ثمّ أنّه تعالى - لمّا بيّن أنّ المؤمنين بالنبيّ صلىاللهعليهوآله هم الذين يكونون على ملّة إبراهيم ، دون اليهود والنّصارى - بيّن أنّهم لا يقتصرون على ضلالة أنفسهم عن نهج الحقّ ، بل يريدون إضلال المؤمنين ، بقوله : ﴿وَدَّتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ﴾ وتمنّوا ﴿لَوْ يُضِلُّونَكُمْ﴾ أيّها المؤمنون عن دينكم الحقّ مع غاية ثباتكم عليه ، والحال أنّهم ﴿وَما يُضِلُّونَ﴾ عن سبيل الهداية وطريق الجنّة ﴿إِلَّا أَنْفُسَهُمْ﴾ لرسوخ الإيمان في قلوبكم ، وعدم تخطّيهم الضّلال ﴿وَما يَشْعُرُونَ﴾ باختصاصهم به ، ورجوع وبال ذلك الضّلال إليهم.
قيل : نزلت هذه الآية في معاذ وعمّار بن ياسر وحذيفة [ لمّا ] دعاهم اليهود إلى دينهم (١) .
﴿يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (٧٠)﴾
ثمّ وجّه سبحانه الخطاب التّوبيخي إليهم بقوله : ﴿يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ﴾ الناطقة بصحّة نبوّة محمّد صلىاللهعليهوآله ﴿وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ﴾ على أنّها آيات الله في خلواتكم ، وقيل : المراد : لم تنكرون القرآن وأنتم تشهدون بقلوبكم وعقولكم كونه معجزا (٢) .
﴿يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ
تَعْلَمُونَ (٧١)﴾
ثمّ وبّخهم ثانيا بقوله : ﴿يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَلْبِسُونَ﴾ وتخلطون ﴿الْحَقَّ بِالْباطِلِ﴾ وتجتهدون في إلقاء الشّبهات ، حتّى لا يتميّز الرّشد من الغيّ ﴿وَتَكْتُمُونَ الْحَقَ﴾ وتخفون دلائله الواضحة ﴿وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ بها وبدلالتها ، وقبح الكتمان والتّلبيس وبعقابهما الاخرويّ.
﴿وَقالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ
وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ وَلا تُؤْمِنُوا إِلاَّ لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدى
هُدَى اللهِ أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ أَوْ يُحاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ
بِيَدِ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ(٧٢) و ( ٧٣)﴾
ثمّ بيّن الله أحد أنواع تلبيساتهم بقوله : ﴿وَقالَتْ طائِفَةٌ مِنْ﴾ رؤساء ﴿أَهْلِ الْكِتابِ﴾ لأتباعهم - قيل : إنّها كانت كعب بن أشرف ومالك بن الصيف من رؤساء اليهود ، لأتباعهما وأصحابهما ، لمّا
__________________
(١) جوامع الجامع : ٦١.
(٢) تفسير الرازي ٨ : ٩٢.