ضرورية كأنّي أنظر إليك ؛ كما جاء في الحديث : « سترون ربّكم كما ترون القمر ليلة البدر » بمعنى : ستعرفونه معرفة جليّة هي في الجلاء مثل إبصاركم القمر إذا امتلأ واستوى بدرا ﴿قالَ لَنْ تَرانِي﴾ لن تطيق معرفتي على هذه الطّريقة ، ولن تحتمل قوتّك تلك الآية ﴿وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ﴾ فإنّي اورد عليه آية من تلك الآيات ، فإن ثبت لتجلّيها واستقرّ مكانه ، فسوف تثبت لها وتطيقها ﴿فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ﴾ فلمّا ظهرت للجبل آية من آيات ربّه ﴿جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً﴾ لعظم ما رأى ﴿فَلَمَّا أَفاقَ قالَ سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ﴾ ممّا اقترحت ﴿وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ﴾ بعظمتك وجلالك. انتهى (١) .
وبه قال بعض العامّة حيث قال : إنّه سأل المعرفة الضّروريّة ، أو الآيات الباهرات التي تزول عندها الخواطر والوساوس ، انتهى (٢) - مخالف لظاهر الآية وصريح الرّوايات المرويّة بطريق العامّة والخاصّة.
وقيل : إنّه الرّؤية ، وأراد تأكيد الدّليل العقلي الدالّ على امتناع الرّؤية بالدليل السّمعي من قوله ﴿لَنْ تَرانِي﴾ .
وفيه ما لا يخفى من الضّعف ، فالأولى الكفّ عن التكلّم في توجيه الآية وإيكال علمه إلى الرّاسخين في العلم.
﴿قالَ يا مُوسى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسالاتِي وَبِكَلامِي فَخُذْ ما آتَيْتُكَ
وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (١٤٤)﴾
ثمّ أنّه تعالى بعد إفاقة موسى عليهالسلام وتوبته من سؤال الرّؤية في يوم عرفة - على رواية - أظهر غاية لطفه به و﴿قالَ﴾ له في يوم النّحر - كما روي (٣) - : ﴿يا مُوسى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ﴾ وفضّلتك أو آثرتك ﴿عَلَى النَّاسِ﴾ جميعا من الأوّلين والآخرين ﴿بِرِسالاتِي وَبِكَلامِي﴾ ومخاطبتي إيّاك مشافهة في الأرض بلا واسطة ملك ، فإنّ مجموع الأمرين لم يكن ولا يكون لأحد غيرك ﴿فَخُذْ﴾ الآن ﴿ما آتَيْتُكَ﴾ وأعطيتك من التّوراة ﴿وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ﴾ لنعمي عليك.
__________________
(١) جوامع الجامع : ١٥٦ ، تفسير الصافي ٢ : ٢٣٥.
(٢) تفسير الرازي ١٤ : ٢٢٩.
(٣) تفسير الرازي ١٤ : ٢٣٦.