إن الواجبات لمّا كانت من قبل الرسل دون مجرد المعقول سأل ألا يتركهم سدى ، وألا يخليهم عن رسول وشرع. وطلب فى ذلك الموقف أن يكون الرسول (مِنْهُمْ) ليكونوا أسكن إليه وأسهل عليهم ، ويصحّ أن يكون معناه أنه لما عرّفه ـ سبحانه ـ حال نبيّنا صلىاللهعليهوسلم سأل إنجاز ما وعده على الوجه الذي به (أمره (١)).
قوله جل ذكره : (وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إِلاَّ مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْناهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (١٣٠))
أخبر أنه آثر الخليل صلوات الله عليه على البرية ، فجعل الدين دينه ، والتوحيد شعاره والمعرفة صفته ؛ فمن رغب عن دينه أو حاد عن سنّته فالباطل مطرحه ، والكفر مهواه ؛ إذ ليست الأنوار بجملتها إلا مقتبسة من نوره.
قوله جل ذكره : (إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (١٣١))
الإسلام هو الإخلاص وهو الاستسلام ، وحقيقته الخروج عن أحوال البشرية بالكلية من منازعات الاختيار ومعارضات النفس ، قال : (أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ) : قابلت الأمر بالسمع والطاعة ، واعتنقت الحكم على حسب الاستطاعة. ولم يدخر شيئا من ماله وبدنه وولده ، وحين أمر بذبح الولد قصد الذبح ، وحين قال له خلّه من الأسر (عمل) (٢) ما أمر به ، فلم يكن له فى الحالين «اختيار» ولا تدبير.
ويقال إن قوله : (أَسْلَمْتُ) : ليس بدعوى من قبله لأن حقيقة الإسلام إنما هو التّبرى من الحول والقوة ، فإذا قال : (أَسْلَمْتُ) فكأنه قال أقمنى فيما كلفتنى ، وحقّق منى ما به أمرتنى. فهو أحال الأمر عليه ، لا لإظهار معنى أو ضمان شىء من قبل نفسه.
ويقال أمره بأن يستأثر بمطالبات القدرة ؛ فإن من حلّ فى الخلّة محلّه يحل به ـ لا محالة ـ ما حلّ به.
__________________
(١) نرجح أنها فى الأصل (أخبره) حتى تتلاءم مع السياق وبذا يكون الناسخ مخطئا فى نقلها.
(٢) فى ص (فعلم) ويمكن أن يحتملها المعنى ، ولكن ترجيح (عمل) أقوى فى الدلالة على الامتثال.