﴿وَقالَ الْمَلِكُ﴾ بعد ما رأى رؤيا اضطرب منها قلبه وخاف من رؤيته غلبة الضعيف على القوي ذهاب ملكه وسلطانه ، وأحضر العلماء والحكماء والكهنة والمعبّرين والسّحرة والمنجّمين اجتهادا لتحصيل العلم بتعبيرها ﴿إِنِّي﴾ كنت ﴿أَرى﴾ البارحة - وهي ليلة الجمعة على ما قيل (١) - في المنام ﴿سَبْعَ بَقَراتٍ سِمانٍ﴾ خرجن عن النهر اليابس على قول - أو من البحر على آخر (٢) - ثمّ أرى سبع بقرات عجاف مهازيل خرجن من المكان الذي خرجت السّمان ، ثم رأيت أنّه ﴿يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ﴾ مهازيل ويبتلعهن بحيث لم تبق من البقرات السّمان شيء ﴿وَ﴾ أرى أيضا ﴿سَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ﴾ رطاب قد انعقدت حبّاتها ، ﴿وَ﴾ سبع ﴿أُخَرَ يابِساتٍ﴾ فالتوت على الخضر حتى غلبن عليها على ما قيل (٣) .
ثمّ أمر الحضّار بتعبير رؤياه وقال : ﴿يا أَيُّهَا الْمَلَأُ﴾ والجماعة الحاضرة من الأشراف ﴿أَفْتُونِي﴾ وأخبروني ممّا تتفرّسون وتعتقدون ﴿فِي﴾ تعبير ﴿رُءْيايَ﴾ هذه ﴿إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ﴾ وعلى تأويلها تقدرون.
ثمّ لمّا أراد الله خلاص يوسف من السجن ، وكانت الرؤيا من توجّه النفس وتصاعدها إلى عالم الملكوت والمثال بعد قلّة اشتغالها بتدبير البدن ، فكلّما رأت شيئا من المعاني الحقيقية في تلك العالم ، فإما أن لا تتصرف القوة الخيالية فيه ، فتقع عيناه في الخارج ، ولا تحتاج إلى التعبير ، وإما أن تتصرف فيه القوة الخيالية بتصوير المعاني العقلية بصور مناسبة لها ، كتصوير العلم بصورة اللبن ، والزوجة بصورة النعل ، والمال بصورة القاذورات وأمثال ذلك ، فهي محتاجة إلى التعبير ، وهو الانتقال من الصور إلى ما يناسبها من المعاني ، وكلّما تلقى النفس الشياطين حين صعودها فيرونها امورا باطلة مشوّشة مختلطة ، أو تطالع الصور الخيالية المرتكزة في الخاطر ، فهي الرؤيا الكاذبة ، وتسمّى بالأضغاث والأحلام.
﴿قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ وَما نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلامِ بِعالِمِينَ * وَقالَ الَّذِي نَجا
مِنْهُما وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ * يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ
أَفْتِنا فِي سَبْعِ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ
يابِساتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ * قالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً
فَما حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّا تَأْكُلُونَ * ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ
__________________
( ١ و٢ و٣ ) تفسير روح البيان ٤ : ٢٦٥.