ثمّ رأى الحضارة التي يقدّر لها أن تكوّن الفصل الأخير من قصة الإنسان قبل اليوم الموعود ، رآها وهي بذور صغيرة لا تكاد تتبين ..
ثمّ شاهدها وقد اتخذت مواقعها في أحشاء المجتمع البشري تتربص الفرصة لكي تنمو وتظهر ..
ثمّ عاصرها وقد بدأت تنمو وتزحف وتصاب بالنكسة تارة ويحالفها التوفيق تارة أخرى ..
ثمّ واكبها وهي تزدهر وتتعملق وتسيطر بالتدريج على مقدّرات عالم بكامله ، فإنّ شخصاً من هذا القبيل عاش كلّ هذه المراحل بفطنة وانتباه كاملين ينظر إلى هذا العملاق ـ الذي يريد أن يصارعه ـ من زاوية ذلك الامتداد التاريخي الطويل الذي عاشه بحسّه لا في بطون كتب التاريخ فحسب ، ينظر إليه لا بوصفه قدراً محتوماً ، ولا كما كان ينظر (جان جاك روسو) (١) إلى الملكيّة في فرنسا ، فقد جاء عنه انّه كان يرعبه مجرد أن يتصور فرنسا بدون ملك ، على الرغم من كونه من الدعاة الكبار فكرياً وفلسفياً الى تطوير الوضع السياسي القائم وقتئذٍ ؛ لأنّ (روسو) هذا نشأ في ظل الملكيّة ، وتنفس هواءها طيلة حياته ، وأما هذا الشخص المتوغل في التاريخ ، فله هيبة التاريخ ، وقوة التاريخ ، والشعور المفعم بأنّ ما حوله من كيان وحضارة وليد يوم من أيام التاريخ ، تهيأت له الأسباب فُوُجِد ، وستتهيأ
__________________
القطب الثاني في العالم ، وتقاسم هو وأمريكا النفوذ الحضاري والهيمنة السياسية ، وركبا معاً أجواء الفضاء ، ثمّ شهدنا انهيار الاتحاد السوفيتي وتفكك أوصاله بمثل تلك السرعة القياسية في الانهيار ، فكم كان لذلك من أثر؟ وكم كان فيه من عبرة؟ وكم فيه من دلالة عميقة؟
(١) جان جاك روسو (١٧١٢ ـ ١٧٧٨ م) كاتب وفيلسوف فرنسي اعتبره بعض النقاد الوجه الأبعد نفوذاً في الادب الفرنسي الحديث والفلسفة الحديثة ، وقد مهدت كتاباته ومقالاته للثورة الفرنسية ، وأشهر مؤلفاته العقد الاجتماعي. راجع : موسوعة المورد / منير البعلبكي ٨ : ١٦٩.