مرآة العقول - ج ١

الشيخ محمّد باقر بن محمّد تقي المجلسي

مرآة العقول - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّد باقر بن محمّد تقي المجلسي


الموضوع : الحديث وعلومه
الناشر: دار الكتب الإسلاميّة
المطبعة: مروي
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٥٦

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله الذي وهب الحياة والقوى وأفاض العقل ليغلب به الهوى ، وبين للورى نجدى الضلالة والهدى ورفع أهل العلم والحجى وذوى العقل والنهى من الثرى إلى الثريا ومن دركات الردى إلى درجات العلى وأثنى عليهم عدد الرمل والحصى وأوضح فضلهم لكل من سمع ودرى فله الحمد على نعمه التي لا تحصى وله الشكر على أياديه التي لا تستقصى ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن سيد الأنبياء وصفوة الأصفياء محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله عبده ورسوله وخليله وحبيبه ونجيبه وخيرته من خلقه وأن صهره المجتبى وأخاه المرتضى وخليفته المقتدى : علي بن أبي طالب صلوات الله عليه أشرف الأوصياء وإمام الأتقياء وحجة الله على أهل الأرض والسماء وأن الأئمة الراشدين والخلفاء الهادين من ذريته حجج الله على الخلق أجمعين ومعاقل العباد في الدنيا والدين وسادات الأوصياء المنتجبين وآيات الله في العالمين فصلوات الله عليه وعليهم والأولين والآخرين ولعنة الله على أعدائهم دهر الداهرين.

أما بعد : فيقول المذنب الخاطىء الخاسر القاصر عن نيل المفاخر والمآثر ابن الغريق في بحار رحمة الله الغافر محمد تقي قدس الله روحه : محمد باقر غفر الله لهما وحشرهما مع أئمتهما : إني لما ألفيت أهل دهرنا على آراء متشتتة وأهواء مختلفة قد طارت بهم الجهالات إلى أوكارها وغاصت بهم الفتن في غمارها وجذبتهم الدواعي المتنوعة

١

إلى أقطارها وحيرتهم الضلالة في فيافيها وقفارها فمنهم من سمى جهالة أخذها من حثالة (١) من أهل الكفر والضلالة المنكرين لشرايع النبوة وقواعد الرسالة : حكمة واتخذ من سبقه في تلك الحيرة والعمى أئمة يوالي من والاهم ويعادي من عاداهم ويفدي بنفسه من اقتفى آثارهم ويبذل نفسه في إذلال من أنكر آراءهم وأفكارهم ويسعى بكل جهده في إخفاء أخبار الأئمة الهادية صلوات الله عليهم وإطفاء أنوارهم (ويأبى الله إلاّ أن يتم نوره ولو كره) المشركون.

ومنهم عن يسلك مسالك أهل البدع والأهواء المنتمين إلى الفقر والفناء ليس لهم في دنياهم وأخراهم إلا الشقاء والعناء فضحهم الله عند أهل الأرض كما خذلهم عند أهل السماء فهم اتخذوا الطعن على أهل الشرايع والأديان بضاعتهم وجعلوا تحريف العقائد الحقة عن جهاتها وصرف النواميس الشرعية عن سماتها بضم البدع إليها صناعتهم ومنهم من تحير في جهالته يختطفهم شياطين الجن والإنس يمينا وشمالا فهم في ريبهم يترددون عميانا وضلالا فبصر الله نفسي بحمده تعالى هداها وألهمها فجورها وتقواها فاخترت طريق الحق إذ هو حقيق بأن يبتغي واتبعت سبيل الهدى إذ هو جدير بأن يقتفى فنظرت بعين مكحولة بكحل الإنصاف مشفية من رمد العناد والاعتساف إلى ما نزل في القرآن الكريم من الآيات المتكاثرة وما ورد في السنة النبوية من الأخبار المتواترة بين أهل الدراية والرواية من جميع الأمة فعلمت يقينا أن الله تعالى لم يكلنا في شىء من أمورنا إلى آرائنا وأهوائنا بل أمرنا باتباع نبيه المصطفى المبعوث لتكميل كافة الورى وتبيين طرق النجاة لمن آمن واهتدى وأهل بيته الذين جعلهم مصابيح الدجى وأعلام سبيل الهدى وأمرنا في كتابه وعلى لسان نبيه بالرد إليهم والتسليم لهم والكون معهم فقرنهم بالقرآن الكريم وأودعهم علم الكتاب وآتاهم الحكمة وفصل الخطاب وجعلهم باب الحطة وسفينة النجاة وأيدهم بالبراهين والمعجزات وبعد ما غيب الله شمس الإمامة وراء

__________________

(١) بالحاء المهملة والثاء المثلثة : الردى من كل شىء وثفالته.

٢

السحاب أصبح ماء الهداية والعلم غورا فمنعنا عن الوصول إلى البحر العباب واستتر عنا سلطان الدين خلف الحجاب أمرنا بالرجوع إلى الزبر والأسفار والأخذ ممن تحمل عنهم من الثقات الأخيار المأمونين على الروايات والأخبار فدريت بما القيت إليك أن حقيقة العلم لا توجد إلا في أخبارهم وأن سبيل النجاة لا يعثر عليه إلا بالفحص عن آثارهم فصرفت الهمة عن غيرها إليها واتكلت في أخذ المعارف عليها فلعمري لقد وجدتها بحورا مشحونة بجواهر الحقايق ولعاليها وكنوزا مخزونة عمن لم يأتها موقنا بها مذعنا بما فيها فأحييت بحمد الله ما اندرس من آثارها وأعليت بفضل الله ما انخفض من أعلامها وجاهدت في ذلك وما باليت بلؤم اللائمين وتوكلت على العزيز الرحيم الذى يراني حين أقوم تقلبي في الساجدين ولقد كنت علقت على كتب الأخبار حواشي متفرقة عند مذاكرة الإخوان الطالبين للتحقيق والبيان وخفت ضياعها بكرور الدهور واندراسها بمرور الأزمان فشرعت في جمعها مع تشتت البال وطفقت أن أدونها مع تبدد الأحوال وابتدأت بكتاب الكافي للشيخ الصدوق ثقة الإسلام مقبول طوائف الأنام ممدوح الخاص والعام : محمد بن يعقوب الكليني حشره الله مع الأئمة الكرام لأنه كان أضبط الأصول وأجمعها وأحسن مؤلفات الفرقة الناجية وأعظمها وأزمعت على أن أقتصر على ما لا بد منه في بيان حال أسانيد الأخيار التي هي لها كالأساس والمباني وأكتفى في حل معضلات الألفاظ وكشف مخيبات المطالب بما يتفطن به من يدرك بالإشارات الخفية دقائق المعاني وسأذكر فيها إنشاء الله كلام بعض أفاضل المحشين وفوائدهم وما استفدت من بركات أنفاس مشايخنا المحققين وعوايدهم من غير تعرض لذكر أسمائهم أو ما يرد عليهم.

ثم إنه كان مما دعاني إليه وحداني عليه التماس ثمرة فؤادي وأعز أولادي ومن كان له أرقي وسهادي : محمد صادق رزقه الله نيل الدقائق وأوصله إلى ذري (١) الحقايق وكان أهلا للإجابة لبره ودقة نظره ورعايته وأرجو إن عاجلني الأجل أن

__________________

(١) جمع الذروة ـ بكسر الذال ـ المكان المرتفع. أعلى الشىء.

٣

يوفقه الله سبحانه لإتمامه وسميته بكتاب مرآت العقول في شرح أخبار آل الرسول وأرجو من فضله تعالى وإنعامه أن يوفقني لإتمامه على أبلغ نظامه وأن ينفع به عامة الطالبين للحق المبين وأن يجعله ذريعة لنجاتي من شدائد أهوال يوم الدين والحمد لله أولا وآخرا وصلى الله محمد وأهل بيته الأكرمين ولنشرح الخطبة على الاختصار فإن تفصيل شرح الفقرات سيأتي إنشاء الله تعالى متفرقا في شرح الأخبار.

٤

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله المحمود لنعمته المعبود لقدرته ، المطاع في سلطانه ، المرهوب لجلاله ، المرغوب إليه فيما عنده ، النافذ أمره في جميع خلقه ، علا فاستعلى ، ودنا فتعالى ،

________________________________________________________

قوله : لنعمته ، في بعض النسخ بنعمته ، ويحتمل أن تكون النعمة محمودا بها ، ومحمودا عليها ، وآلة ، فالمعنى على الأول انه يحمد بذكر نعمه ، وعلى الثاني أنه يحمد شكرا على نعمه السابقة استزادة لنعمه اللاحقة ، وعلى الثالث انه يحمد بالآلات أنه يحمد شكرا على نعمه السابقة استزادة لنعمه اللاحقة ، وعلى الثالث انه يحمد بالآلات والأدوات ، والتوفيقات التي وهبها ، فيستحق بذلك محامد أخرى وهذا بالباء أنسب ، وكذا الفقرة التالية تحتمل نظير تلك الوجوه ، أي يعبد لقدرته وكماله ، فهو بذلك مستحق للعبادة ، أو لقدرته على الإثابة والانتقام ، أو إنما يعبد بقدرته التي أعطانا عليها.

قوله : في سلطانه ، أي فيما أراده منا على وجه القهر والسلطنة لا فيما أراده منا وأمرنا به على وجه الإقدار والاختيار ، أو بسبب سلطنته وقدرته على ما يشاء.

قوله : فيما عنده ، أي من النعم الظاهرة والباطنة ، والبركات الدنيوية والأخروية.

قوله : فاستعلى ، الاستعلاء اما مبالغة في العلو أو بمعنى إظهاره ، أو للطلب ، فعلى الأول لعل المعنى انه تعالى علا علوا ذاتيا فصار ذلك سببا لأن يكون مستعليا عن مشابهة المخلوقات ، وعن أن تدركه عقولهم وأوهامهم ، وعلى الثاني : المعنى انه كان عاليا من حيث الذات والصفات ، فأظهرها علوه بايجاد المخلوقات ، وعلى الثالث لابد من ارتكاب تجوز أي طلب من العباد أن يعدوه عاليا ، ويعبدوه ، وعلى التقادير يحتمل أن تكون الفاء بمعنى الواو.

٥

وارتفع فوق كل منظر ، الذي لا بدء لأوليته ، ولا غاية لأزليته ، القائم قبل الأشياء ، والدائم الذي به قوامها ، والقاهر الذي لا يؤوده حفظها ، والقادر الذي بعظمته تفرد بالملكوت ، وبقدرته توحد بالجبروت ، وبحكمته أظهر حججه على خلقه ؛ اخترع الأشياء إنشاء ، وابتدعها ابتداء ، بقدرته وحكمته ، لا من شئ فيبطل الاختراع

________________________________________________________

قوله : وارتفع فوق كل منظر ، المنظر مصدر نظرت إليه وما ينظر إليه ، والموضع المرتفع ، فالمعنى انه تعالى ارتفع عن أنظار العباد أو عن كل ما يمكن أن ينظر إليه ، ويخطر بالبال معنى لطيف وهو : أن المعنى انه تعالى لظهور آثار صنعه في كل شئ ، ظهر في كل شئ ، فكأنه علاه وارتفع عليه ، فكلما نظرت إليه فكأنك وجدت الله عليه.

قوله : لا بدء لأوليته ، أي لسبقه الذاتي ، فإنه تعالى علة العلل ، وليس له ولا لعليته علة ، أو الزماني ، أي لا يسبقه أحد في زمان ولا زمان.

قوله : القائم ، أي الموجود القائم بذاته ، أو القائم بتدبير الأشياء وتقديرها قبل خلقها ، ويمكن أن يراد بالقبلية القبلية الذاتية.

قوله : والقاهر الذي ، قال الوالد العلامة طيب الله رمسه : القاهر هو الذي قهر العدم وأوجد الأشياء منه وحفظها بقدرته الكاملة ، ولا يؤده أي لا يثقل عليه حفظها ، ولعل فيه إشارة إلى احتياج الباقي في بقائه إلى المؤثر.

قوله : بالملكوت ، هو فعلوت من الملك كالجبروت من الجبر ، وقد يطلق عالم الملكوت على عالم المجردات والمفارقات ، وعالم الملك على الجسمانيات والمقارنات ، وقد يطلق الأول على السماويات ، والثاني على الأرضيات ، والظاهر ان المراد هنا تفرده تعالى بنهاية الملك والسلطنة.

قوله : حججه ، أي آياته التي أظهرها في الآفاق والأنفس ، أو الأنبياء والأوصياء عليهم السلام أو الأعم.

قوله : لا من شئ ، قال بعض الأفاضل : الاختراع والابتداع متقاربان في المعنى

٦

ولا لعلة فلا يصح الابتداع ، خلق ما شاء كيف شاء ، متوحدا بذلك لإظهار حكمته ، وحقيقة ربوبيته ، لا تضبطه العقول ، ولا تبلغه الأوهام ، ولا تدركه الأبصار ، ولا يحيط به مقدار ، عجزت دونه العبارة ، وكلت دونه الأبصار ، وضل فيه تصاريف الصفات.

احتجب بغير حجاب محجوب ، واستتر بغير ستر مستور ، عرف بغير رؤية ، و

________________________________________________________

وكثر استعمال الاختراع في الايجاد لا بالأخذ من شئ يماثل الموجد ويشابهه ، والابتداع في الايجاد لا لمادة وعلة فقوله : لا من شئ ، أي لا بالأخذ من شئ فيبطل الاختراع ، ولا لعلة أي لمادة فيبطل الابتداع.

قوله : لإظهار حكمته ، علة للخلق أو للتوحيد ، والمعنى انه تعالى خلق الأشياء على هذا النظام العجيب والصنع الغريب ، متوحدا بذلك بدون مشاركة أحد ليستدلوا بها على علمه وحكمته ، وانه الرب حقيقة ، أو ليستدلوا على انه تعالى لم يخلق هذا الخلق عبثا ، وإن الحكمة في خلقها العبادة والمعرفة ، وأن يطيعوه ويعبدوه ، فإنه حقيقة الربوبية وما يحق لربوبيته ويلزمها ، ولعل الأول أظهر.

قوله : لا تضبطه العقول ، أي تبلغ العقول ادراكه بنحو قاصر عن الإحاطة به وضبطه ، فهو غير محدود وغير منضبط الحقيقة ، ولكنه مصدق بوجوده ، منفيا عنه جميع ما تحيط به العقول والأفهام ، ولا تبلغه الأوهام ، حيث يتعالى عن أن يحس بها ولا تدركه الابصار حيث لا صورة له ولا مثال ، ولا يتشكل بشكل ، ولا يحاد بحد ، ولا يتقدر بمقدار فقوله : ولا يحيط به مقدار ، كالتأكيد لسابقتها إن أريد بالمقدار المقادير الجسمانية ، وإن أريد به الأعم من المقادير العقلية فهي مؤكدة لسوابقها.

قوله : بغير حجاب محجوب ، المحجوب أما مرفوع أو مجرور ، فعلى الأول خبر مبتداء محذوف ، أي هو محجوب بغير حجاب ، فالجملة مستأنفة لبيان أن احتجابه ليس كإحتجاب المخلوقين ، وعلى الثاني يحتمل جره بالإضافة أي بغير حجاب يكون للمحجوبين ، أو بالتوصيف بأن يكون المحجوب بمعنى الحاجب ، كما قيل في قوله

٧

وصف بغير صورة ، ونعت بغير جسم ، لا إله إلا الله الكبير المتعال ، ضلت الأوهام عن

________________________________________________________

تعالى : « حجابا مستورا (١) » أو بمعناه أي ليس حجابه مستورا ، بل حجابه أمر ظاهر على العقول ، وهو تجرده وتقدسه وكماله ، ونقص الممكنات ، أو المعنى انه ليس محجوبا بحجاب محجوب بحجاب آخر (٢) كما هو شأن المخلوقين المحجوبين ، أو ليس احتجابه احتجابا بالكلية ، بحيث لا يصل إليه العقل أصلا ، أو المعنى : انه ليس محتجبا بحجاب محجوب فضلا عن الحجاب الظاهر ، فيكون نفيا للفرد الأخفى ، ويحتمل أن يكون المراد بالحجاب من يكون واسطة بين الله تعالى وبين خلقه ، كما ان الحجاب واسطة بين المحجوب والمحجوب عنه ، وكثيرا ما يطلق على من يقف أبواب الملوك ليوصل إليهم خبر الناس حاجبا وحجابا ، فالمراد بالحجاب الأنبياء والأوصياء عليهم السلام وقد أظهرهم الله تعالى للناس ، وبين حجيتهم وصدقهم بالآيات البينات ، والاحتمالات كلها جارية في الفقرة الثانية ، ويحتمل أن تكون الثانية مؤكدة للأولى ، وأن يكون المراد بالأولى الاحتجاب عن الحواس ، وبالثانية الاحتجاب عن العقول ، كل ذلك أفاده الوالد العلامة قدس الله روحه.

قوله : بغير رؤية ، وربما يقرء روية بتشديد الياء بغير همزة ، أي معرفة وجوده بديهي ، ولا يخفى بعده.

قوله : بغير جسم ، أي بغير أن يكون توصيفه بالجسمية ، أو بما يستلزمها ، وقيل أي غير جسم نعت له.

___________________

(١) سورة الاسراء : ٤٥.

(٢) في المطبوعة : « ليس محجوبا بالحجاب محجوب بحجاب آخر » وفي نسخة [ ب ] « ليس محجوبا بحجاب يكون محجوبا بحجاب آخر » وما اخترناه في المتن في المتن هو الموافق لنسخة [ ح ] المكتوب بخط الشارح قدس سره الشريف.

٨

بلوغ كنهه ، وذهلت العقول أن تبلغ غاية نهايته ، لا يبلغه حد وهم ، ولا يدركه نفاذ بصر ، وهو السميع العليم ، احتج على خلقه برسله ، وأوضح الأمور بدلائله ، وابتعث الرسل مبشرين ومنذرين ، ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة ، وليعقل العباد عن ربهم ما جهلوه ، فيعرفوه بربوبيته بعدما أنكروه ، ويوحدوه

________________________________________________________

قوله : عن بلوغ كنهه ، لأنه تعالى ليس بمركب وما ليس بمركب لا يمكن إدراك كنهه.

قوله : غاية نهايته ، الغاية تطلق على المسافة وعلى نهايتها والأول هنا أظهر ، أي لا تبلغ العقول إلى مسافة تنتهي إلى نهاية معرفته فكيف إليها ، والحمل على الثاني بالإضافة البيانية بعيد.

قوله : حدوهم ، أي حدة الأوهام ، أو نهاية معرفة الأوهام.

قوله : نفاذ بصر ، قال الجوهري نفذ السهم من الرمية ونفذ الكتاب إلى فلان ورجل نافذ في أمره أي ماض ، والكل محتمل.

قوله : بدلائله ، أي أوضح كل أمر بدليل نصبه عليها كوجوده وكمال ذاته بما أوجد في الآفاق والأنفس من آياته ، والرسل والحجج عليهم السلام بالمعجزات والأحكام الشرعية بما بين في الكتاب والسنة.

قوله : وابتعث الرسل ، الابتعاث الإرسال كالبعث.

قوله : ليهلك ، قال البيضاوي : المعنى ليموت من يموت عن بينة عاينها ، ويعيش من يعيش عن حجة شاهدها ، لئلا تكون لهم حجة ومعذرة أو ليصدر كفر من كفر وايمان من آمن عن وضوح بينة ، على استعارة الهلاك والحياة للكفر والإسلام ، والمراد بمن هلك ومن حي : المشارف للهلاك والحياة ، أو من هذا حاله في علم الله وقضائه ، وقيل : يحتمل أن يكون من باب المجاز المرسل لأن الكفر سبب للهلكة الحقيقية الأخروية ، والايمان سبب للحياة الحقيقية الأبدية ، فأطلق المسبب على السبب مجازا.

قوله : عن ربهم ، أي بتوسط الرسل.

٩

بالإلهية بعدما أضدوه ، أحمده حمدا يشفي النفوس ، ويبلغ رضاه ، ويؤدي شكر ما وصل إلينا من سوابغ النعماء ، وجزيل الآلاء وجميل البلاء.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، إلها واحدا أحدا صمدا لم يتخذ صاحبة ولا ولدا وأشهد أن محمدا صلى الله عليه وآله عبد انتجبه ، ورسوله ابتعثه ، على حين فترة من الرسل ، وطول هجعة من الأمم ، وانبساط من الجهل ، واعتراض من الفتنة وانتقاض من المبرم وعمى عن الحق ، واعتساف من الجور وامتحاق من الدين.

________________________________________________________

قوله : أضدوه ، أي جعلوا له أضدادا.

قوله : يشفى النفوس ، أي من أمراض الكفر والجهل والأخلاق الذميمة وكأنه على سبيل الاستدعاء والرجاء ، أي أرجو من فضله تعالى أن يكون حمدي كاملا مؤثرا تلك التأثيرات وأطلب منه تعالى ذلك أو هي إنشاء لغاية الشكر وإظهار لنهاية التذلل ، والجزيل : الكثير العظيم ، والآلاء بالمد : النعم ، واحدتها الألا ، بالفتح ، والبلاء : الاختبار بالخير والشر ، وهنا الأول أنسب.

قوله : فترة ، الفترة الضعف والانكسار ، وما بين الرسولين من رسل الله ، والهجعة بالفتح : طائفة من الليل ، والهجوع : النوع ليلا ، كذا في النهاية ، وقال الجوهري : أتيت بعد هجعة من الليل ، أي بعد نومة خفيفة ، واستعيرت هنا لغفلة الأمم عما يصلحهم في الدارين.

قوله : واعتراض من الفتنة ، أي انبساط منها ، ويحتمل أن يكون مأخوذا من قوله اعترض الفرس : إذا مشى في عرض الطريق ، من غير استقامة ، تشبيها للفتنة بهذا الفرس واستعارة لفظ الاعتراض لها. والمبرم : المحكم.

قوله : وعمى عن الحق ، في بعض النسخ : من الحق ، فليست كلمة « من » على سياق ما مر ، إذ كانت فيها ابتدائية ، وهنا صلة بمعنى عن ، إلا أن يكون من قولهم عمى عليه الأمر إذا التبس ، ومنه قوله تعالى : « فميت عليهم الأنباء » (١) وفي قوله : وامتحاق من الدين ، يحتمل الابتدائية والتبعيضية ، والاعتساف : الأخذ على غير

____________________

(١) سورة القصص : ٦٦.

١٠

وأنزل إليه الكتاب ، فيه البيان والتبيان ، قرآنا عربيا غير ذي عوج لعلهم يتقون ؛ قد بينه للناس ونهجه ، يعلم قد فصله ، ودين قد أوضحه ، وفرائض قد أوجبها ، وأمور قد كشفها لخلقه وأعلنها ، فيها دلالة إلى النجاة ، ومعالم تدعو إلى هداه.

فبلغ صلى الله عليه وآله وسلم ما أرسل به ، وصدع بما أمر ، وأدى ما حمل من أثقال النبوة ، وصبر لربه ، وجاهد في سبيله ، ونصح لأمته ، ودعاهم إلى النجاة ، وحثهم على

________________________________________________________

الطريق ، والامتحاق : البطلان والإمحاء ، والتبيان مبالغة في البيان ، أي مع الحجة والبرهان ، وقوله : قرآنا ، حال بعد حال عن الكتاب ، أو بدل منه ، أو منصوب على الاختصاص ، والعوج : الاختلال والاختلاف والشك.

قوله : ونهجه ، بالتخفيف أي أوضحه ، وقوله : بعلم ، إما متعلق بقوله : قد بينه ، أو نهجه ، أو بهما على سبيل التنازع ، أو حال عن الكتاب ، والمستتر في قوله : « وفصله » وقراينه إما راجع إلى الله أو الرسول أو الكتاب.

قوله : فيها دلالة ، الضمير راجع إلى الأمور المذكورة ، وقوله : ومعالم ، إما مرفوع بالعطف على دلالة ، أو مجرور بالعطف على النجاة ، والمعالم جمع معلم وهو ما جعل علامة للطريق والحدود ، والمراد بها هنا مواضع العلوم ، وما يستنبط منه الأحكام وعلى الجر يحتمل النبي والأئمة عليهم السلام ، والضمير في « هداه » راجع إلى الله أو الرسول أو الكتاب ، وقيل : الهاء زايدة كما في « كتابيه » (١) ولا يخفى بعده ، وربما يقرء هداة بالتاء.

قوله : وصدع ، أي أظهره ، وتكلم به جهارا أو فرث به بين الحق والباطل ، وفسر بكلا الوجهين قوله تعالى « فاصدع بما تؤمر » (٢) والأثقال جمع ثقل بالكسر ، ضد الخفة ، أو ثقل بالتحريك وهو متاع البيت والمسافر على الاستعارة.

قوله : على الذكر ، أي القرآن أو كل ما يصير سببا لذكره تعالى.

____________________

(١) سورة الحاقة : ١٩.

(٢) سورة الحجر : ٩٤.

١١

الذكر ودلهم على سبيل الهدى من بعده بمناهج ودواع أسس للعباد أساسها ومنائر رفع لهم أعلامها ، لكيلا يضلوا من بعده ، وكان بهم رؤوفا رحيما.

فلما انقضت مدته ، واستكملت أيامه ، توفاه الله وقبضه إليه ، وهو عند الله مرضي عمله ، وافر حظه ، عظيم خطره ، فمضى صلى الله عليه وآله وسلم وخلف في أمته كتاب الله ووصيه أمير المؤمنين ، وإمام المتقين صلوات الله عليه ، صاحبين مؤتلفين ، يشهد كل واحد منهما لصاحبه بالتصديق ، ينطق الإمام عن الله في الكتاب ، بما أوجب الله فيه

________________________________________________________

قوله : أساسها ، الضمير راجع إلى المناهج والدواعي ، والمراد بسبيل الهدى منهج الشرع القويم ، وبالمناهج والدواعي أوصياؤه عليهم السلام ، وبالتأسيس نصب الأدلة على خلافتهم ، ويحتمل أن يراد بالمناهج الأئمة ، وبالدواعي الأدلة على حجيتهم ، ويحتمل وجوها أخرى لا تخفى ، والمناير جمع المنارة ، وهي ما يرفع لتوقد النار عليه لهداية الضال عن الطريق ، واستعير هنا للأوصياء عليهم السلام لاهتداء الخلق بهم ، ورفع الاعلام لنصب الأدلة ، إذ رفع الاعلام التي يوضع عليها ما يستنار به يصير سببا لكثرة الاهتداء به في الطرق الظاهرة ، فكذا نصب الأدلة وتوضيحها يصير سببا لكثرة الاهتداء بهم عليهم السلام.

قوله : وكان بهم رؤوفا رحيما ، الرأفة أشد الرحمة ، وهذا رد على المخالفين بأنه كيف يدعهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بلاها وأمير وداع ، مع شدة رأفته ورحمته بهم في أمور دنياهم وآخرتهم ، وقوله : فلما انقضت ، تفصيل وبيان لقوله دلهم ، والخطر : القدر والمنزلة.

قوله : بالتصديق ، أي بسببه أو متلبسا به ، والحاصل : انه يشهد كل منهما بحقيقة الآخر ، ويبين كل منهما ما هو المقصود من الآخر ، وقوله : ينطق ، استيناف لبيان هذه الجملة ، وقوله : بما أوجب متعلق بينطق ، والحاصل : ان الإمام يبين من قبل الله تعالى ما أوجب في الكتاب من طاعته في أوامره ونواهيه ، وطاعة الإمام وقوله : وواجب حقه ، عطف إما على الموصول ، أو على طاعته ، والضمير عائد إليه تعالى ، أو على ولايته والضمير راجع إلى الإمام ، وفي بعض النسخ : وأوجب حقه ، و

١٢

على العباد ، من طاعته ، وطاعة الإمام وولايته ، وواجب حقه ، الذي أراد من استكمال دينه ، وإظهار أمره ، والاحتجاج بحججه ، والاستضائة بنوره ، في معادن أهل صفوته ومصطفى أهل خيرته.

فأوضح الله بأئمة الهدى من أهل بيت نبينا صلى الله عليه وآله وسلم عن دينه ، وأبلج بهم عن سبيل مناهجه وفتح بهم عن باطن ينابيع علمه ، وجعلهم مسالك لمعرفته ، ومعالم لدينه ، وحجابا بينه وبين خلقه ، والباب المؤدي إلى معرفة حقه ، وأطلعهم على المكنون من غيب سره.

________________________________________________________

قوله : في معادن ، صفة للنور أو حال منه ، وإضافة المعادن إلى الأهل ، إما بيانية أو لامية ، وعلى الثاني المراد بالمعادن إما القلوب ، فالمراد بالأهل الأئمة عليهم السلام ، أو الأئمة ، فالمراد بالأهل جميع الذرية الطيبة كما سيأتي الاحتمالان في الآية المقتبس منها ، وهي قوله تعالى : « ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا » (١) انشاء الله تعالى ، وقوله : « مصطفى » إما مفرد أو جمع ، ومعطوف على المعادن أو الأهل ، وإضافته إلى الأهل إما بيانية أو لامية ، والخيرة بكسر الخاء وسكون الياء أو فتحها : الاختيار ، وإضافة الأهل إليها لامية.

قوله : عن دينه ، تعديته بكلمة عن لتضمين معنى الكشف ، كما في الفقرة الآتية ، والبلوج : الإضاءة والوضوح ، وأبلجه ، أوضحه ، والمراد بالمناهج كل ما يتقرب به إليه سبحانه ، وسبيلها : دلائلها وما يوجب الوصول إليها.

قوله : ينابيع علمه ، في الكلام استعارة مكنية وتخييلية بتشبيه العلم بالماء وإثبات الينابيع له ، أو من قبيل : لجين الماء ، وقيل : المراد بالينابيع : الآيات القرآنية.

قوله : وحجابا ، هو بالضم والتشديد جمع حاجب ، الذي يكون للسلاطين ، وقوله : أطلعهم بتخفيف الطاء أي جعلهم مطلعين على سره ، المغيب عن غيرهم ، والضمير

____________________

(١) سورة فاطر : ٣٢.

١٣

كلما مضى منهم إمام ، نصب لخلقه من عقبه إماما بينا ، وهاديا نيرا ، وإماما قيما ، يهدون بالحق وبه يعدلون ، حجج الله ودعته ، ورعاته على خلقه ، يدين بهديهم العباد ، ويستهل بنورهم البلاد ، جعلهم الله حياة للأنام ، ومصابيح للظلام ومفاتيح للكلام ، ودعائم للإسلام ، وجعل نظام طاعته وتمام فرضه التسليم لهم فيما علم ، والرد إليهم فيما جهل ، وحظر على غيرهم التهجم على القول بما يجهلون و

________________________________________________________

المستتر في « نصب » راجع إلى الله تعالى أو إلى الإمام ، والأخير بعيد.

قوله : من عقبه : أي بعده أو من ذريته تغليبا ، ومنهم من قرأ [ من عقبه ] بالفتح اسم موصول أي من عقب الله الماضي ، ولا يخفى بعده.

قوله : قيما ، أي قائما بأمر الأمة ، وقيل : مستقيما ، وقوله : يهدون حال عن الأئمة ، أو خبر مبتدأ محذوف ، وقوله : بالحق متعلق بيهدون ، أي بكلمة الحق أو الباء بمعنى إلى ، أو ظرف مستقر أي محقين ، و « به » أي بالحق يعدلون بين الناس في الحكم ، وقوله : حجج الله ، خبر مبتدأ محذوف ، والدعاة والرعاة جمع الداعي والراعي ، من رعى الأمير رعيته رعاية إذا حفظهم ، أو من رعيت الأغنام ، وقوله : على خلقه ، متعلق بالرعاة ، أو بالثلاثة على التنازع.

قوله : بهديهم ، بضم الهاء أي تعبد العباد بهدايتهم ، أو بفتحها أي بسيرتهم ، وقوله : يستهل أي يستضئ بنورهم أي بعلمهم وهدايتهم البلاد ، أي أهلها.

قوله : حياة للأنام ، أي سببا لحياتهم الظاهرية وبقائهم ، أو سببا لحياتهم ، بالايمان والعلم والكمالات أو الأعم.

قوله : نظام طاعته ، أي ما ينتظم به طاعته ، وتمام فرضه أي ما يتم به فرائضه ، إذ مع عدم ولايتهم والتسليم لهم كل ما أدى من الفرائض تكون ناقصة ، أو فرض ذلك بعد سائر الفرائض ، لقوله تعالى : « اليوم أكملت لكم دينكم » (١) وقوله : فيما علم ، أما على بناء المجهول أي علم صدوره منهم ، أو المعلوم أي علم العبد ، والأول أظهر ، وكذا فيما جهل ،

____________________

(١) سورة المائدة : ٣.

١٤

منعهم جحد مالا يعلمون ، لما أراد تبارك وتعالى من استنقاذ من شاء من خلقه ، من ملمات الظلم ومغشيات إليهم ، وصلى الله على محمد وأهل بيته الأخيار الذين أذهب الله عنهم الرجس [ أهل البيت ] وطرهم تطهيرا.

أما بعد ، فقد فهمت يا أخي ما شكوت من اصطلاح أهل دهرنا على الجهالة وتوازرهم وسعيهم في عمارة طرقها ، ومباينتهم العلم وأهله ، حتى كاد العلم معهم أن يأزر كله وينقطع مواده ، لما قد رضوا أن يستندوا إلى الجهل ، ويضيعوا العلم وأهله.

وسألت : هل يسع الناس المقام على الجهالة والتدين بغير علم ، إذا كانوا داخلين في الدين ، مقرين بجميع أموره على جهة الاستحسان ، والنشوء عليه والتقليد

________________________________________________________

وسيأتي تفسير التسليم في بابه ، والتهجم : الدخول في الأمر بغتة من غير روية ، والحظر والمنع تأكيد للفقرتين الأوليين على خلاف الترتيب.

قوله : لما أراد الله ، بالتخفيف تعليل للمذكورات سابقا ، والملمات جمع ملمة وهي النازلة ، والظلم جمع الظلمة ، وهي البدعة والفتنة ، وقوله : مغشيات البهم ، أي مستورات البهم ومغطياتها ، والبهم كصرد جمع بهمة بالضم ، وهو الأمر الذي لا يهتدى لوجهه ، أي الأمور المشكلة التي خفى على الناس ما هو الحق فيها وستر عنهم ، أو غشيت عليهم وأحاطت بهم ، بأن يقرء على بناء المفعول من التفعيل.

قوله : من اصطلاح أهل دهرنا ، أي تصالحهم وتوافقهم ، والتوازر : التعاون.

قوله : أن يأزر ، في بعض النسخ بتقديم المعجمة على المهملة ، وهو جاء بمعنى القوة والضعف ، والمراد هنا الثاني ، والظاهر أنه بتقديم المهملة كما سيأتي إنشاء الله تعالى في باب الغيبة : فيأرز العلم كما يأرز الحية إلى حجرها ، أي ينضم إليها ويجتمع بعضه إلى بعض فيها.

قوله والنشؤ عليه ، بفتح النون على فعل أو بالضم على فعول ، قال الجوهري : نشأت في بنى فلان نشوءا إذا شببت فيهم ، وفي بعض النسخ : « والنشق » بالقاف ، قال

١٥

للآباء ، والأسلاف والكبراء ، والاتكال على عقولهم في دقيق الأشياء وجليلها.

فاعلم يا أخي رحمك الله أن الله تبارك وتعالى خلق عباده خلقة منفصلة من البهائم في الفطن والعقول المركبة فيهم ، محتملة للأمر والنهي ، وجعلهم جل ذكره صنفين صنفا منهم أهل الصحة والسلامة ، وصنفا منهم أهل الضرر والزمانة ، فخص أهل الصحة والسلامة بالأمر والنهي ، بعد ما أكمل لهم آلة التكليف ، ووضع التكليف عن أهل الزمانة والضرر ، إذ قد خلقهم خلقة غير محتملة للأدب والتعليم وجعل عز وجل سبب بقائهم أهل الصحة والسلامة ، وجعل بقاء أهل الصحة والسلامة بالأدب والتعليم ، فلو كانت الجهالة جائزة لأهل الصحة والسلامة لجاز وضع التكليف عنهم ،

________________________________________________________

الجوهري : نشق الظبي في الحبالة ، أي علق فيها ، ورجل نشيق إذا كان ممن يدخل في أمور لا يكاد يتخلص منها ، وفي بعضها : والسبق إليه ، والأول أصوب.

قوله : على عقولهم ، الضمير راجع إلى الأسلاف والكبراء ، أو إلى أنفسهم والأول أظهر. قوله : محتملة صفة بعد أخرى لقوله خلقه ، أو حال عن العقول ، ويحتمل أن يكون العقول مبتداء ، ومحتملة خبره.

قوله : صنفا ، بدل أو عطف بيان للمفعول الأول ، وقوله : أهل الصحة مفعول ثان. ويحتمل تقدير الفعل ثانيا ، ثم انه يحتمل أن يكون المراد بالصنف الأول المكلفين مطلقا ، وبالصنف الثاني غير المكلفين أصلا من الصبيان والمجانين ، ويمكن أن يكون المراد بالأول من كان قابلا لتحصيل المعارف والعلوم والكمالات ، وبالثاني : الضعفاء العقول من المكلفين الذين ليس لهم قوة تحصيل العلوم والمعارف والتميز التام بين الحق والباطل ، واستنباط الاحكام من أدلتها ، وهذا أظهر ، وإن كان بعض الفقرات الآتية يؤيد الأول ، فعلى الثاني المراد بالأمر والنهي : الأمر بتحصيل المعارف والأحكام ، والنهي عن الاكتفاء بالتقليد كالعوام ، وكذا المراد بوضع التكليف رفع التكليف بتحصيل العلم ، وإن أمكن حمله في الثاني على رفع التكليف مطلقا ، إذ مع رفع

١٦

وفي جواز ذلك بطلان الكتب والرسل والآداب ، وفي الكتب والرسل والآداب فساد التدبير ، والرجوع إلى قول أهل الدهر ، فوجب في عدل الله عز وجل وحكمته أن يخص من خلق من خلقه خلقة محتملة للأمر والنهي ، بالأمر والنهي ، لئلا يكونوا سدى مهملين ، وليعظموه ويوحدوه ، ويقروا له بالربوبية ، وليعلموا أنه خالقهم ورازقهم ، إذ شواهد ربوبيته دالة ظاهرة ، وحججه نيرة واضحة ، وأعلامه لائحة تدعوهم إلى توحيد الله عز وجل ، وتشهد على أنفسها لصانعها بالربوبية والإلهية ، لما فيها من آثار صنعه ، وعجائب تدبيره ، فندبهم إلى معرفته لئلا يبيح لهم أن يجهلوه ويجهلوا دينه وأحكامه ، لأن الحكيم لا يبيح الجهل به ، والانكار لدينه ، فقال جل ثناؤه : « ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب ألا يقولوا على الله إلا الحق » (١) وقال : « بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه » (٢) فكانوا محصورين بالأمر والنهي

________________________________________________________

العلم مطلقا لا يتأتي التكليف أصلا ، وعلى الأول بطلان الكتب والرسل لأن الغرض الأصلي من البعثة تكميل النفوس القابلة.

قوله : ان يخص ، بالخاء المعجمة والصاد المهملة ، وفي بعض النسخ بالحاء المهملة والضاد المعجمة ، بمعنى التحريص والترغيب ، والأول أظهر ، وقوله : بالأمر والنهي ، متعلق بيخص ، والسدي بضم السين وقد يفتح وكلاهما للواحد والجمع بمعنى المهمل وقوله : مهملين عطف بيان أو صفة موضحة.

قوله تعالى : « ميثاق الكتاب » أي ميثاق المأخوذ في الكتاب ، وهو التوراة وقوله : « أن لا يقولوا » عطف بيان للميثاق أو متعلق به ، أي بأن لا يقولوا ، وقيل : المراد بالميثاق قوله في التوراة : من ارتكب ذنبا عظيما فإنه لا يغفر [ له ] إلا بالتوبة وحينئذ قوله : أن لا يقولوا مفعول له أي لئلا يقولوا.

قوله تعالى : « بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه » أقول : تتمة الآية « ولما

___________________

(١) سورة الأعراف : ١٦٩.

(٢) سورة يونس : ٣٩.

١٧

مأمورين بقول الحق ، غير مرخص لهم في المقام على الجهل ، أمرهم بالسؤال ، والتفقه في الدين فقال : « فلو لا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم » (١) وقال : « فاسألوا الذكر إن كنتم لا تعلمون » (٢). فلو كان يسع أهل الصحة والسلامة ، المقام على الجهل ، لما أمر هم بالسؤال ، ولم يكن يحتاج إلى بعثة الرسل بالكتب والآداب ، وكادوا يكونون عند ذلك بمنزلة البهائم ، ومنزلة أهل الضرر والزمانة ، ولو كانوا كذلك لما بقوا طرفة عين فلما لم يجز بقاؤهم إلا بالأدب والتعليم ، وجب أنه لابد لكل صحيح الخلقة ، كامل الآلة من مؤدب ، ودليل ، ومشير ، وآمر ، وناه ، وأدب ، وتعليم ، وسؤال ، ومسألة.

فأحق ما اقتبسه العاقل ، والتمسه المتدبر الفطن ، وسعى له الموفق المصيب ، العلم بالدين ، ومعرفة ما استعبد الله به خلقه من توحيده ، وشرائعه وأحكامه ، وأمره ونهيه وزواجره وآدابه ، إذ كانت الحجة ثابتة ، والتكليف لازما ، والعمر يسيرا ، والتسويف غير مقبول ، والشرط من الله جل ذكره فيما استعبد به خلقه أن يؤدوا

________________________________________________________

يأتهم تأويله » والمعنى كما قيل : بل سارعوا إلى التكذيب بالقرآن أول ما سمعوه قبل أن يفقهوا ويتدبروا آياته ، ويقفوا على تأويله ومعانيه.

قوله : أمرهم بالسؤال ، لما كان بمنزلة التعليل للسابق ترك العاطف.

قوله تعالى « ليتفقهوا » ، الظاهر ان ضمير الجمع فيه وفي « ولينذروا » وفي « رجعوا » راجع إلى الطائفة ، فالمراد بالنفور الخروج للتفقه لينذر ويعلم الباقون الساكنون ، النافرين بعد رجوع النافرين إليهم فالضمير في « يتفقهوا » و « ينذروا » راجع إلى الفرقة أي بقيتهم ، وفي « رجعوا » إلى القوم.

قوله : من توحيده ، بيان للدين ، وما بعده بيان لما استعبد الله به خلقه.

___________________

(١) سورة التوبة : ١٢٢.

(٢) سورة النحل : ٤٣.

١٨

جميع فرائضه بعلم ويقين وبصيرة ، ليكون المؤدي لها محمودا عند ربه ، مستوجبا لثوابه ، وعظيم جزائه ، لأن الذي يؤدي بغير علم وبصيرة ، لا يدري ما يؤدي ، ولا يدري إلى من يؤدي ، وإذا كان جاهلا لم يكن على ثقة مما أدى ، ولا مصدقا ، لأن الشاك لا يكون له من الرغبة والرهبة والخضوع والتقرب مثل ما يكون من العالم المستيقن ، وقد قال الله عز وجل : « إلا من شهد بالحق وهم يعلمون » (١) فصارت الشهادة مقبولة لعلة العلم بالشهادة ، ولو لا العلم بالشهادة لم تكن الشهادة مقبولة ، والأمر في الشاك المؤدي بغير علم وبصيرة ، إلى الله جل ذكره ، إن شاء تطول عليه فقبل عمله ، وإن شاء رد عليه ، لأن الشرط عليه من الله أن يؤدي المفروض بعلم وبصرة ويقين ، كيلا يكونوا ممن وصفه الله فقال تبارك وتعالى « ومن الناس من يعبد الله على حرف فإن أصابه خير اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين » (٢) لأنه كان داخلا فيه بغير علم ولا يقين ، فلذلك صار خروجه بغير علم ولا يقين ، وقد قال العالم عليه السلام :

________________________________________________________

قوله : بعلم ويقين ، لقوله تعالى « ولا تقف ما ليس لك به علم » (٣) وأمثاله كثيرة.

قوله : بالشهادة ، أي الأمر المشهود به.

قوله : والأمر في الشاك ، الظاهر أن المراد بالشك هنا مقابل اليقين ، فيشمل الظن المستند إلى التقليد وغيره أيضا.

قوله تعالى : « على حرف » أي على وجه واحد كأن يعبده على السراء لا الضراء ، أو على شك ، أو على غير طمأنينة ، والحاصل أنه لا يدخل في الدين متمكنا مستقرا ، وقال القاضي : أي على طرف من الدين لاثبات له فيه ، كالذي يكون على طرف الجيش ، فان أحس بظفر قر وإلا فر.

قوله : وقد قال العالم ، أي المعصوم ، وتخصيصه بالكاظم عليه السلام غير معلوم.

___________________

(١) سورة الزخرف : ٨٧.

(٢) سورة الحج : ١١.

(٣) سورة الاسراء : ٣٦.

١٩

« من دخل في الإيمان بعلم ثبت فيه ، ونفعه إيمانه ، ومن دخل فيه بغير علم خرج منه كما دخل فيه » ، وقال عليه السلام : « من أخذ دينه من كتاب الله وسنة نبيه صلوات الله عليه وآله زالت الجبال قبل أن يزول ، ومن أخذ دينه من أفواه الرجال ردته الرجال » ، وقال عليه السلام : « من لم يعرف أمرنا من القرآن لم يتنكب الفتن ».

ولهذه العلة انبثقت على أهل دهرنا بثوق هذه الأديان الفاسدة ، والمذاهب المستشنعة التي قد استوفت شرائط الكفر والشرك كلها ، وذلك بتوفيق الله تعالى وخذلانه ، فمن أرد الله توفيقه وأن يكون إيمانه ثابتا مستقرا ، سبب له الأسباب التي تؤديه إلى أن يأخذ دينه من كتاب الله وسنة نبيه صلوات الله عليه وآله بعلم ويقين وبصيرة ، فذاك أثبت في دينه من الجبال الرواسي ، ومن أراد الله خذلانه وأن يكون دينه معارا مستودعا ـ نعوذ بالله منه ـ سبب له أسباب الاستحسان والتقليد والتأويل من غير علم وبصيرة ، فذاك في المشيئة إن شاء الله تبارك وتعالى أتم إيمانه ، وإن شاء سلبه إياه ، ولا يؤمن عليه أن يصبح مؤمنا ويمسي كافرا ، أو يمسي مؤمنا ويصبح كافرا ، لأنه كلما رأي كبيرا من الكبراء ما معه ، وكلما رأي شيئا استحسن

________________________________________________________

قوله : قبل أن يزول ، الضمير المستتر إما راجع إلى الموصول أو إلى الدين.

قوله : لم يتنكب ، قال في القاموس : نكب عنه كنصر وفرح نكبا ونكبا ونكوبا : عدل كنكب وتنكب.

قوله : انبثقت ، يقال : بثق الماء بثوقا : فتحه بأن خرق الشط ، وانبثق هو : إذا جرى بنفسه من غير فجر ، والبثق بالفتح والكسر الاسم ، كذا في المغرب ، والبثوق فاعل ابنثقت ، فان كان المراد بالبثوق الشقوق ، أي المواضع المنخرقة ، فالمراد بالانبثاق التشقق ، ولو حمل على الجريان فالاسناد مجازى ، وكذا لو حمل البثوق على المعنى المصدري لابد من ارتكاب تجوز في الاسناد ، ويحتمل على بعد إرجاع ضمير انبثقت إلى الفتن ، فيكون البثوق مفعولا مطلقا من غير بابه ، وقيل : شبه الأديان الفاسدة بالسيول ، وأثبت لها البثوق ، ففيه استعارة مكنية وتخييلية ، وفيه مالا يخفى على

٢٠