__________________
ـ معنى للوقوف بهم دون هذه المنزلة ، والإحجام عن إيصالهم إلى أقصى هذه الرتبة.
وأمّا الذين يجعلون الوقف عند قوله تعالى : (وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ) فيوفّون الاستثناء حقّه بإدخال العلماء فيه ، ويجعلون لهم مزية العلم بتأويل القرآن ، ومعرفة مداخله ومخارجه ، وسلوك محاجّه ومناهجه ، وهذا القول مرويّ عن ابن عباس ومجاهد والربيع.
فأمّا المحققون من العلماء فيقفون في ذلك على منزلة وسطى وطريقة مثلى ، فلا يخرجون العلماء هاهنا عن أن يعلموا شيئا من تأويل القرآن جملة ، ولا يعطونهم منزلة العلم بجميعه ، والاستيلاء على قليله وكثيره ، بل يقولون : إنّ في التأويل ما يعلمه العلماء ، وفيه ما لا يعلمه إلّا الله تعالى ، من نحو تعيين الصغيرة ووقت الساعة ، وما بيننا وبينها من المدة ، ومقادير الجزاء على الأعمال ، وما أشبه ذلك.
وهذا قول جماعة من متقدمي العلماء : منهم الحسن البصري وغيره ، وإليه ذهب أبو عليّ الجبّائيّ ؛ لأنّه يجعل المراد بالتأويل في هذه الآية مصائر الأمور وعواقبها ، كقوله تعالى : (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ)[الأعراف : ٥٣] : أي مصيره وعاقبته ؛ لأنّ أصل التأويل من قولهم : آل يئول ، إذا رجع ، وممّا يؤكّد ذلك أن مجاهدا قال في قوله تعالى : (ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً)[النساء : ٥٩] : إنّه سبحانه أراد بالتأويل هاهنا الجزاء على الأعمال ، فهذا المعنى يلامح ما نحن في ذكره ؛ لأنّ الجزاء إنّما هو الشيء الذي آلوا إليه وحصلوا عليه.
وقد قيل أيضا : إنّ المراد : وما يعلم تأويله على التفصيل إلا الله تعالى ، أو لا يعلم تأويله بعينه إلا الله ؛ لأن كثيرا من المتشابه يحتمل الوجوه الكثيرة ، وكلّها غير خارج عن أدلة العقول ، فيذكر المتأولون جميعها ، ولا يقع القطع منهم على مراد الله تعالى بعينه منها ، ولا يعلم ذلك إلا الله ؛ لأن الذي يلزم المكلف من ذلك أن يعلم في الجملة أنّه سبحانه لم يرد ما يخالف أدلة العقول ، ولأنّه ليس من تكليفنا أن نعلم أنّ المراد من ذلك بعينه ، وإن كان العلماء يعلمونه على الجملة وعلى الوجه الذي يمكن أن يعلم عليه.
وفي قول الراسخين في العلم : (آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا)[آل عمران : ٧] دلالة على استسلامهم فيما لم يعلموا من تأويل المتشابه ، وما استبدّ الله بعلمه من قبيل ما ذكرنا : كوقت القيامة وتميز الصّغائر من الكبائر ، إلى ما أشبه ذلك ، فقد بان أنّ في تأويل المتشابه ما لا يعلمونه ، وإن كانوا يعلمون كثيرا منه ، وقال قاضي القضاة أبو الحسن بعد ذكره طرفا من الخلاف في هذه الآية : " وما يقوله من حمل العطف على حقيقته وجعل للعلماء نصيبا من علم التأويل على تفصيله أو جملته إمّا