وبين سائر الأحياء. ومنحته خصائصه الإنسانيّة الكبرى. وأوّلها القدرة على الارتقاء في سلّم المدارك العليا الخاصّة بعالم الإنسان.
هذه النفخة هي التي تصله بالملإ الأعلى ، وتجعله أهلا للاتصال بالله ، وللتلقّي عنه ولتجاوز النطاق المادّي الذي تتعامل فيه العضلات والحواسّ ، إلى النطاق التجريدي الذي تتعامل فيه القلوب والعقول. والتي تمنحه ذلك السرّ الخفيّ الذي يسرب به وراء الزمان والمكان ، ووراء طاقة العضلات والحواسّ ، إلى ألوان من المدركات وألوان من التصوّرات غير المحدودة في بعض الأحيان. (١)
وبذلك استحقّ إيداعه أمانة الله التي هي ودائع ربّانية لها صبغة ملكوتية رفيعة أودعت هذا الإنسان دون غيره من سائر المخلوق. وتتلخّص هذه الودائع في قدرات هائلة يملكها الإنسان في جبلّته الأولى والتي أهّلته للاستيلاء على طاقات كامنة في طبيعة الوجود وتسخيرها حيث يشاء.
إنّها القدرة على الإرادة والتصميم ، القدرة على التفكير والتدبير ، القدرة على الإبداع والتكوين. القدرة على الاكتشاف والتسخير. إنها الجرأة على حمل هذا العبء الخطير. قال سيّد قطب : إنّها الإرادة والإدراك والمحاولة وحمل التبعة ، هي هي ميزة هذا الإنسان على كثير من خلق الله. وهي هي مناط التكريم الذي أعلنه الله في الملأ الأعلى وهو يسجد الملائكة لآدم. وأعلنه في قرآنه الباقي وهو يقول : (وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ). (٢) فليعرف الإنسان مناط تكريمه عند الله ، ولينهض بالأمانة التي اختارها. والتي عرضت على السماوات والأرض والجبال ، فأبين أن يحملنها وأشفقن منها. (٣)
إنّها أمانة ضخمة حملها هذا المخلوق الصغير الحجم الكبير القوى القويّ العزم. ومن ثمّ كان ظلوما لنفسه حيث لم ينهض بأداء هذه الأمانة كما حملها ، جهولا لطاقاته هذه الهائلة المودعة في وجوده وهو بعد لا يعرفها.
__________________
(١) من إفادات سيّد قطب ، راجع : في ظلال القرآن ، ج ١٤ ، ص ١٧ ، المجلد ٥ ، ص ٢٠٣.
(٢) الإسراء ١٧ : ٧٠.
(٣) في ظلال القرآن ، ج ٢٢ ، ص ٤٧ ، المجلد ٦ ، ص ٦١٨.