الشيخ محمّد باقر بن محمّد تقي المجلسي
الموضوع : الحديث وعلومه
الناشر: دار الكتب الإسلاميّة
المطبعة: خورشيد
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٣٥
أبغض وإن الإيمان لا يعطيه إلا من أحبه.
(باب سلامة الدين)
١ ـ محمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد ، عن علي بن النعمان ، عن أيوب بن الحر ، عن أبي عبد الله عليهالسلام في قول الله عز وجل : « فَوَقاهُ اللهُ سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا » (١) فقال أما لقد بسطوا عليه وقتلوه ولكن أتدرون ما وقاه وقاه أن يفتنوه في دينه.
______________________________________________________
باب سلامة الدين
أي المقصد الأقصى الذي ينبغي أن يكون مطلوب العاقل هو سلامة الدين لا السلامة في الدنيا من آفاتها.
الحديث الأول : صحيح.
« فَوَقاهُ اللهُ » الضمير راجع إلى مؤمن آل فرعون حيث توكل على الله وفوض أمره إليه حين أراد فرعون قتله بعد أن أظهر إيمانه بموسى ، ووعظهم ودعاهم إلى الإيمان ، فقال : « وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللهِ إِنَّ اللهَ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ ، فَوَقاهُ اللهُ سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا » أي صرف الله عنه شدائد مكرهم ، قال بعض المفسرين : أنه جاء مع موسى حتى عبر البحر معه وقيل : إنهم هموا بقتله فهرب إلى جبل فبعث فرعون رجلين في طلبه فوجداه قائما يصلي وحوله الوحوش صفوفا ، فخافا ورجعا هاربين ، والخبر يرد هذين القولين كما يرد قول من قال : أن الضمير راجع إلى موسى ويدل على أنهم قتلوه « لقد بسطوا عليه » أي أيديهم في القاموس : بسط يده مدها « وَالْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ » أي مسلطون عليهم كما يقال : بسطت يده عليه أي سلط عليه ، وفي بعض النسخ : سطوا عليه في القاموس : سطا عليه وبه سطوا وسطوة صال أو قهر بالبطش ، انتهى.
وما في قوله : ما وقاه ، موصولة أو استفهامية وفي القاموس : الفتنة بالكسر الضلال والإثم والكفر والفضيحة والإضلال ، وفتنة يفتنه أوقعه في الفتنة كفتنه وأفتنه فهو مفتن ومفتون لازم متعد ، كافتتن فيهما.
__________________
(١) سورة المؤمن : ٤٠.
٢ ـ علي بن إبراهيم ، عن محمد بن عيسى بن عبيد ، عن أبي جميلة قال قال أبو عبد الله عليهالسلام كان في وصية أمير المؤمنين عليهالسلام لأصحابه اعلموا أن القرآن هدى الليل والنهار ونور الليل المظلم على ما كان من جهد وفاقة فإذا حضرت بلية فاجعلوا أموالكم دون أنفسكم وإذا نزلت نازلة فاجعلوا أنفسكم دون دينكم واعلموا أن
______________________________________________________
الحديث الثاني : ضعيف « هدى الليل والنهار » إضافة للمصدر إلى ظرف الزمان ، وقيل : يحتمل أن يكون الليل والنهار كناية عن الباطل والحق كما قال تعالى : « وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ » (١) « ونور الليل المظلم » الظاهر أن الليل المظلم كناية عن زمان الشدة والبلاء فقوله : على ما كان ، متعلق بالمظلم أي كونه مظلما بناء على ما كان من جهد أي مشقة وفاقة ، فالمعنى أن القرآن في أحوال الشدة والفاقة منور القلب ومذهب الهم لما فيه من المواعظ والنصائح ، ولأنه يورث الزهد في الدنيا ، فلا يبالي بما وقع فيها.
ويحتمل أن يكون المعنى أنه نور في ظلم الجهالة والضلالة وعلى أي حال كان من أحوال الدنيا من مشقة وفقر وغير ذلك ، أي ينبغي أن يرضى بالشدة والفاقة مع نور الحق والهداية ومن في قوله : من جهد ، للبيان أو التبعيض والتفريع في قوله : فإذا حضرت ، بهذا ألصق ، وقال ابن ميثم : أراد بالفاقة الحاجة إلى ما ينبغي من الهداية والكمال النفساني ، ولا يخفى ما فيه.
والمراد بالبلية ما يمكن دفعه بالمال وبالنازلة ما لا يمكن دفعه إلا ببذل النفس أو ببذل الدين ، أو البلية في أمور الدنيا والنازلة في أمور الآخرة ، والمراد بها ما لا تقية فيه ، وإلا فالتقية واجبة « من هلك » إما بذهابه بالمرة أو بنقصه بترك الفرائض وارتكاب الكبائر أو الأعم ، وفي المصباح : حرب حربا من باب تعب أخذ جميع ماله فهو حريب وحرب على بناء المفعول فهو محروب ، وفي القاموس : حربه حربا
__________________
(١) سورة البلد : ١٠.
الهالك من هلك دينه والحريب من حرب دينه ألا وإنه لا فقر بعد الجنة ـ ألا وإنه لا غنى بعد النار لا يفك أسيرها ولا يبرأ ضريرها.
٣ ـ علي ، عن أبيه ، عن حماد بن عيسى ، عن ربعي بن عبد الله ، عن فضيل بن يسار ، عن أبي جعفر عليهالسلام قال سلامة الدين وصحة البدن خير من المال والمال زينة من زينة الدنيا حسنة.
محمد بن إسماعيل ، عن الفضل بن شاذان ، عن حماد ، عن ربعي ، عن الفضيل ، عن أبي جعفر عليهالسلام مثله.
٤ ـ عدة من أصحابنا ، عن أحمد بن محمد بن خالد ، عن ابن فضال ، عن يونس بن
______________________________________________________
كطلبه طلبا سلب ماله فهو محروب وحريب ، والجمع حربي وحرباء وحريبة : ماله الذي سلب أو ماله الذي يعيش به « لا فقر بعد الجنة » أي بعد فعل ما يوجبها ، وكذا قوله : بعد النار ، أي بعد فعل ما يوجبها.
ثم بين عليهالسلام عدم الغناء مع استحقاق النار ببيان شدة عذابها من حيث أن أسيرها والمقيد فيها بالسلاسل والأغلال لا يفك أبدا « ولا يبرء ضريرها » أي من عمي عينه فيها أو من ابتلي فيها بالضر أو المراد عدم فك أسيرها في الدنيا من قيد الشهوات وعدم برء من عمي قلبه في الدنيا بالكفر والأول أظهر ، وفي القاموس : الضرير الذاهب البصر ، والمريض المهزول ، وكل ما خالطه ضر.
الحديث الثالث : حسن كالصحيح وسنده الآتي مجهول كالصحيح.
« سلامة الدين » أي مما فيه شائبة الشرك من العقائد الباطلة والأعمال القبيحة وصحة البدن من الأمراض البدنية خير من زوائد المال أما خيرية الأولى فظاهرة وأما الثانية فلأنه ينتفع بالصحة مع عدم المال ، ولا ينتفع بالمال مع فقد الصحة « والمال » أي المال الصالح والحلال « زينة حسنة » لكن بشرط أن لا يضر بالدين.
الحديث الرابع : مرسل.
يعقوب ، عن بعض أصحابه قال كان رجل يدخل على أبي عبد الله عليهالسلام من أصحابه فغبر زمانا لا يحج فدخل عليه بعض معارفه فقال له فلان ما فعل قال فجعل يضجع الكلام يظن أنه إنما يعني الميسرة والدنيا فقال أبو عبد الله عليهالسلام كيف دينه فقال كما تحب فقال هو والله الغنى.
______________________________________________________
« فصبر زمانا » في بعض النسخ فغبر زمانا أي مضى ، وفي بعضها فغبر زمانا أي مكث ، في القاموس : غبر غبورا مكث وذهب ضد « فلان ما فعل؟ » أي كيف حاله ولم تأخر عن الحج؟ « قال » أي بعض الأصحاب الراوي « فجعل » أي شرع بعض المعارف « يضجع الكلام » أي يخفضه أو يقصر ولا يصرح بالمقصود ويشير إلى سوء حاله لئلا يغتم الإمام عليهالسلام بذلك كما هو الشائع في مثل هذا المقام.
قال في القاموس : أضجعت الشيء أخفضته وضجع في الأمر تضجيعا قصر « فظن » في بعض النسخ يظن وهو أظهر « إنما يعني » إنما بفتح الهمزة وما موصولة ، وهي اسم أن كقوله تعالى : « وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ » (١) أو ما كافة مثل قوله : « أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ » (٢) وعند الزمخشري أنه يفيد الحصر كالمكسور فعلى الأول مفعول يعني وهو عائد ما محذوف ، وتقديره أن ما يعنيه ، والميسرة خبر أن وعلى الثاني الميسرة مفعول يعني ، وعلى التقديرين المستتر في يعني راجع إلى الإمام عليهالسلام « كما تحب » أي على أحسن الأحوال « فقال هو « وَاللهُ الْغَنِيُ » ».
أقول : تعريف الخبر باللام المفيد للحصر وتأكيده بالقسم للتنبيه على أن الغناء الحقيقي ليس إلا الغناء الأخروي الحاصل بسلامة الدين ، كما روي عن النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم أنه قال : الفقر الموت الأحمر ، فقيل له الفقر من الدينار والدرهم؟ فقال : لا ولكن من الدين.
__________________
(١) سورة الأنفال : ٤١.
(٢) سورة الكهف : ١١٠.
(باب التقية)
١ ـ علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن ابن أبي عمير ، عن هشام بن سالم وغيره ، عن أبي عبد الله عليهالسلام في قول الله عز وجل : « أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِما صَبَرُوا » قال بما صبروا على التقية « وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ » (١) قال الحسنة التقية
______________________________________________________
باب التقية
الحديث الأول : حسن كالصحيح.
« أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ » الآية في سورة القصص هكذا : « الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ » قال الطبرسي (ره) : من قبله أي من قبل محمد « هُمْ بِهِ » أي بمحمد « يُؤْمِنُونَ » لأنهم وجدوا صفته في التوراة وقيل : من قبله أي من قبل القرآن هم بالقرآن يصدقون ، والمراد بالكتاب التوراة والإنجيل « وَإِذا يُتْلى » أي القرآن « عَلَيْهِمْ قالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ » ثم أثنى الله سبحانه عليهم فقال : « أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِما صَبَرُوا » قال (ره) مرة بتمسكهم بدينهم حتى أدركوا محمدا صلىاللهعليهوآلهوسلم فآمنوا به ومرة بإيمانهم به ، وقيل : بما صبروا على الكتاب الأول وعلى الكتاب الثاني وإيمانهم بما فيهما ، وقيل : بما صبروا على دينهم وعلى أذى الكفار لهم وتحمل المشاق « وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ » أي يدفعون بالحسن من الكلام القبيح من الكلام التي يسمعونه من الكفار ، وقيل : يدفعون بالمعروف المنكر ، وقيل : يدفعون بالحلم جهل الجاهل ، وقيل : يدفعون بالمداراة مع الناس أذاهم عن أنفسهم ، وروي مثل ذلك عن أبي عبد الله عليهالسلام.
__________________
(١) سورة القصص : ٥٤.
والسيئة الإذاعة.
٢ ـ ابن أبي عمير ، عن هشام بن سالم ، عن أبي عمر الأعجمي قال قال لي أبو عبد الله عليهالسلام يا أبا عمر إن تسعة أعشار الدين في التقية ولا دين لمن لا تقية له والتقية في كل شيء إلا في النبيذ والمسح على الخفين.
______________________________________________________
وأقول : على ما في الخبر كأنها منزلة على جماعة من مؤمني أهل الكتاب آمنوا بمحمد صلىاللهعليهوآلهوسلم باطنا وأخفوا إيمانهم عن قومهم تقية فآتاهم أجرهم مرتين لإيمانهم ، ومرة للعمل بالتقية ، والمراد بالإذاعة الإشاعة وإفشاء ما أمروا عليهمالسلام بكتمانه عند خوف الضرر عليهم.
الحديث الثاني : مجهول.
« إن تسعة أعشار الدين في التقية » كان المعنى أن ثواب التقية في زمانها تسعة أضعاف سائر الأعمال ، وبعبارة أخرى إيمان العاملين بالتقية عشرة أمثال من لم يعمل بها ، وقيل : لقلة الحق وأهله حتى أن الحق عشر والباطل تسعة أعشار ولا بد لأهل الحق من المماشاة مع أهل الباطل فيها حال ظهور دولتهم ليسلموا من بطشهم ، ولا يخفى ما فيه.
« ولا دين » أي كاملا « إلا في النبيذ » أقول : سيأتي في كتاب الطهارة في حديث زرارة : ثلاثة لا أتقي فيهن أحدا : شرب المسكر ، ومسح الخفين ، ومتعة الحج ، وهذا مخالف للمشهور من كون التقية من كل شيء إلا في الدماء.
واختلف في توجيه على وجوه : « الأول » ما ذكره زرارة في تتمة الخبر السابق حيث قال : ولم يقل : الواجب عليكم أن لا تتقوا فيهن أحدا ، أي عدم التقية فيهن مختص بهم عليهمالسلام إما لأنهم يعلمون أنه لا يلحقهم الضرر بذلك ، وأن الله يحفظهم أو لأنها كانت مشهورة من مذهبهم عليهمالسلام ، فكان لا ينفعهم التقية.
الثاني : ما ذكره الشيخ قدسسره في التهذيب وهو أنه لا تقية فيها لأجل
٣ ـ عدة من أصحابنا ، عن أحمد بن محمد بن خالد ، عن عثمان بن عيسى ، عن سماعة ، عن أبي بصير قال قال أبو عبد الله عليهالسلام التقية من دين الله ـ قلت من دين
______________________________________________________
مشقة يسيرة لا تبلغ إلى الخوف على النفس أو المال وإن بلغت أحدهما جازت.
الثالث : أنه لا تقية فيها لظهور الخلاف فيها بين المخالفين فلا حاجة إلى التقية.
الرابع : لعدم الحاجة إلى التقية فيها لجهات أخرى أما في النبيذ فلا مكان التعلل في ترك شربه بغير الحرمة كالتضرر به ونحو ذلك ، وأما في المسح فلان الغسل أولى منه وهم لا يقولون بتعين المسح على الخفين ، وأما في متعة الحج فلأنهم يأتون بالطواف والسعي للقدوم استحبابا ، فلا يكون الاختلاف إلا في النية وهي أمر قلبي لا يطلع عليه أحد ، والتقصير وإخفاؤه في غاية السهولة.
قال في الذكرى : يمكن أن يقال : هذه الثلاث لا تقية فيها من العامة غالبا لأنهم لا ينكرون متعة الحج ، وأكثرهم يحرم المسكر ومن خلع خفه وغسل رجليه فلا إنكار عليه ، والغسل أولى منه عند انحصار الحال فيهما ، وعلى هذا تكون نسبته إلى غيره كنسبته إلى نفسه في أنه تنتفي التقية فيه ، وإذا قدر خوف ضرر نادر جازت التقية ، انتهى.
وأقول : على ما ذكرنا في الوجه الرابع يظهر علة عدم ذكر متعة الحج في هذا الخبر لعدم الحاجة إلى التقية فيه أصلا غالبا ، وأما عدم التعرض لنفي التقية في القتل فلظهوره أو لكون المراد التقية من المخالفين ولا اختصاص لتقية القتل بهم.
الحديث الثالث : موثق.
« من دين الله » أي من دين الله الذي أمر عباده بالتمسك به في كل ملة لأن أكثر الخلق في كل عصر لما كانوا من أهل البدع شرع الله التقية في الأقوال والأفعال والسكوت عن الحق لخلص عباده عند الخوف حفظا لنفوسهم ودمائهم وأعراضهم
الله قال إي والله من دين الله ولقد قال يوسف : « أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ » (١) والله ما كانوا سرقوا شيئا ولقد قال إبراهيم عليهالسلام « إِنِّي سَقِيمٌ » (٢) والله ما كان سقيما.
______________________________________________________
وأموالهم وإبقاء لدينه الحق ولو لا التقية بطل دينه بالكلية وانقرض أهله لاستيلاء أهل الجور والتقية إنما هي في الأعمال لا العقائد لأنها من الأسرار التي لا يعلمها إلا علام الغيوب.
واستشهد عليهالسلام لجواز التقية بالآية الكريمة حيث قال : « ولقد قال يوسف » نسب القول إلى يوسف باعتبار أنه أمر به ، والفعل ينسب إلى الآمر كما ينسب إلى الفاعل ، والعير بالكسر القافلة مؤنثة وهذا القول مع أنهم لم يسرقوا السقاية ليس بكذب لأنه كان لمصلحة وهي حبس أخيه عنده بأمر الله ، مع عدم علم القوم بأنه عليهالسلام أخوهم ، مع ما فيه من التورية المجوزة عند المصلحة التي خرج بها عن الكذب باعتبار أن صورتهم وحالتهم شبيهة بحال السراق بعد ظهور السقاية عندهم أو بإرادة أنهم سرقوا يوسف من أبيه كما ورد في الخبر.
وكذا قول إبراهيم عليهالسلام « إِنِّي سَقِيمٌ » ولم يكن سقيما ، لمصلحة ، فإنه أراد التخلف عن القوم لكسر الأصنام فتعلل بذلك وأراد أنه سقيم القلب بما يرى من القوم من عبادة الأصنام ، أو لما علم من شهادة الحسين عليهالسلام كما مر ، أو أراد أنه في معرض السقم والبلايا وكان الاستشهاد بالآيتين على التنظير لرفع الاستبعاد عن جواز التقية بأنه إذا جاز ما ظاهره الكذب لبعض المصالح التي لم تصل إلى حد الضرورة فجواز إظهار خلاف الواقع قولا وفعلا عند خوف الضرر العظيم أولى ، أو المراد بالتقية ما يشمل تلك الأمور أيضا.
__________________
(١) سوره يوسف : ٧٠.
(٢) سورة الصافّات : ٨٩.
٤ ـ محمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد بن عيسى ، عن محمد بن خالد والحسين بن سعيد جميعا ، عن النضر بن سويد ، عن يحيى بن عمران الحلبي ، عن حسين بن أبي العلاء ، عن حبيب بن بشر قال قال أبو عبد الله عليهالسلام سمعت أبي يقول لا والله ما على وجه الأرض شيء أحب إلي من التقية يا حبيب إنه من كانت له تقية رفعه الله يا حبيب من لم تكن له تقية وضعه الله يا حبيب إن الناس إنما هم في هدنة فلو قد كان ذلك كان هذا.
٥ ـ أبو علي الأشعري ، عن الحسن بن علي الكوفي ، عن العباس بن عامر ، عن جابر المكفوف ، عن عبد الله بن أبي يعفور ، عن أبي عبد الله عليهالسلام قال اتقوا على دينكم
______________________________________________________
الحديث الرابع : مجهول.
وفي النهاية : الهدنة السكون والصلح والموادعة بين المسلمين والكفار ، وبين كل متحاربين ، انتهى.
والمراد بالناس إما المخالفون أي هم في دعة واستراحة لأنا لم نؤمر بعد لمحاربتهم ومنازعتهم ، وإنما أمرنا بالتقية منهم ومسالمتهم أو الشيعة أي أمروا بالموادعة والمداراة مع المخالفين أو الأعم منهما ولعله أظهر « فلو قد كان ذلك » أي ظهور القائم عليهالسلام والأمر بالجهاد معهم ومعارضتهم « كان هذا » أي ترك التقية الذي هو محبوبكم ومطلوبكم وقال صاحب الوافي : يعني أن مخالفينا اليوم في هدنة وصلح ومسالمة معنا ، لا يريدون قتالنا والحرب معنا ولهذا نعمل معهم بالتقية ، فلو قد كان ذلك ، يعني لو كان في زمن أمير المؤمنين والحسن بن علي عليهماالسلام أيضا الهدنة لكانت التقية فإن التقية واجبة ما أمكنت فإذا لم تمكن جاز تركها لمكان الضرورة ، انتهى. وما ذكرنا أظهر.
الحديث الخامس : مجهول.
« اتقوا على دينكم » أي احذروا المخالفين بكتمان دينكم إشفاقا وإبقاء عليه لئلا يسلبوه منكم أو احذروهم كامنين على دينكم إشعارا بأن التقية لا ينافي كونكم على الدين أو اتقوهم ما لم يصر سببا لذهاب دينكم ، ويحتمل أن يكون « على » بمعنى « في » والأول أظهر.
فاحجبوه بالتقية فإنه لا إيمان لمن لا تقية له إنما أنتم في الناس كالنحل في الطير لو أن الطير تعلم ما في أجواف النحل ما بقي منها شيء إلا أكلته ولو أن الناس علموا ما في أجوافكم أنكم تحبونا أهل البيت لأكلوكم بألسنتهم ولنحلوكم في السر والعلانية رحم الله عبدا منكم كان على ولايتنا.
______________________________________________________
« إنما أنتم في الناس كالنحل » أقول : كأنه لذلك لقب أمير المؤمنين عليهالسلام بأمير النحل ويعسوب المؤمنين ، وتشبيه الشيعة بالنحل لوجوه « الأول » أن العسل الذي في أجوافها ألذ الأشياء المدركة بالحس والذي في قلوب الشيعة من دين الحق والولاية ألذ المشتهيات العقلانية.
الثاني : أن العسل شفاء من الأمراض الجسمانية لقوله تعالى : « فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ » (١) وما في جوف الشيعة شفاء من الأدواء الروحانية.
الثالث : ضعف النحل بالنسبة إلى الطيور ، وضعف الشيعة في زمان التقية بالنسبة إلى المخالفين.
الرابع : شدة إطاعة النحل لرئيسهم كشدة انقياد الشيعة ليعسوبهم صلوات الله عليه.
الخامس : ما ذكر في الخبر من أنهم بين بني آدم كالنحل بين سائر الطيور في أنها إذا علمت ما في أجوافها لأكلتها رغبة فيما في أجوافها للذتها ، كما أن المخالفين لو علموا ما في قلوب الشيعة من دين الحق لقتلوهم عنادا. وقيل : لأن الطير لو كان بينها حسد كبني آدم وعلمت أن في أجوافها العسل وهو سبب عزتها عند بني آدم لقتلتها حسدا ، كما أن المخالفين لو علموا أن في أجواف الشيعة ما يكون سببا لعزتهم عند الله لأفنوهم باللسان فكيف باليد والسنان حسدا. وما ذكرنا أظهر وأقل تكلفا.
__________________
(١) سورة النحل : ٦٩.
٦ ـ علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن حماد ، عن حريز عمن أخبره ، عن أبي عبد الله عليهالسلام في قول الله عز وجل : « وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ » (١) قال الحسنة التقية والسيئة الإذاعة وقوله عز وجل : « ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ » السيئة (٢) قال التي هي أحسن التقية ، « فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ » (٣).
٧ ـ محمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد بن عيسى ، عن الحسن بن محبوب ، عن هشام
______________________________________________________
وفي القاموس : نحلة القول كمنعه نسبه إليه وفلانا سابه ، وجسمه كمنع وعلم ونصر وكرم نحولا : ذهب من مرض أو سفر وأنحله الهم. وفي بعض النسخ بالجيم ، في القاموس : نجل فلانا ضربه بمقدم رجله وتناجلوا تنازعوا.
الحديث السادس : مرسل كالحسن.
وكان الجمع بين أجزاء الآيات المختلفة من قبيل النقل بالمعنى وإرجاع بعضها إلى بعض فإن في سورة حم السجدة هكذا : « وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ » وفي سورة المؤمنون هكذا : « ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَصِفُونَ » فإلحاق السيئة في الآية الأولى لتوضيح المعنى أو لبيان أن دفع السيئة في الآية الأخرى أيضا بمعنى التقية مع أنه يحتمل أن يكون في مصحفهم عليهمالسلام كذلك.
قال الطبرسي (ره) : « ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ » أي السيئة أي ادفع بحقك باطلهم وبحلمك جهلهم وبعفوك إساءتهم ، فإذا فعلت ذلك صار عدوك الذي يعاديك في الدين بصورة وليك القريب فكأنه وليك في الدين وحميمك في النسب.
الحديث السابع : مجهول.
__________________
(١) سورة فصّلت : ٣٤.
(٢) سورة المؤمنون : ٩٦.
(٣) سورة فصّلت : ٣٤.
بن سالم ، عن أبي عمرو الكناني قال قال أبو عبد الله عليهالسلام يا أبا عمرو أرأيتك لو حدثتك بحديث أو أفتيتك بفتيا ثم جئتني بعد ذلك فسألتني عنه فأخبرتك بخلاف ما كنت أخبرتك أو أفتيتك بخلاف ذلك بأيهما كنت تأخذ قلت بأحدثهما وأدع الآخر فقال قد أصبت يا أبا عمرو أبى الله إلا أن يعبد سرا أما والله لئن فعلتم ذلك إنه لخير لي ولكم وأبى الله عز وجل لنا ولكم في دينه إلا التقية.
٨ ـ عنه ، عن أحمد بن محمد ، عن الحسن بن علي ، عن درست الواسطي قال قال أبو عبد الله عليهالسلام ما بلغت تقية أحد تقية أصحاب الكهف إن كانوا ليشهدون الأعياد ويشدون الزنانير فأعطاهم الله « أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ ».
______________________________________________________
وفي المصباح : الفتوى بالواو فتفتح الفاء وبالياء فتضم ، وهو اسم من أفتى العالم إذا بين الحكم واستفتيته سألته أن يفتي ، والجمع الفتاوى بكسر الواو على الأصل ، وقيل : يجوز الفتح للتخفيف ، انتهى.
وقوله : بأحدثهما : إما على سبيل الاستفتاء والسؤال أو كان عالما بهذا الحكم قبل ذلك من جهتهم عليهمالسلام ، وإلا فكيف يجوز عليهالسلام فتواه من جهة الظن مع تيسر العلم ، ولما كان الاختلاف للتقية قال عليهالسلام : أبي الله إلا أن يعبد سرا ، أي في دولة الباطل ، والعبادة في السر هي الاعتقاد بالحق قلبا أو العمل بالحكم الأصلي سرا وإظهار خلاف كل منهما علانية وهذا وإن كان عبادة أيضا وثوابه أكثر لكن الأولى هو الأصل فلذا عبر هكذا.
الحديث الثامن : ضعيف.
« ما بلغت » أي في الأمم السابقة أو في هذه الأمة أيضا لأن أعظم التقية في هذه الأمة مع أهل الإسلام المشاركين لهم في كثير من الأحكام ولم تبلغ التقية منهم إلى حد إظهار الشرك ، والزنانير جمع الزنار وزان التفاح وهو على ما وسط النصارى والمجوس ، وتزنروا شدوا الزنار على وسطهم.
٩ ـ عنه ، عن أحمد بن محمد ، عن الحسن بن علي بن فضال ، عن حماد بن واقد اللحام قال استقبلت أبا عبد الله عليهالسلام في طريق فأعرضت عنه بوجهي ومضيت فدخلت عليه بعد ذلك فقلت جعلت فداك إني لألقاك فأصرف وجهي كراهة أن أشق عليك فقال لي رحمك الله ولكن رجلا لقيني أمس في موضع كذا وكذا فقال عليك السلام يا أبا عبد الله ما أحسن ولا أجمل.
١٠ ـ علي بن إبراهيم ، عن هارون بن مسلم ، عن مسعدة بن صدقة قال قيل لأبي عبد الله عليهالسلام إن الناس يروون أن عليا عليهالسلام قال على منبر الكوفة أيها الناس إنكم ستدعون إلى سبي فسبوني ثم تدعون إلى البراءة مني فلا تبرءوا مني فقال ما أكثر ما يكذب الناس على علي عليهالسلام ثم قال إنما قال إنكم ستدعون إلى سبي فسبوني ثم ستدعون إلى البراءة مني وإني لعلى دين محمد ولم يقل لا تبرءوا مني فقال له السائل أرأيت إن اختار القتل دون البراءة فقال والله ما ذلك
______________________________________________________
الحديث التاسع : مجهول.
وفي القاموس شق عليه الأمر شقا ومشقة صعب ، وعليه أوقعه في المشقة « ما أحسن » ما نافية ، أي لم يفعل الحسن حيث ترك التقية ، وسلم علي على وجه المعرفة والإكرام بمحضر المخالفين « ولا أجمل » أي ولا فعل الجميل وقيل : أي ما أجمل حيث قدم الظرف على السلام وهو يدل على الحصر وعبر بالكنية وكل منهما يدل على التعظيم.
الحديث العاشر : ضعيف على المشهور.
« إنكم ستدعون » هذا من معجزاته صلوات الله عليه فإنه أخبر بما سيقع وقد وقع لأن بني أمية لعنهم الله أمروا الناس بسبه عليهالسلام وكتبوا إلى عما لهم في البلاد أن يأمروهم بذلك ، وشاع ذلك حتى إنهم سبوه عليهالسلام على المنابر « وما له إلا ما مضى عليه عمار بن ياسر » روى العامة والخاصة أن قريشا أكرهوا
عليه وما له إلا ما مضى عليه عمار بن ياسر حيث أكرهه أهل مكة وقلبه مطمئن
______________________________________________________
عمارا وأبويه ياسرا وسمية على الارتداد فلم يقبله أبواه فقتلوهما وأعطاهم عمار بلسانه ما أرادوا مكرها ، فقيل : يا رسول الله إن عمارا كفر فقال : كلا إن عمارا مليء إيمانا من قرنه إلى قدمه واختلط الإيمان بلحمه ودمه ، فأتى رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم عمار وهو يبكي فجعل رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم يمسح عينيه فقال : ما لك إن عادوا فعد لهم بما قلت.
أقول : وينافي هذا الخبر ظاهرا ما رواه السيد رضياللهعنه في نهج البلاغة أنه قال عليهالسلام : لأصحابه : أما إنه سيظهر عليكم بعدي رجل رحب البلعوم مندحق البطن يأكل ما يجد ويطلب ما لا يجد فاقتلوه ولن تقتلوه إلا وإنه سيأمركم بسبي والبراءة مني ، فأما السب فسبوني فإنه لي زكاة ولكم نجاة ، وأما البراءة فلا تتبرءوا مني فإني ولدت على الفطرة وسبقت إلى الإيمان والهجرة « والبلعوم » مجرى الطعام في الحلق « ومندحق البطن » أي بارزه ، وقيل : واسعه « وأكل ما يجد » كناية عن كثرة أكله أو عن الإسراف والتبذير وطلب ما لا يجد عن الحرص أو عدم الظفر بالمقصد الأصلي ، واختلف في هذا الرجل فقيل : هو زياد بن أبيه أو الحجاج أو المغيرة بن شعبة أو معاوية عليهم اللعنة ، وقد كان معاوية معروفا بكثرة الأكل حتى يضرب به المثل قال الشاعر :
وصاحب لي بطنه كالهاوية |
كان في أمعائه معاوية |
« فإنه لي زكاة » أي زيادة في حسناتي أو لا ينقص من قدري في الدنيا شيئا بل أزيد شرفا وعلو قدر وشياع ذكر ، وأما ولادته عليهالسلام على الفطرة فاستشكل فيها بأن ميلاده عليهالسلام كان متقدما على الإسلام ولو أريد بالفطرة ما يولد عليه كل مولود فذلك مما لا يختص به أحد مع أن الولادة على الإسلام ليس خاصة له عليهالسلام.
بالإيمان فأنزل الله عز وجل فيه « إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ » (١) فقال له
______________________________________________________
وأجيب بأن المراد بالولادة على الفطرة أنه لم يولد في الجاهلية لأنه عليهالسلام ولد لثلاثين عاما مضت من عام الفيل ، والنبي صلىاللهعليهوآلهوسلم أرسل لأربعين مضت منها.
وقد جاء في الأخبار الصحيحة أنه عليهالسلام مكث قبل الرسالة سنين عشرا يسمع الصوت ويرى الضوء ولا يخاطبه أحد ، وكان ذلك إرهاصا لرسالته فحكم تلك السنين العشر أيام رسالته ، فالمولود فيها إذا كان في حجره وهو المتولي لتربيته كان مولودا في أيام كأيام النبوة وليس بمولود في الجاهلية ففارقت حاله حال من يدعى له الفضل من الصحابة ، ويقصد بالتبري منه عليهالسلام توليهم.
وروي أن السنة التي ولد عليهالسلام فيها كان يسمع الهتاف من الأحجار والأشجار وابتدأ فيها بالتبتل والانقطاع والعزلة في جبل حراء ، فلم يزل كذلك حتى كوشف بالرسالة وأنزل عليه الوحي ، وقال لأهله ليلة ولادته وفيها شاهد ما شاهد من الكرامات والقدرة الإلهية التي لم يشاهدها قبلها : لقد ولد لنا الليلة مولود يفتح الله به علينا أبوابا من النعمة والرحمة.
وقيل : المراد الولادة على الفطرة التي لم يتغير ولم يتبدل بفساد العقائد باتباع الآباء ومتابعة الشبهات وإضلال المضلين ، وذلك أمر لا يعم كل مولود وإن كانت الولادة على الفطرة بمعنى الاستعداد للمعارف لو لم يمنع مانع من الأمور المذكورة مشتركة بين الجميع.
وقيل : يمكن أن يراد بالفطرة الخلقة التي لم يطرء عليها مخالفة أمر الله ونهيه وهي العصمة ، أي لم أخرج عن اتباع أمر الله مذ ولدت ، وأما السبق إلى الهجرة فقيل : إنه عليهالسلام لم يسبق على جميع الصحابة وقد بات على فراشه صلىاللهعليهوآلهوسلم لما هاجر إلى المدينة ومكث أياما لرد الودائع التي كانت عنده صلىاللهعليهوآلهوسلم.
__________________
(١) سورة النحل : ١٠٦.
.................................................................................................
______________________________________________________
وأجيب : بأن المراد بالهجرة الجنس وأول هجرة هاجرها رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم خروجه إلى بني عامر بن صعصعة لما مات أبو طالب عليهالسلام ، وأوحى إليه : أن اخرج فقد مات ناصرك ، وكانت مدة تلك الغيبة عشرة أيام ولم يصحبه في تلك الهجرة إلا علي عليهالسلام وحده.
ثم هاجر إلى شيبان وكان معه هو عليهالسلام وأبو بكر وقد كان تخلفه عليهالسلام في الهجرة إلى المدينة أسبق إلى الرتبة من السبق إليها كما لا يخفى على من له أدنى فطنة ، وأما السبق إلى الإيمان فمن خصائصه عليهالسلام عندنا وعند كثير من مشاهير العامة وقد أشبعنا الكلام في ذلك في الكتاب الكبير ، وينافيه أيضا ما رواه الكشي بإسناده عن حجر بن عدي قال : قال لي علي عليهالسلام : كيف تصنع أنت إذا ضربت وأمرت بلعني؟ قال : قلت له : كيف أصنع؟ قال العني ولا تبرأ مني فإني على دين الله ، وهذا يدل على أن اللعن في حكم السب ، ويؤيد خبر الكتاب ما رواه صاحب كتاب الغارات بإسناده عن الباقر قال : خطب علي عليهالسلام على منبر الكوفة فقال : سيعرض عليكم سبي فسبوني وإن عرض عليكم البراءة مني فإني على دين محمد صلىاللهعليهوآلهوسلم ولم يقل فلا تبرءوا مني ، وروي أيضا عن الصادق عليهالسلام قال : قال علي عليهالسلام : لتذبحن على سبي وأشار بيده إلى حلقه ، ثم قال : فإن أمروكم بسبي فسبوني وإن أمروكم أن تبروا مني فإني على دين محمد صلىاللهعليهوآلهوسلم ولم ينههم عن إظهار البراءة.
وأقول : الجمع بين تلك الروايات في غاية الإشكال ويمكن الجمع بينها بحمل البراءة المنهي عنها على البراءة القلبية والمجوزة على اللفظية ، لكن ينافيه بعض ما سيأتي من الأخبار ، وحمل ابن أبي الحديد البراءة على اللفظية وقال : لما لم تطلق البراءة في الكتاب الكريم إلا في حق المشركين كقوله تعالى : « بَراءَةٌ
النبي صلىاللهعليهوآله عندها يا عمار إن عادوا فعد فقد أنزل الله عز وجل عذرك.
______________________________________________________
مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ » (١) وقوله عز وجل : « أَنَّ اللهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ » (٢) فيحمل النهي في كلامه عليهالسلام على أن التحريم في البراءة أشد وإن كان الحكم في كل من السب والبراءة التحريم ، ويرد عليه أن النهي عن البراءة في كلامه عليهالسلام في حال الإكراه ، وقد صرح هذا القائل بجواز كل من السب والتبري على وجه التقية وأنه يجوز للمكلف أن لا يفعلهما وإن قتل إذا قصد بذلك إعزاز الدين إلا أن يحمل النهي على التنزيه ، ويقول بالكراهة في إظهار البراءة ويجعل الصبر على القتل مستحبا بخلاف السب إلا أنه لم يصرح بهذا الفرق ، ولم أطلع عليه في كلام غيره ، ويمكن أن يقال : بكراهة الأمرين وشدتها في الثاني ويحمل الأمر بالسب في كلامه عليهالسلام على الجواز ولو على وجه الكراهة ، ويظهر من الشهيد قدسسره التخيير في التبري بين الفعل والترك وفي كل كلمة كفر حيث قال في قواعده : إن التقية تبيح كل شيء حتى إظهار كلمة الكفر ولو تركها حينئذ أثم إلا في هذا المقام ومقام التبري من أهل البيت عليهمالسلام فإنه لا يأثم بتركها بل صبره إما مباح أو مستحب خصوصا إذا كان ممن يقتدى به ، انتهى.
ولا يظهر من كلامه الفرق بل لا يبعد شمول كلمة الكفر للسب وإن قابلها بالتبري وما ذكره مناف لبعض الروايات كما عرفت ، وقد ذكر أبو الصلاح قدسسره في الكافي فصلا طويلا نذكر منه موضع الحاجة ، قال : فأما ما يقع به الإكراه فالخوف على النفس متى فعل الحسن واجتنب القبيح لحصول الإجماع بكون ذلك إكراها مؤثرا وعدم دليل بما دونه من ضروب الخوف ، ثم قال (ره) : فإذا حصل شرط
__________________
(١ و ٢) سورة البرائة : ١ ـ ٣.
.................................................................................................
______________________________________________________
الإكراه فما أكره عليه المكلف على ضربين ، أحدهما لا يصح فيه الإكراه ، والثاني يصح.
فالأول أفعال القلوب كلها لأن المكره لا سبيل له إلى علمها فلا يصح الإلجاء إلى شيء منها وما يصح فيه الإكراه أفعال الجوارح ، وهو على ضربين :
أحدهما لا يؤثر فيه الإكراه والثاني يؤثر ، فالأول القبائح العقلية كلها كالظلم والكذب ومن السمعيات الزنا بإجماع الأمة وشرب الخمر بإجماع الفرقة ، والثاني الواجبات العقلية والسمعية وما عدا ما ذكرناه من المحرمات ، فأما الواجبات فيؤثر فيها التأخير عن أوقاتها وتغير كيفياتها والنيابة فيها وسقوط ما لا يصح ذلك فيه ، وأما المحرمات فيؤثر إباحتها كالميتة ولحم الخنزير والصيد في الحرم أو الإحرام وساق الكلام في ذلك إلى قوله : فأما إظهار كلمة الكفر وإنكار الإيمان أو إنكار كلمته مع الخوف على النفس مع الإمساك عن الأولة وإظهار الثانية فيختلف الحال فيه فإن كان مظهر الإيمان والحجة به ومنكر الكفر والممتنع من إظهار شعاره في رتبة من يكون ذلك منه إعزازا للدين كرؤساء المسلمين في العلم والدين والعبادة وتنفيذ الأحكام ، فالأولى به إظهار الإيمان والامتناع من كلمة الكفر فإن قتل فهو شهيد ويجوز له ما أكره عليه ، وإن كان من أطراف الناس وممن لا يؤثر فعله ما أكره عليه أو اجتنابه غضاضة في الدين ففرضه ما دعي إليه فليور في كلامه ما يخرج به عن الكذب ولا يحل له ما جاز لمن ذكرناه من رؤساء الملة على حال ، انتهى.
وقال صاحب الجامع : إن أكره المكلف على إظهار كلمة الكفر بالقتل جاز له إظهارها ، ولو احتملها ولم يظهرها كان مأجورا ، وإن أكره بالقتل على الإخلال بواجب سمعي أو عقلي أو على فعل قبيح سمعي جاز له ذلك ، وإن أكره على قبيح عقلي فإن كان مما له عنه مندوحة ، كالكذب ورى في نفسه ، وإن كان غيره كالظلم لم يحسنه الإكراه.
وأمرك أن تعود إن عادوا.
١١ ـ محمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد ، عن علي بن الحكم ، عن هشام الكندي قال سمعت أبا عبد الله عليهالسلام يقول إياكم أن تعملوا عملا يعيرونا به فإن ولد السوء يعير والده بعمله كونوا لمن انقطعتم إليه زينا ولا تكونوا عليه شينا صلوا في عشائرهم وعودوا مرضاهم واشهدوا جنائزهم ولا يسبقونكم إلى شيء من الخير فأنتم أولى به منهم والله ما عبد الله بشيء أحب إليه من الخبء قلت وما الخبء قال التقية.
١٢ ـ عنه ، عن أحمد بن محمد ، عن معمر بن خلاد قال سألت أبا الحسن عليهالسلام عن
______________________________________________________
وروي أنه يأخذ المال بالإكراه فإن تمكن من رده فعل ولا خلاف أن قتل النفس المحرمة لا يستباح بالإكراه أبدا.
قوله عليهالسلام : وأمرك ، يمكن أن يكون على صيغة الماضي الغائب بإرجاع المستتر إلى الله وبصيغة المضارع المتكلم.
الحديث الحادي عشر : صحيح.
قوله عليهالسلام : فإن ولد السوء ، بفتح السين من إضافة الموصوف إلى الصفة وهذا على التنظير أو هو مبني على ما مر مرارا من أن الإمام بمنزلة الوالد لرعيته والوالدين في بطن القرآن النبي والإمام عليهماالسلام وقد اشتهر أيضا أن المعلم والد روحاني والشين العيب « صلوا في عشائرهم » يمكن أن يقرأ صلوا بالتشديد من الصلاة ، وبالتخفيف من الصلة أي صلوا المخالفين مع عشائرهم ، أي كما يصلهم عن عشائرهم ، وقيل : أي إذا كانوا عشائركم والضمائر للمخالفين بقرينة المقام وفي بعض النسخ عشائركم.
« ولا يسبقونكم » خبر في معنى الأمر والخباء الإخفاء والستر ، تقول خبأت الشيء خبئا من باب منع إذا أخفيته وسترته ، والمراد به هنا التقية لأن فيها إخفاء الحق وستره.
الحديث الثاني عشر : كالسابق.
القيام للولاة فقال قال أبو جعفر عليهالسلام التقية من ديني ودين آبائي ولا إيمان لمن لا تقية له.
١٣ ـ علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن حماد ، عن ربعي ، عن زرارة ، عن أبي جعفر عليهالسلام قال التقية في كل ضرورة وصاحبها أعلم بها حين تنزل به.
١٤ ـ علي ، عن أبيه ، عن ابن محبوب ، عن جميل بن صالح ، عن محمد بن مروان ، عن أبي عبد الله عليهالسلام قال [ كان ] أبي عليهالسلام يقول وأي شيء أقر لعيني من التقية إن التقية جنة المؤمن.
١٥ ـ علي ، عن أبيه ، عن ابن أبي عمير ، عن جميل ، عن محمد بن مروان قال قال
______________________________________________________
« عن القيام للولاة » أي القيام عندهم أو لتعظيمهم عند حضورهم أو مرورهم ويفهم منه عدم جواز القيام لهم عند عدم التقية وعلى جوازه للمؤمنين بطريق أولى وفيه نظر ، وقيل : المراد القيام بأمورهم والائتمار بأمرهم ولا يخفى بعده.
الحديث الثالث عشر : حسن كالصحيح.
ويدل على وجوب التقية في كل ما يضطر إليه الإنسان إلا ما خرج بدليل وعلى أن الضرورة منوطة بعلم المكلف وظنه وهو أعلم بنفسه كما قال تعالى : « الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ » (١) والله يعلم من نفسه أنه مداهنة أو تقية.
الحديث الرابع عشر : مجهول ، « جنة للمؤمن » أي من ضرر المخالفين.
الحديث الخامس عشر : كالسابق.
« ما منع ميثم » كأنه كان ميثما فصحف ويمكن أن يقرأ منع على بناء المجهول ، أي لم يكن ميثم ممنوعا من التقية في هذا الأمر فلم لم يتق؟ فيكون الكلام مسوقا للإشفاق لا الذم والاعتراض كما هو الظاهر على تقدير النصب ، ويحتمل أن يكون على الرفع مدحا بأنه مع جواز التقية تركه لشدة حبه لأمير المؤمنين عليهالسلام ويحتمل أن يكون المعنى : لم يمنع من التقية ولم يتركها لكن لم تنفعه وإنما تركها
__________________
(١) سورة القيامة : ١٤.