فروق أخرى بين المكى
والمدنى
توجد فروق أخرى بين المكى والمدنى ، غير
ما قدمناه في ضوابطهما وهذه الفروق فيها دقّة عن تلك ، لتعلقها في مجموعها بأمور
معنوية وبلاغية. ثم إن أعداء الإسلام قد صاغوا عن طريق بعضها شبهات سدّدوا سهامها
إلى القرآن الكريم لذلك أفردناها بعنوان ، توطئة لنقض تلك الشبهات «وقبل الرّمى
يراش السّهم».
ونذكر من خواصّ القسم المكى أنه قد كثر
فيه ما يأتى :
(أولا) أنه حمل حملة شعواء على الشرك
والوثنية ، وعلى الشبهات التى تذرع بها أهل مكة للإصرار على الشرك والوثنية ، ودخل
عليهم من كل باب ، وأتاهم بكل دليل ، وحاكمهم إلى الحسّ ، وضرب لهم أبلغ الأمثال ،
حتى انتهى بهم إلى أن تلك الآلهة المزيفة لا تقدر أن تخلق مجتمعة أقلّ نوع من
الذباب ، بل لا تستطيع أن تدفع عن نفسها شرّ عادية الذباب ، وقال : (يا
أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ. إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ
مِنْ دُونِ اللهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ
يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ
وَالْمَطْلُوبُ).
ولما عاندوا واحتجّوا بما كان عليه
آباؤهم ، نعى عليهم أن يمتهنوا كرامة الإنسان إلى هذا الحضيض من الذلة للأحجار والأصنام
، وسفّه أحلامهم وأحلام آبائهم الذين أهملوا النظر في أنفسهم وفي آيات الله في
الآفاق ، وقبّح إليهم الجمود على هذا التقليد الأعمى للآباء والأجداد (أَوَلَوْ
كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ). وناقشهم كذلك فى عقائدهم الضالة التى
نجمت عن تلك الوثنية من جحود الإلهيات والنبوّات ، وإنكار البعث والمسئولية
والجزاء.
(ثانيا) أنه فتح عيونهم على ما في
أنفسهم من شواهد الحق ، وعلى ما في الكون من أعلام الرشد ، ونوع لهم في الأدلة
وتفنن في الأساليب ، وقاضاهم إلى الأوّليات