٢ ـ نزل النبي الأكرم دار هجرته والتفّت حوله القبيلتان : الأوس والخزرج ، فمرّ شأْس بن قيس ـ الّذي كان شيخاً عظيم الكفر شديد الضغن على المسلمين ، شديد الحسد لهم ـ على نفر من أصحاب رسول اللّه من الأوس والخزرج في مجلس قد جمعهم يتحدثون فيه ، فغاظه ما رأى من أُلفتهم وجماعتهم ، وصلاح ذات بينهم على الإسلام ، بعد الّذي كان بينهم من العداوة في الجاهلية. فقال : قد اجتمع ملأُ بني غيلة بهذه البلاد ، لا واللّه ما لنا معهم إذا اجتمع ملؤهم من قرار ، فأمر فتىً شاباً من اليهود كان معهم فقال : اعمد اليهم فاجلس معهم ، ثم اذكر يوم بعاث ، يوم اقتتلت فيه الأوس والخزرج ، وكان الظفر فيه يومئذ للأُوس على الخزرج ، وكان على الأوس يومئذ حضير بن سماك الأشهري ، وعلى الخزرج عمرو بن النعمان البياضي ، فقتلا جميعاً.
دخل الشاب اليهودي مجمتع القوم فأخذ يذكر مقاتلتهم ومضاربتهم في عصر الجاهلية ، فأحيى فيهم حميتها حتّى استعدوا للنزاع والجدال بحجة أنّهم قتل بعضهم بعضاً في العصر الجاهلي يوم بعاث ، وأخذ الشاب يُؤجّج نار الفتنة ويصب الزيت على النار حتّى تواثب رجلان من الحيّين فتقاولا.
فبلغ ذلك رسول اللّه فخرج ، إليهم فيمن معه من أصحابه المهاجرين ، حتّى جاءهم فقال : يا معشر المسلمين! اللّه ، اللّه ، أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم ، بعد أن هداكم اللّه بالإسلام وأكرمكم به وقطع به عنكم أمر الجاهلية ، واستنقذكم من الكفر وألّف به بين قلوبكم؟
كانت كلمة النبي كالماء المصبوب على النار بشدة وقوة ، حيث عرف القوم أنّها نزعة من الشيطان وكيد من عدوهم ، فبكوا وعانق الرجال من الأوس والخزرج بعضهم بعضاً ، ثم انصرفوا مع رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم مذعنين ، متسالمين ، مطيعين قد دفع اللّه عنهم كيد عدو اللّه شأْس بن قيس ، فأنزل اللّه تعالى في شأْس وما صنع (١) ..
__________________
١ ـ السيرة النبوية ج ٢ ص ٢٥٠.