في المجازاة ؛ كحال الحيوانات في القصاص يوم القيامة ، وكل ذلك من باب العدل ، ولو يؤاخذ الله الناس بظلمهم ما ترك على ظهر الأرض من دابة ؛ لشؤم المعاصي ، وسريان بعض آثارها في الغير بحكم الجوار ولكن الله تعالى يمنّ على عباده فلا يؤاخذهم في الدنيا إلا بأقل قليل من شرورهم ، ويعفو عن كثير ، وما كان يعفوه في الدنيا فلا يعود إليه بالأخذ في الآخرة.
وأمّا من أسلم وجهه لله : بأن جعل نفسه خالصة له تعالى اعتقادا وعملا ، وهو منتهى ما تبلغه القوة البشرية ، فليس له حساب ، ولا ميزان ، ولا غيرهما مما أعد للعصاة ؛ بل له السلامة ، والنجاة ، وتضعيف الحسنات ؛ فللمطيع وعد ، وللعاصي وعيد.
فأمّا الوعد :
فالله تعالى لا يخلف الميعاد ؛ لكمال وجوده ، وسعة غناه ، وعظيم قدرته.
وأمّا الوعيد :
فهو من باب التخويف والتهديد ، وليس كل ما يهدّد به العبد العاصي يفعل به ، فقد يعفو عنه السيد ؛ لكن ينبغي أن لا يغتر العبد بكرم الله تعالى ؛ فإنه بكرمه وجوده خلقه ، ثم بحكمته أمره ونهاه.
فالإحسان لا يقابل بالعصيان ، والإكرام لا يجازى بالإهانة ، فعل العبد العبادة ، ثم العبودية ، ثم العبودة بحسب إلاهية ، وألوهية ، وألوهته ، فإذا وصل إلى غاية هذه المراتب ؛ سقطت عنه كلفة التكليف ، فكان حاله في التعبّد في الدنيا ؛ كحال أهل الجنة في الآخرة : أي كان حاله لذّة صرفة ، وحلاوة محضة ، ومن سرت اللذّة في باطنه ؛ لم يتألم من العبادة في ظاهره ، فيبقى إلى اخر عمره وله حياة طيبة من إحياء حقوق الله ، وحقوق عبيده ، ومن ذلك حقوق أعضائه وقواه.
إذ كل ذلك محلّ التكليف ، وموضع أحد الميثاق ، ومواطن المراعات ، والمحافظة ، ومن حافظ على أنفاسه ؛ فقد حافظ على جميع عمره ، والله معه ، ومنه يصدر كمالاته ، وإليه يصعد كلماته ، هذا إذا اعتبر الحضور معه ، وأمّا إذا اعتبر الغيبوبة عنه ، وبقى الحق وحده ، فالحق يذكر على لسانه ، ويتعبد على جوارحه ، وليس هذه المرتبة إلا للمحققين الواجدين وجدانا لا فقدان معه.