والجبال التي فيها برد الكيفيات ذاتها وقد انقسمت إلى كيفيات مظلمة وكيفيات مضيئة ، فما في وجود الإنسان إلا كيف مؤمن وكيف كافر .. كيف يعتمد الروح ، وينطلق منه أساسا كما فعل هيجل ، وكيف يعتمد المادة وينطلق منها أساسا كما فعل ماركس .. والفريقان انشطار فعلي للروح العلمي إخراجا للمضامين ، سبحانه هو القائل : (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ) [التّغابن : ٢] ، وليس ثمت فوقه قاهر أو تحته أو دونه ليفعل ذلك ، وهذا ما عبرت عنه الآية بالمشيئة الإلهية التي تسبق الإرادة والقدرة الإنسانيتين.
وقوله : (يَكادُ سَنا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ) إشارة إلى حقيقة الجبروت الإلهي المستسر في بطنان الكيفيات ، فتظهر الكيفيات وتمارس عملها على يد الإنسان ، فيحسب الإنسان أنه هي ، وأنها هو وأنها له ، وأنه شاءها واختارها بينما العكس هو الصحيح ، فليس الإنسان هو الذي يختار بل صفته هي التي تختار كما قال سبحانه : (يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ) ثم تبت أخيرا القضية ، وتتخذ القرار كما قال سبحانه : (وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ) [الرّعد : ٣٩] ، ولهذا يتصف الكريم بصفة الكرم ، ولا يستطيع أن ينقلب إلى ضدها ولا يقبل ، وكذلك من يسر للعلم طلب العلم ، وبذل في سبيل تحصيله حياته وماله حتى وصف الإمام الشافعي بأنه وحش علم.
والذهاب بالأبصار ظهور الحقيقة الذوقية التي تكشف عن كون الله صاحب الكيف وصاحب الفعل ، وأن ليس للإنسان إلا التنفيذ ، وما مصطلح الفناء إلا تعبير عن المقام الذي يعيشه المكاشفون حين يكاشفون بحقيقة الجبروت الذي هو من وراء كل شيء محيط ، والذي هو فوق العباد قاهر ، والذي هو الذات وله الصفات ، وسأل سائل البسطامي متى يصل العبد إلى الله؟ فأجاب يا مسكين ، وهل وصل إليه أحد؟ لو بدا للخلق منه ذرة ما بقي الكون ولا ما هو فيه ، وقال أيضا : المؤمن بلا نفس ، وقرأ (إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ) [التّوبة : ١١١] فمن باع نفسه فكيف تكون له نفس؟
٤٤ ـ (يُقَلِّبُ اللهُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ (٤٤))
[النور : ٤٤]
سبق أن قلنا الليل ليل المادة والنهار نهار الروح ، أو أن الليل هو الروح باعتبار خفاء الروح ، والنهار نهار المادة باعتبار ظهور المادة ، فالتأويل يحتمل حمل المبنى على معان عديدة ، وهذا ما أشار إليه صلىاللهعليهوسلم قائلا : (ما من آية في كتاب الله إلا ولها ظهر وبطن ، ولبطنه بطن إلى سبعة أبطن ..) أي أن التأويل والتفسير أبطن لا بطن واحد ، وهذا دليل على عظمة القرآن وإعجازه.
إلا أن للتأويل قواعد وأحكاما لا خروج عليها ، وهو علم دقيق يسر الله له أهله من الأنبياء والأولياء ، وأصله الرؤيا التي أراها الله الأنبياء مثل إبراهيم ويوسف ومحمد عليهمالسلام ، فمن خلال