يحتاج إلى أكثر منه بحسب ذكائه وفطنته وخاطره ، حتى يزيد بعضهم على بعض إلى أن يبلغ إلى حد لا يجوز له الإقتصار على علم الجملة بل يلزمه على التفصيل لكثرة خواطره وتواتر شبهاته . وليس يمكن حصر ذلك لشئ لا يمكن الزيادة عليه ولا النقصان عنه .
فإن قيل : فعلى كل حال بينوا لذلك مثالاً على وجه التقريب .
قلنا : أما على وجه التقريب فإنا نقول : من فكر في نفسه فعلم أنه لم يكن موجوداً ثم وجد نطفة ثم صار علقة ثم مضغة ثم عظماً ثم جنيناً في بطن أمه ميتاً ثم صار حياً فبقي مدة ثم ولد صغيراً ، فتتقلب به الأحوال من صغر إلى كبر ومن طفولة إلى رجولة ومن عدم عقل إلى عقل كامل ثم إلى الشيخوخة وإلى الهرم ثم الموت ، وغير ذلك من أحواله ، عَلِمَ أن هنا من يصرفه هذا التصريف ويفعل به هذا الفعل ، لأنه يعجز عن فعل ذلك بنفسه ، وحال غيره من أمثاله حاله من العجز عن مثل ذلك . فعلم بذلك أنه لا بد من أن يكون هناك من هو قادر على ذلك مخالف له ، لأنه لو كان مثله لكان حكمه حكمه . ويعلم أنه لا بد أن يكون عالماً من حيث أن ذلك في غاية الحكمة والإتساق ، مع علمه الحاصل بأن بعض ذلك لا يصدر ممن ليس بعالم ، وبهذا القدر يكون عالماً بالله تعالى على الجملة .
وهكذا إذا نظر في بذر يبذر فينبت منه أنواع الزرع والغرس ويصعد إلى منتهاه ، فمنه ما يصير شجراً عظيماً يخرج منه أنواع الفواكه والملاذ ، ومنه ما يصير زرعاً يخرج منه أنواع الأقوات ، ومنه ما يخرج منه أنواع المشمومات الطيبة الروائح ، ومنه ما يكون خشبه في غاية الطيب كالعود الرطب وغير ذلك ، وكالمسك الذي يخرج من بعض الظباء والعنبر الذي يخرج من البحر ، فيعلم بذلك أن مصرف ذلك وصانعه قادر عالم لتأتي ذلك وإتساقه ، ولعجزه وعجز أمثاله عن ذلك ، فيعلم بذلك أنه مخالف لجميع أمثاله ، فيكون عارفاً بالله على الجملة .
وكذلك إذا نظر إلى
السماء صاحية فتهب الرياح وينشأ السحاب ويصعد ولا يزال يتكاثف ويظهر فيه الرعد والبرق والصواعق ، ثم ينزل منه من المياه والبحار العظيمة