بسم اللّه الرّحمن الرّحيم
قال الشيخ الإمام الحافظ العلامة أبو الفرج عبد الرّحمن بن علي بن الجوزي الصديقي البكري:
اعلم وفقك اللّه تعالى أنني لما تتبعت مذهب الإمام أحمد رحمه اللّه تعالى رأيت الرجل كبير القدر في العلوم، قد بالغ في النظر في علوم الفقه ومذاهب القدماء حتى لا تأتي مسألة إلا وله فيها نص أو تنبيه، لكنه على طريق السلف فلم يصنف إلا المنقول فرأيت مذهبه خاليا من التصانيف التي كثر جنسها عند الخصوم، فصنفت تفاسير مطولة: منها «المغني» مجلدات و «زاد المسير» و «تذكرة الأريب» وغير ذلك.
وفي الحديث كتبا: منها «جامع المسانيد» و «الحدائق» و «نقي النفل» وكتبا كثيرة في الجرح والتعديل.
وما رأيت لهم تعليقة في الخلاف، إلا أن القاضي (أبا يعلى) قال: كنت أقول ما لأهل المذاهب يذكرون الخلاف مع خصومهم ولا يذكرون أحمد (١) ثم عذرتهم إذ ليس لنا تعليقة
__________________
(١) كان الإمام أحمد رضي اللّه عنه قد لزم الإمام أبا يوسف في بدء أمره، كما حكى ذلك عنه يحيى بن معين حيث يقول في كتابه ـ معرفة التاريخ والعلل (رواية أبي العباس الأصم عن أبي الفضل العباس بن محمد الدوري عنه) ـ : سمعت أحمد بن حنبل يقول: اختلفت إلى أبي يوسف ثم اختلفت إلى الناس بعده أه. وكان يشتغل بكتب محمد بن الحسن ويستفيد منها أجوبة دقيقة، على ما رواه الخطيب بإسناده إلى الحربي عنه، وصحب كثيرا من فقهاء العراق، وجالس الشافعي في قدمته الثانية ببغداد بعد وفاة محمد، فصار له من الفقه حظّ وافر، ومع هذا كله كان الغالب عليه وعلى أصحابه رواية الحديث، ولم يكن يجري على طريقة الفقهاء في التفريع ـ والتأصيل وتبيين مناط الأحكام والتعليل، حتى قلّت انفراداته في الفروع عمن تقدمه من الفقهاء، فإن خالف الشافعي مثلا في شيء من قوله الجديد تراه يوافق فيه أبا حنيفة أو أحد أصحابه أو مالكا رضي اللّه عنهم، فكان يستغني أصحاب كتب الخلاف عن ذكر أقوال أحمد بذكر خلاف من تقدمه من الفقهاء، ولم يذع تدوين أقواله مع أقوال بقية الفقهاء في كتب الخلاف إلا في عهد ابن هبيرة الوزير فإنه لما ألف إفصاحه وخص من بين مجلداته مجلدا ضخما باختلاف الأئمة الأربعة، واعتنى به عناية تامة وسعى في نشره بصرف مبالغ طائلة، أخذ من يكتب في الخلاف يذكر أقوال أحمد من أقوال غيره من الأئمة، وكان ابن جرير أدركه سنا وأدرك أصحابه لقاء ومع ذلك لم يذكر أقواله فيما كتبه في اختلاف الفقهاء مع ذكره من هو على شاكلة أبي بكر عبد الرّحمن بن كيسان الأصم، فسأله الحنابلة عن ذلك فقال ما معناه: لم يكن أحمد من الفقهاء وإنما كان من أهل الحديث وما كنت لقيته حتى آخذ منه ولا لقيت أصحابا له يحق أن يؤخذ منهم فثارت ثائرة الحنابلة عليه وجرى ما ينقله ياقوت في معجم الأدباء وابن الأثير في كامله. (ز).