نبوّة نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خاتمة النّبوّات ، وهو خاتم الأنبياء والمرسلين فلابدّ أن تكون له معجزة خالدة لأنّ رسالته خالدة ، ولابدّ أن تواكب جميع العصور والأزمنة ، وتنفع النّاس الى يوم القيامة ، ولهذا فقد كان القرآن الكريم إعجازاً في اللّغة ، وإعجازاً علميّاً ، وإعجازاً اقتصاديّاً ، وإعجازاً ثقافيّاً ، وإعجازاً تربويّاً ، وإعجازاً قانونيّاً ، وإعجازاً حضاريّاً ، وإعجازاً فلسفيّاً ، وإعجازاً في كلّ شيء ، لا يسع هذه الوجيزة التطرّق الى تفاصيل ذلك ، وقد ألّف المتخصّصون وذوي الخبرة كتباً قيّمة في مجالات الإعجاز القرآني ، ووجوه الإعجاز فيها ، وإليكم بعض الأمثلة من الكتاب المجيد في الإعجاز العقائدي والفلسفي : ( لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَٰهٍ إِلَّا إِلَٰهٌ وَاحِدٌ ) (٢) ، ( لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتَا ) (٣) ، ومن الإعجاز العلمي : ( يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانفُذُوا لَا

__________________

(١) سورة الإسراء : ٨٨.

(٢) سورة المائدة : ٧٣.

(٣) سورة الأنبياء : ٢٢.

١٢٤

تَنفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ ) (١) ، ( يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِّن نَّارٍ وَنُحَاسٌ فَلَا تَنتَصِرَانِ ) (٢) ، وفي الاقتصاد : ( وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا ) (٣) ، وفي القانون : ( وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ ) (٤) ، ( فَمَنِ اعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ ) (٥) ، ( وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا ) (٦) ، و ( الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ ) (٧) ، والآداب والتربية : ( وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ ) (٨) ، ( هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ ) (٩) ، ( وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ ) (١٠) ، والإخبار بالغيب : ( الم غُلِبَتِ الرُّومُ. فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ. فِي

__________________

(١) سورة الرّحمن : ٣٣.

(٢) سورة الرّحمن : ٣٥.

(٣) سورة البقرة : ٢٧٥.

(٤) سورة الأنعام : ١٥١.

(٥) سورة البقرة : ١٩٤.

(٦) سورة المائدة : ٣٨.

(٧) سورة النور : ٢.

(٨) سورة القصص : ٧٧.

(٩) سورة الرّحمن : ٦٠.

(١٠) سورة الإسراء : ٣٤.

١٢٥

بِضْعِ سِنِينَ )(١) ، وهناك آيات كثيرة لا مجال في هذا المختصر إلى عرضها.

والّذي لا يدع مجالاً للشّكّ والتّرديد في هذا الإعجاز وهذه المعجزة الخالدة ، أن القرآن الكريم نزل في أكثر الشّعوب تخلّفاً واُمّيّةً وجهلاً حينذاك ، وفي أكثر الأزمنة والأمكنة فوضاويّةً وانحطاطاً ، والأعجب من ذلك أنّ الذي جاء به رسول اُمّيّ لم يحضر درساً ولا تلقّى تعليماً عند أحد من البشر ، ولم يدخل مدرسةً أو مكتباً أو جامعةً ، إلا أنّه كان من اُسرة عريقة ، وسلالة شامخة ، وذريّة إبراهيم الخليل عليه‌السلام ، وكانت سيرته الصّدق والأمانة وسلوكه الخير والرّشاد ، والعصمة من كلّ عيبٍ أو منقضةٍ.

فالقرآن الكريم هو المعجزة الخالدة وهو ( تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ ) (٢) ، و ( لَّا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ ) ، لأنّه : أوّلاً : عَجَزَ البشر والجنّ عن الإتيان بمثله ولو بسورة واحدة.

ثانياً : نزل في الجاهليّة ، أي في عصر الجاهلية ومكان الجاهليّة ومعقل الجاهليّة.

ثالثاً : جاء به رسول اُمّيٌّ عاش في ذلك الزمان والمكان.

__________________

(١) سورة الروم : ١ ـ ٤.

(٢) سورة النحل : ٨٩.

١٢٦

رابعاً : لأنّه ( هُدًى لِّلْعَالَمِينَ ) (١) ، في جميع مجالات الهداية والتعليم.

خامساً : لأنّه أخبر عن الاُمور الغيبيّة.

سادساً : لأنّه محيط بأسرار الخلائق والكون : ( وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ ) (٢) ، ( وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ ) (٣).

سابعاً : عدم وقوع الاختلاف في القرآن : ( أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا ) (٤).

ثامناً : الهداية والتربية العمليّة : ( إِنَّ هَٰذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ ) (٥).

بعض سجايا رَسُولِ الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وصفاته الكريمة وأخلاقه الحميدة :

١ ـ ( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا. وَدَاعِيًا إِلَى اللهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُّنِيرًا ) (٦).

__________________

(١) سورة آل عمران : ٩٦.

(٢) سورة الذاريات : ٤٩.

(٣) سورة الأنبياء : ٣٠.

(٤) سورة النساء : ٨٢.

(٥) سورة الإسراء : ٩.

(٦) سورة الأحزاب : ٤٥ ـ ٤٦.

١٢٧

٢ ـ ( لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ ) (١) ، ( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ ) (٢).

٣ ـ ( وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ ) (٣).

٤ ـ « الصَّادقُ الأمين » لقبه المبارك في الجاهليّة.

٥ ـ من شدّة زهده وإعراضه عن الدُّنيا أنّه لم يشبع طيلة حياته حتّى من خبز الشَّعير ، وكانت ثيابه من الصُّوف الخشن.

٦ ـ ومن شدّة تواضعه أنّه كان يسلّم على الأطفال ، ولا يرضى أن يقوم له أحد ، وكان إذا دخل مجلساً سلّم وجلس أينما انتهى به المقام ، وكان يجالس العبيد والفقراء ويشاركهم في الطّعام ، وكان يجلس على الأرض والتراب ، وكان يخصف نعله بيديه الكريمتين ويخيط ثيابه بنفسه ، ويَحْلِبُ الضّأن.

٧ ـ عناية بالجار ، قال مولانا عليٌّ أميرالمؤمنين عليه‌السلام : « لقد أوصانا رسول الله بالجار حتّى ظننّا أنّه سيورّثه » (٤).

__________________

(١) سورة التوبة : ٢٨.

(٢) سورة الأنبياء : ١٠٧.

(٣) سورة القلم : ٤.

(٤) المعجم الاوسط للطبراني ج ٧ / ١٠٠ ، مسند الشاميين ج ٣ / ٣٣٩ الفوائد ( ابن منده ) : ص ٧٥.

١٢٨

٨ ـ عنايته بالمرضىٰ وعيادته لهم وإن كانوا من غير ملّة الإسلام.

٩ ـ وكان صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كثير الاهتمام بأصحابه حتى في تشييع جنائزهم.

١٠ ـ وكان صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا صافح أحداً لا يخلع يده حتّى يخلع الآخر يده.

١١ ـ كان أعظم النّاسِ شجاعةً وبطولةً وفروسيّةً وأشدّهم قتالاً ، قال مولانا علي عليه‌السلام : « كنّا إذا حَمِيَ الوطيس لُذْنا برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم » (١).

١٢ ـ وكان أعبد النّاس : ( وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّىٰ يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ ) (٢).

١٣ ـ وكان أحرص النّاس على القرآن : ( طه. مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَىٰ ) (٣).

١٤ ـ كان صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كثير الاستماع حتى لقّبوه بالاُذُن : ( وَيَقُولُونَ

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ج ١٣ / ٢٧٩ ، البداية والنهاية ج ٦ / ٤٢ الشفا بتعريف حقوق المصطفى ج ١ / ١١٦ ، النهاية في غريب الحديث ج ١ / ٩١.

(٢) سورة الحجر : ٩٩.

(٣) سورة طه : ١ ـ ٢.

١٢٩

هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَّكُمْ ) (١).

١٥ ـ وكان أسخى الناس وأكرمهم.

وما لا يُعَدُّ ولا يُحصىٰ من الفضائل والمناقب والسجايا الكريمة التي لا مجال لعدّها هنا في هذا المختصر ، ونوصي بالرّجوع الى كتب التأريخ والسّيرة ولأخلاق للوقوف على بعض هذه السجايا والفضائل.

ملاحظات هامّة :

أولاً : أنّ الأنبياء والرُّسل يصدّق بعضهم بعضاً ، ويبشّر السّابق منهم باللاحق ، ويُخبِرُ عن مكان ظهوره وبعثته وبعض أوصافه لا سيّما إن كان اللاحق ـ المخبَر عنه ـ رسولاً ، وبالخصوص إن كان من أولي العزم ، وقد بشّر جميع الأنبياء والرُّسُل أقوامهم بقدوم نبيّنا محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبعثته حتّى أنّ بعض صفاته وأسماءه الشّريفة وردت في كتبهم كالتوراة والإنجيل : ( النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ ) (٢).

ثانياً : لم يطلبوا أجراً من النّاس على دعوتهم ( وَمَا أَسْأَلُكُمْ

__________________

(١) سورة التوبة : ٦١.

(٢) سورة الأعراف : ١٥٧.

١٣٠

عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَىٰ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) (١) ، ( وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ ) (٢) ، وقد خُصّ رسولنا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأجر المودّة لأهل بيته وعترته الطّاهرة ( قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَىٰ ) (٣) ، وهو أجر تنتفع به الاُمة نفسها : ( قُلْ مَا سَأَلْتُكُم مِّنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ ) (٤).

ثالثاً : أن للنّبيّ والرّسول مقامين ومنزلتين : مقام الخلافة الإلهية ، ومقام الخلافة على العباد ، فهو حاكم وقاضٍ إلى جانب كونه هادياً وبشيراً ونذيراً.

رابعاً : ( النَّبِيُّ أَوْلَىٰ بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ ) (٥) ، فيجب أن يفديه النّاس بأرواحهم وأموالهم وأولادهم ، وأن يحفظوه ويذودوا عنه بكلّ غالٍ ونفيس.

وأمّا النّبوّة الخاصّة بنبينا الأكرم محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فإنها ثابتة بسيرته الحسنة وعصمته المتميّزة وصفاته الحكيمة الكريمة وفضائله ومناقبه الجسيمة ، ومعجزته الخالدة بل مئات المعاجز

__________________

(١) سورة الشعراء : ١٠٩ ، ١٢٧.

(٢) سورة يوسف : ١٠٤.

(٣) سورة الشورى : ٢٣.

(٤) سورة الأحزاب : ٦.

(٥)

١٣١

الاُخرى بشارة الأنبياء والرُّسُل بقدومه وظهوره ، وقد سُقنا هذه الاُمور خلال بحثنا عن النّبوّة العامّة وفيها الكفاية لمن ألقى السّمع وهو شهيد ، ولا تفي هذه الوجيزة ببيان ذلك ولهذا فقد أرجعنا القارىء الكريم إلى كتب السّيرة والتأريخ لمزيد العلم والمعرفة.

والحمد لله ربّ العالمين

١٣٢

الدرس السادس عشر

الإمامة

بسم الله الرّحمن الرّحيم

بعد ما تبيّن أنّ النّبيّ الأكرم محمداً صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خاتم الأنبياء وشريعته الإسلامية خاتمة الشرائع وكتابه الخالد مصون من كل تحريف وتزييف وهو مشعل نور وهداية الى يوم القيامة ، وأنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان حاكماً على العباد وقاضياً بينهم وشريعته الغرّاء هي الحَكَمُ العَدْل والمرجع الوحيد القائم إلى يوم القيامة وقيام السّاعة ، لا يجوز التّديُّن بغيرها ولا التحكيم الى سواها ( وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ ) (١) ، و ( إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللهِ الْإِسْلَامُ ) (٢) ، لمّا كان الأمر كذلك وكان للقرآن ظاهر وباطن ولباطنه بطون إلى سبعين بطناً أو أكثر ـ وهذه ممّا اتفقت عليه جماهير المسلمين وعلماء الإسلام على اختلاف مشاربهم

__________________

(١) سورة آل عمران : ٨٥.

(٢) سورة آل عمران : ١٩.

١٣٣

ومذاهبهم ـ ، ثم اختلف المسلمون وعلماؤهم في تفسير ظاهره وظواهره ، بل عجزوا كثيراً عن ذلك ، وكانوا حينئذٍ عن معرفة أسراره وحقائقه وبطونه أعجز ، لأنَّ عجائبه لا تنتهي ، ولم تكن الفرصة كافية أمام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لبيان ذلك كلّه ، لعيب في قابلية النّاس ، وعجزهم عن إدراك كثير من الحقائق ، بسبب الحقبة الزّمنيّة التي عاشوا فيها ، ولحاجة معرفة كثير من الامور إلى مرور الزّمان وتغيير في العقول وحصول التجارب وتقدم العلوم وتكامل في العقول وهي ممّا لم يتحقّق بل ولن يتحقق إلا في عصور متأخرة عن عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

فكان لابدّ من وجود خلفاء وأئمةٍ هادين مهديّين راشدين يواصلون تلك المسيرة ويحملون عبأ الرّسالة ، فيكونون حكّاماً وخلفاء على النّاس ، يحكمون بالشّريعة ، ويقيمون الحدود ، ويحفظون الثّغور ، ويعملون بعلمهم الموروث من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والممدود إلى السّماء بحبل الله المتين ، ومعصومون عن كلّ سهو وخطأ ونسيان ، ومشهود لهم بالفضل والكمال ، ليبيّنوا للنّاس عظمة الإسلام وحقائق القرآن ، فتكون الرّسالة المحمديّة صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جليّة للعيان ، واضحة المعالم ، حاكمة إلى قيام السّاعة ، وإلا لو انقطعت العصمة ، ولم يكن الخليفة منصوباً منصوراً مؤيّداً من

١٣٤

عند الله ـ تعالى ـ ، لكانت الرّسالة ناقصة شأنها شأن ما وقع بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى يومنا هذا وإلى ظهور المهديّ من آل محمد عليهم‌السلام من تشويهٍ للشريعة وظلم واضطهاد وتباين للآراء والمذاهب ولأحزاب ، وتشتُّتٍ وتمزيقٍ وانحراف ، ولم يتحقّق الغرض الّذي من أجله بعث النّبيُّ الخاتم ، والغاية الّتي من أجلها كان الإسلام خاتم الشرائع السّماوية ، وعُدّ القرآن خالداً إلى قيام السّاعة.

فلأجل هذه الأسباب اقتضت الضّرورة وحكم العقل بالبداهة أن ينصب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأمر من الحكيم العليم خلفاء يحملون الرّاية من بعده ويكونون للاُمّة كما كان هو ، وتكون لهم حقوق على الاُمّة بمثل ما كانت له صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عليها ، وسمّي هؤلاء أئمة فما معنى كلمة الامام ؟

ج) : الإمام في اللّغة هو الزّعيم والقائد ، وفي اصطلاح المتكلّمين وعلماء الكلام الإمامة هي الزّعامة الدّينيّة والدّنيويّة المطلقة على أهل الإسلام وكافّة المسلمين ، وهذه الزّعامة لا تكون عندنا ولا تجوز في مذهبنا وعقيدتنا إلا لمن كان منصوباً من عند الله ـ تعالى ـ ، لما تقدّم من أهميّة هذا المنصب والمقام وخطورته وعجز النّاس عن اختيار من يكون أهلاً لذلك ،

١٣٥

والتّجارب قد أثبتت ذلك ورأيناها رأي العين في زماننا هذا ، وإن سمعنا أيضاً الكثير عن ماضي ، ولهذا فقد أثبتت تلك التّجارب بطلان كلّ ادّعاء خلاف ما ذكرنا ، وزيف كلّ داعٍ إلى اختيار النّاس ، وإلى تحكيم ما يطلق عليه في لسان الغرب بالدّيمقراطيّة ، وكلّما تقدّم بنا الزّمان ظهر بطلان هذه الدّعوات للعيان اكثر ، ويئس النّاس من دعاة الدّيمقراطية ، وأيقنوا بمدى زيف هذه المحاولات في إسعادهم وسلامتهم ، حتى زعم بعض علماء العامّة من المتأخّرين والمعاصرين وحتى القدماء أنّ الخلفاء الأربعة كانوا منصوبين من قِبَلِ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم متجاهلين ما في صحاحهم عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم « من بعدي اثنا عشر أمير » أو « خليفة » أو « إمام » وأنّ « كلّهم من قريش » (١) واختلفوا في تفسيره وتطبيقه على مصاديقه ، رغم أنّ في بعض كتبهم روايات صريحة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تنصّ على أسمائهم وتدلّ على أعيانهم ، ولم يتمسّك بها سوى فرقة واحدة من فرق المسلمين أطلق عليها الإماميّة الاثني عشريّة.

فالإمام يجب أن يكون منصوباً من عند الله تعالى ، وأن

__________________

(١) صحيح البخاري ج ٨ / ١٢٧ ، صحيح مسلم ج ٦ / ٣ ـ ٤.

١٣٦

يكون متّصلاً بمنبع الفيض الإلهي مستمدّاً علمه من الله تعالى ، وأن يكون معصوماً بالعصمة الكبرى لأنّه عِدْلُ القرآن وهو القرآن النّاطق لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « إنّي تاركٌ فيكم الثِّقْلَينِ ، كتابَ الله حبلٌ ممدود إلى السّماء ، وعترتي أهلَ بيتي ما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا ـ بعدي ـ أبداً » (١) وهو معنى قوله تعالى : ( قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَىٰ ) (٢) والقربىٰ هم فاطمة الزهراء سيّدة النّساء وبَعْلُها وبنوها عليها وعليهم أفضل الصّلاة وأتمُّ التّسليم.

ليت شعري كيف انتبه الخليفة الثاني ومن معه إلى لزوم اختيار الخليفة ، وضرورة أن ينصبوا إماماً للمسلمين وخليفةً لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في سقيفة بني ساعدة ، ولم ينتبه الله إلى هذا الأمر ولا رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؟!

ومن أين جاء الخليفة الأول بفكرة نصب الخليفة الثّاني من بعده وتعيينه وتحديده دون الرجوع إلى المسلمين ، والعمل بالشّورى ، إن كان الشّورى هو المرجع والطريق إلى تعيين

__________________

(١) مسند أحمد ج ٣ / ١٤ و ١٧ ، مجمع الزوائد ج ٩ / ١٦٣ ، مسند أبي الجعد : ص ٣٩٧ ، مصنف ابن أبي شيبة ج ٧ / ١٧٦ ، ينابيع المودة ج ١ / ٧٤.

(٢) سورة الشورى : ٢٣.

١٣٧

الخليفة واختياره ، على ما يزعمه دعاة الشُّورى ؟!

ومن أين جاء الخليفة الثّاني بقانون نَصَبَ به ستّةً من المسلمين ـ الصّحابة ـ وأمرهم باختيار الخليفة من بعده ، إذا كان الخليفة الثالث مَنصُوباً من عند الله تعالى والرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على حدّ زعم القائلين بالنصّ على خلافة الأربعة الرّاشدين ، وأنّهم كانوا منصوصين منصوبين من عند الله تعالى ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؟!

وللرّدّ على القائلين : لو كان عليٌّ عليه‌السلام منصوصاً منصوباً من قِبَلَ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالخلافة مباشرة بعده ، وكان الخليفة الأول لرسول الله فهل يُعقَل أن يخالفه الصّحابة ويعرضوا عنه ؟!

نقول : لو كان الأول ـ أبوبكر خليفة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالنّص والتّنصيب فما بال كثير من المسلمين ـ الصّحابة ـ قد امتنعوا في الوهلة الاولى عن بيعته وعلى رأسهم عليّ عليه‌السلام وبنو هاشم وسلمان ومقداد وأبوذر وعمّار وجمع غفير من المهاجرين والأنصار حتّى تضاربوا بينهم وتراشقوا بالألفاظ وكادوا يتقاتلون فقالت الأنصار : منّا الأمير ، وقال المهاجرون : منّا الأمير ، ثم قالوا واتّفقوا بينهم على ما قاله بعض المهاجرين للأنصار أنّ « منّا الأمير

١٣٨

ومنكم الوزير » (١). وما بال حروب الرّدّة التي دارت بين المسلمين حينذاك وإنّما سُمّيتْ بالرّدّة لزعمهم أنّ من امتنعوا عن طاعة الخليفة الأوّل وحبسوا الزّكوات عن إرسالها إليه وإيصالها لديه مرتدّون عن الإسلام خارجون على الخليفة ، كلّ ذلك قد ورد في كتب التأريخ والسيرة والحديث والعقائد والكلام وكان مثار جدلٍ بين المسلمين ، ولا يزال كذلك.

على أنّ الشّخص الوحيد والفرد الفريد من بين هؤلاء الأربعة الّذي لم يتمّ اختياره للخلافة من قِبَلِ الناس ولا بواسطة واحدٍ بعينه من الصّحابة ، وإنّما تمّتْ له البيعة بتزاحم المسلمين على باب داره واجتماعهم على بيته ، وعلمهم ويقينهم بأنّ بيعتهم له تحصيل حاصل بعد بيعة المسلمين له في صدر الإسلام سيّما في واقعة الغدير بأمر من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وفي محضرة الشّريف ، وعلمهم ويقينهم بأنّه الخليفة الحقّ والإمام المنصوب من عند الله تعالى ورسوله وإجماعهم على وجوب طاعته ، كما أجمعوا على أنّ مخالفيه ومعاديه ناكثون وقاسطون ومارقون ، هوالإمام أميرالمؤمنين عليُّ بنُ أبي طالبٍ عليه‌السلام وإن حاول بعض المخالفين

__________________

(١) تاريخ الطبري ج ٣ / ٢٠٣ ، الكمال في التاريخ ج ٢ / ٣٢٥ ، بحار الأنوار ج ٢٨ / ٣٢٤ وص ٣٣٧.

١٣٩

المعاندين تجاهل ذلك في العمل والواقع العملي ، والبحثَ عن مبرّرٍ لما بدر من أصحاب الجمل وخوارج نهروان ومعاوية بن أبي سفيان وأذنابه ، وسعىٰ جاهداً للدّفاع عنهم في محاولة يائسة لإنقاد الغرقى تحسين صورتهم في عيون المسلمين ، وأنّى لهم ذلك وقد فَضَحَهُمُ التأريخ ، وكشفتْ عن عوراتهم السّيرة ، وبدتْ وصمة العار على جبينهم لا تزيله مياه البحار والأنهار ، وأقرّوا بها في كتبهم ، ونطقوا بها في مجالسهم ومحافلهم ؟! وأينَ هم من قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « يا عمّار ستقتلُكَ الفئةُ الباغية » ؟! (١)

والحمد لله ربّ العالمين

__________________

(١) كنز العمال ج ١٣ / ٥٣٢ ح ٣٧٣٨٦ ، شرح مسند أبي حنيفة : ص ٢٤٥ ، مشاهير علماء الامصار : ص ٧٤ ح ٢٦٦ ، الموضوعات ج ٢ / ١٢ ، اسد الغابة ج ٢ / ٢١٧ ، البداية والنهاية ج ٣ / ٢٦٣ ، وقعة صفين ص ٣٢٤.

١٤٠