كان ذلك وحي إلهام ، ألقى الله فى قلبها أن تجعله فى تابوت ، وتلقيه فى اليم يعنى نهر النيل ، ففعلت ، فألقاه النهر على الساحل ، فحمل إلى فرعون. فلمّا وقع بصر امرأة فرعون عليه باشر حبّه قلبها ، وكذلك وقعت محبته فى قلب فرعون ، ولكنها كانت أضعف قلبا ، فسبقت بقولها (قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ ..) (١) ، ولو لا أنها علمت أنه أخذ شعبة من قلب فرعون ما أخذ من قلبها لم تقل : (قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ).
قوله : (يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ) : ربّاه فى حجر العدو ، وكان قد قتل بسببه ألوفا من الولدان .. ولكن من مأمنه يؤتى الحذر! وبلاء كلّ أحد كان بعده إلا بلاء موسى عليهالسلام فإنه تقدّم عليه بسنين ؛ ففى اليوم الذي أخذ موسى فى حجره كان قد أمر بقتل كثير من الولدان ، ثم إنه ربّاه ليكون إهلاك ملكه على يده .. ليعلم أنّ أسرار الأقدار لا يعلمها إلا الجبار.
ويقال كان فرعون يسمّى والد موسى وأباه ـ ولم يكن. وكان يقال لأمّ موسى ظئر (٢) موسى ـ ولم تكن ؛ فمن حيث الدعوى بالأبوة لم يكن لها تحقيق ، ومن حيث كان المعنى والحقيقة لم يكن عند ذلك خبر ولا عند الآخر من ذلك معرفة .. هكذا الحديث والقصة (٣).
ولقد جاء فى القصة أن موسى لمّا وضع فى حجر فرعون لطم وجهه فقال : إنّ هذا من أولاد الأعداء فيجب أن يقتل ، فقالت امرأته : إنه صبيّ لا تمييز له ، ويشهد لهذا أنه لا يميّز بين النار وبين غيرها من الجواهر والأشياء ، وأرادت أن يصدّق زوجها قالتها ، فاستحضرت شيئا من النار وشيئا من الجواهر ، فأراد موسى عليهالسلام أن يمدّ يده إلى الجواهر فأخذ جبريل عليهالسلام بيده وصرفها إلى النار فأخذ جمرة بيده ، وقرّبها من فيه فاحترق لسانه ـ ويقال إنّ العقدة التي كانت على لسانه كانت من ذلك الاحتراق ـ فعند ذلك قالت امرأة فرعون : ها قد تبينّ أن هذا لا تمييز له ؛ فقد أخذ الجمرة إلى فيه. وتخلّص موسى بهذا مما حصل منه من لطم فرعون.
__________________
(١) آية ٩ سورة القصص.
(٢) الظئر. المرضعة لغير ولدها.
(٣) يقصد بالحديث والقصة التصوف وأهله ؛ فلقب العبد مرتبط بقلبه وحقيقة باطنه لا بما يستفاد من ظاهره ورأى الناس فيه ، وهذا أصل من أصول أهل الملامة النيسابورية.