وإذا ضرب القرآن مثلا بالكلب أو الذبابة أو البعوضة أو التي نقضت غزلها من بعد قوة ، فإن هذا التصوير القرآنى الأخاذله على وجدان القشيري الأديب وقع مؤثر ، يقول مثلا (.... وضرب المثل بالبعوضة لأنها إذا جاعت فرّت وطارت ، وإذا شبعت تشققت وتلفت ، كذلك الإنسان ليطغى أن رآه استغنى. «وما فوقها» أي الذباب ، وجهة الإشارة فى أن للذباب وقاحة حيث يعود عند البلاغ فى الذبّ ، والله سبحانه خلق القوة فى الأسد ولكنه خلق فيه النفور من الناس ، وخلق الضعف فى الذباب ، ولكنه خلق فيه الوقاحة ، وتلك حكمة الله).
والمظاهر الكونية فى القرآن مصادر إشارات لا تنتهى وهى من أقوى الوسائل التي استغلّها القشيري لتوضيح حقائق العلم الصوفي فالشمس والقمر ، والليل والنهار ، والجبال والبحار ، والسحب والأمطار .... كلها توحى بمعان كثيرة لتوضيح الفروق الدقيقة بين الطوالع واللوامع واللوائح ، وعلم اليقين وحق اليقين ، وعلوم الإنسان العقلية والمعارف اللدنية .... إلى آخره.
يقول عند «كلا والقمر» : أقمار العلوم إذا أخذ هلالها فى الزيادة بزيادة البراهين فإنها تزداد حتى إذا صارت إلى حد التمام وبلغت الغاية تبدو أعلام المعرفة ، ثم تأخذ علوم البراهين فى النقصان حين تطلع شموس المعرفة ، وكما أن القمر كلما قرب من الشمس يزداد نقصانه حتى يصير محاقا كذلك إذا ظهر سلطان العرفان تأخذ أقمار العلوم فى النقصان بزيادة المعارف كالسراج فى ضوء الشمس).
وتوقف القشيري طويلا عند المواقف النفسية وعند الاستدلالات الوجدانية فى الأسلوب القرآنى فكشف الكثير من أسرار الإعجاز القرآنى كما أبان عن عبقريته فى التذوق الفنى ، وليس ذلك غريبا بالنسبة لصوفىّ ذى بصيرة كاشفة ، وشاعر له حس دقيق مرهف ، وباحث متعمق فى أغوار النفس البشرية ، وأديب يحسن التعبير عما يذوق ويجد.
نفعنا الله بعلمه وبركته.
دكتور ابراهيم بسيونى