لو لا هذا التضاد ما كان ثم داع للجهاد والمجاهدة ، وأنه لو لا الجهاد ما
ميز المجاهد الخير من الشر كما قلنا ... أي أنه يكتشف أن التجربة الإنسانية سلسلة
ذات حلقات كاملة متكاملة لا يمكن إسقاط حلقة منها ، وأنه بفضل هذا الصراع وصل
الإنسان إلى ربه وإلى تعرف ربه عند ما تعرف إليه في النهاية ربه.
هذا المقام هو
ما سمته الصوفية المكاشفة ، وكنا تحدثنا عنه من قبل ، ومنه ينتقل الإنسان المكاشف
إلى المشاهدة بعد المرور بمرحلة التعليم اللدني وتعريفه استنباط المعقولات الإلهية
من دون قياس منطقي ودليل منطقي ، ثم استنباط الحكم والأخلاق والشرائع من هذه
المعقولات التي تأخذ في تعليم القلب عن طريق الرؤى في المنام ، وهذا المقام هو
مقام النبوة ، وقال فيه عليهالسلام الرؤيا الصالحة جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة ،
وقال أيضا لم يبق من النبوة إلا الرؤيا الصالحة ، وقال علماء أمتي كأنبياء بني
إسرائيل ، فالرؤيا الصالحة تولي الله الإنسان بالتعليم. وقال الدكتور مصطفى حلمي
إن كان صاحب المنام من الصوفية ، فهو عندئذ من الأولياء الذين كشف عنهم الحجاب ،
وانفتح لهم من علم الغيب كل باب ، ورؤياه التي رآها في منامه ، وصدقت في يقظته
إنما هي كرامة من كراماته ، وقال الدكتور حلمي أيضا يرى القشيري أن الرؤى مصدر من
مصادر المعرفة ، وكان اهتمامه بالرؤى يدل على أن سمة من سمات تجربته الذاتية تمتد
من حياته الروحية إلى بحوثه ، وتدعوه إلى الاهتمام بها والتعويل عليها.
والخلاصة أن
الصوفية عموما يعتمدون اعتمادا كليا على الرؤى لأنها الطريق الوحيد إلى عالم
الباطن أي عالم الروح والحقيقة ، ولهذا قلنا إن ميدان هذا العالم الشعور والوجدان
لا العقل العادي أو الفكر.
٧٨ ، ٧٩ ـ (وَداوُدَ
وَسُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ
وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ (٧٨) فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ وَكُلاًّ آتَيْنا
حُكْماً وَعِلْماً وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ
وَكُنَّا فاعِلِينَ (٧٩))
[الأنبياء : ٧٨
، ٧٩]
داود وسليمان
إشارة إلى حال النبي والعارف بعد العروج إلى سماء إبراهيم حيث البيت المعمور
بملائكة المعقولات ، فلإبراهيم كل المعقولات وهو حر في التصرف فيها ، ولهذا كانت
النار بردا وسلاما عليه ، والنبي أو العارف بعد الوصول إلى شمس الوصول ، كما قال
الغزالي ، يجد نفسه في كل موقف أمام خيارين ، فهو من ناحية بشر من لحم ودم يعيش
كما يعيش الناس ، لكنه يزيد عليهم في الوحي أو الكشف ، كما سئل السهروردي يوما أأنت
أفضل