الأجسام عن حقيقة التأليف كانت غير
أجسام ، ولم تدخل في اسم الجسم بعرف ولا عقل ولا شرع ولا بوصف ، ثمّ كلّ جسم محتاج
إلى مكان يحلّ فيه ، ويكون المكان متقدّما عليه ـ كمّا قدّمناه ـ فالجسم بالضرورة
متأخر عن المكان ، فهل يبقى شكّ في أنّ كلّ جسم حادث عند كلّ من له أدنى نظر يعتمد
عليه ؟ ! فكان ثبوت حدوث الأجسام على هذا الوصف الواضح كافيا في الدلالة على أنّ
لها مؤلّفا جلّ جلاله محدثا لها ومدبّرا لأمرها بحسب المصالح ، فأشار الأنبياء
صلوات اللّه عليهم والكتب المنزلة عليهم إلى نحو هذه التنبيهات على هذه الدلالات
الظاهرات ، فعدل شيوخ المعتزلة بالخلائق إلى غير تلك الطرائق (١) ، وضيّقوا عليهم
سبيل الحقائق ، كما عدل من أراد تعريف حقيقة النار المعلومة بالاضطرار إلى
استخراجها من الشجر والحراق والأحجار ، وهذا مثال يعرف أهل الإنصاف أنّه حق وصحيح
، وما يحتاج إلى زيادة استكشاف .
وكان مثالهم مع المتعلّم منهم ومثاله
معهم أيضا كمثل إنسان كان بين يديه شمعة مضيئة إضاءة باهرة ، فأخذها أستاذه من بين
يديه وأبعدها عنه مسافة بعيدة ، كثيرة الحوائل والموانع من النظر إلى تلك الشمعة
التي كانت حاضرة [ عنده ] ، وقال له : تجهّز للسفر بالزاد والرفقاء والعدّة
والأدلاء ، حتى تصل إلى معرفة تلك الشمعة ، وتنظر حقيقة ما هي عليه من الضياء ،
فقبل ذلك الغير المتعرّف من ذلك الأستاذ المتكلّف ، وسافر مدّة من الأوقات ، فتارة
يرى جبالا وعقبات فلا يظهر له من حقيقة (٢) الشمعة كثير ولا قليل ، وتارة يرى ضوءا
فيقول : لعلّه ضوء تلك الشمعة ، ويستنجد بمساعدة الرفيق والدليل ، فإن عجز من تمام
المسافة وقطع الطريق بما يرى فيها من العقبات في التطويل والتضييق ، هلك المسكين
ورجع خاسرا للدنيا والدين .
فأوصيك يا ولدي ومن بلغه كتابي هذا ممّن
يعلّم المسترشدين إلى معرفة ربّ العالمين أن يقوّي ما عندهم في الفطرة الأوليّة
بالتنبيهات العقليّة والقرآنية والهدايات الإلهيّة والنبويّة ، ويقول للمسترشد :
انما تحتاج إلى معرفة صفات هذا المؤثّر والصانع ، ويثبت صفاته عنده بأسهل ما يريد
منه مولاه جلّ جلاله من تكليفه بتدبير صاحب الشرائع ، وتسليمه من القواطع ، ومن
خسارة عمر ضائع .
ثمّ يسلك به سبيل معرفة النبوّة
والإمامة على قاعدة تعريف النبيّ والأئمة صلوات اللّه عليهم ،
______
( ١ ) ـ في كشف المحجّة : الصراط .
( ٢ ) ـ في « ر » و « ح » : حديث ، وما
أثبتناه من كشف المحجّة .