هذا القول تعجّب ، كقولك : ما أحسن زيدا! ومعنى التّعجّب من الله : أنّه يعجّب المخاطبين ويدلّهم على أنّهم قد حلّوا محلّ من يتعجّب منهم.
وقال السّدّى : هذا على وجه الاستفهام ، ومعناه : ما الّذى صبّرهم ، وأىّ شىء صبّرهم على النّار ؛ حين تركوا الحقّ واتّبعوا الباطل؟ (١).
و «ما» على هذا القول للاستفهام لا للتّعجّب. و «أصبر» بمعنى : صبّر (٢) ، مثل : كرّم وأكرم.
١٧٦ ـ وقوله : (ذلِكَ) إشارة إلى قوله : (وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ)(٣) أى : ذلك العذاب لهم. (بِأَنَّ اللهَ نَزَّلَ الْكِتابَ بِالْحَقِ) يعنى : التّوراة ، فاختلفوا فيه ؛ أى : آمنوا ببعض ، وكفروا ببعض. (وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتابِ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ) أى : لفى خلاف طويل. وذكرنا معنى «الشّقاق» فيما سبق (٤).
١٧٧ ـ وقوله عزوجل : (لَيْسَ الْبِرَّ) وقرئ نصبا (٥) ورفعا ؛ وكلاهما حسن ؛ لأنّ اسم ليس وخبرها اجتمعا فى التّعريف ، فجاز أن يكون أحدهما أيّهما كان اسما (٦) ، والثّانى خبرا.
قال ابن عباس ومجاهد والضّحّاك وعطاء : كان الرجل فى ابتداء الإسلام إذا شهد الشّهادتين ، وصلّى إلى أىّ ناحية كان ، ثم مات على ذلك وجبت له الجنّة ؛ فلمّا هاجر رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ ، ونزلت الفرائض ، وحدّت الحدود ، وصرفت القبلة إلى الكعبة ـ أنزل الله هذه الآية فقال : ([لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ)
__________________
(١) على ما فى (تفسير القرطبى ٢ : ٢٣٦) و (البحر المحيط ١ : ٤٩٥) و (مجاز القرآن لأبى عبيدة ١ : ٦٤). و (الوجيز للواحدى ١ : ٤٥).
(٢) كما قال ابن الأنبارى. (تفسير الفخر الرازى ٢ : ٩٥).
(٣) سورة البقرة : ١٧٤.
(٤) انظر معنى «الشقاق» فيما سبق عند تفسير الآية ١٣٧ من سورة البقرة ، صفحة (٢٠٥) من هذا الجزء.
(٥) قرأ حمزة وحفص بنصب «الْبِرَّ» .. ووافقهما المطوعى والباقون بالرفع ..» (إتحاف البشر ١٥٣).
(٦) أ : «أن يكون أحدهما عطفا كان اسما». عبارة الواحدى كما نقلها عنه صاحب (تفسير الفخر ٢ : ٩٩) «فاستويا فى كون كل واحد منهما اسما والآخر خبرا».