٢٦ ـ (قَدْ مَكَرَ
الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ فَخَرَّ
عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا
يَشْعُرُونَ (٢٦))
[النحل : ٢٦]
لا يفهم بطن
هذه الآية إلا صاحب الرؤيا والكشف ... ، وكنا قد تحدثنا عن المكر الإلهي من قبل ،
ووصف سبحانه نتائج هذا المكر بأنه يأتي البنيان من القواعد ، ويخر من ثم السقف ...
والسر كله في الإلهام والملهم ، وفي كتابنا «النصوص في مصطلحات التصوف» قلنا : إن
للعين الإنسانية عينا أقدم منها وأرسخ وهي التي تربط وتقطع وتبت ، فالأمر أشبه
بقاطرة ومقطورة ، فإذا كان الوجود ظاهرا وباطنا قطار فالقاطرة الحق والمقطورات
الوجود العياني.
وعلى هذا
الأساس فالوجود هو البنيان الوارد ذكره في الآية ، وإتيان الله هذا البنيان من
القواعد يعني أن قواعد البنيان محمولة على القاعدة الإلهية ، أي أن مقطورات الوجود
تجرها القاطرة الإلهية ، فلا بنيان من غير قواعد ، ولا قواعد من غير قاعدة أساسية
أو قل أرضية أساسية ، والسقف إشارة إلى الغطاء ، والغطاء حجاب ، وقلنا : إن فهم
الآية رهن بالذوق والكشف ، وعليه فالسقف يخر لما يرى الرائي أن الحجب كشفت فإذا
الله تحت السقف مثلما هو فوقه ، وإلى هذا أشار صلىاللهعليهوسلم قائلا : (إن لله سبعين ألف حجاب من نور وظلمة لو كشفها
لا حرقت سبحات وجهه ما أدركه البصر من خلقه) ، ولقد سأل رجل البسطامي : متى يصل
العبد إلى الله؟ فقال : يا مسكين وهل وصل إليه أحد؟ لو بدا للخلق منه ذرة ما بقي
الكون ولا ما هو فيه ، وقال في المكر الإلهي : لا يأمن قلب العارف من مكره وإن
نودي بالغفران ، وسئل عن الاسم الأعظم فقال : في قولك لا إله إلا الله ، وأنت لا
تكون هناك.
وقوله سبحانه :
(لا
يَشْعُرُونَ ،) يعني أن الناس لا يشعرون بهذه الحضرة القاهرة الآمرة
الباطنة الظاهرة والحاكمة بأمرها في الوجود ، إلا الله كما قال البسطامي ، ولهذا
قال الصديق الأكبر : (ما رأيت شيئا إلا رأيت الله قبله) ، وقال لبيد : ألا كل شيء
ما خلا الله باطل ، وعلق النبي صلىاللهعليهوسلم على ذلك قائلا : (أحسن بيت قالته العرب قول لبيد).
٢٧ ـ (ثُمَّ يَوْمَ
الْقِيامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ
تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ
وَالسُّوءَ عَلَى الْكافِرِينَ (٢٧))
[النحل : ٢٧]
استثنت الآية
أولي العلم وهم أصحاب الكشف كما قلنا ، فهؤلاء الذين استشهدوا فشهدوا كيف يكون
الخزي والسوء على الكافرين.
وقوله : (الْيَوْمَ ،) إشارة إلى اليوم الإلهي العالي على اليوم الزماني
العادي ، والذي ورد ذكره في موضع آخر كقوله تعالى : (تَعْرُجُ
الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ