وتطبع في شغافه صور المعقولات ، وهذا ما أكده جواب يوسف : (هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي) إذ القلب من غير نفس صفحة بيضاء لا صور فيها بل ولا حياة.
وقوله شهد شاهد من أهلها يعني شهادة الروح ذاته على النفس. وللقول لطيفة ، فلقد جاء في التفاسير أن هذا الشاهد كان صبيا في المهد ، وكذلك قال رسول الله .. وكون الشاهد صبيا في المهد يذكر بعيسى ابن مريم الذي تكلم في المهد صبيا ، فالحالان متشابهان ، والإشارة إلى ظهور الروح من بطنان النفس بعد إتمام عملية طبع المعقولات الحسية لتبدأ مرحلة الشهادة الذاتية ، وهي شهود الله نورا ساريا في المخلوقات عامة ، وفي قلب ابن آدم خاصة. وظهور نور الروح هو الذي يضع النقاط على الحروف ويؤتي كل ذي حق حقه. فللنفس دور في تعليم الإنسان ، وهذا ما أشارت إليه الآية قائلة : (فَلَمَّا رَأى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ) ثم يأتي دور الروح المعلم ، وهو دور سيأتي ذكره في بقية القصة.
٢٩ ـ (يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخاطِئِينَ (٢٩))
[يوسف : ٢٩]
مخاطبة الروح القلب بالكف عن الأخذ من العالم الخارجي بواسطة النفس ، لأن ما أخذ قد أخذ وهو كاف. وقوله : (وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ) مخاطبة الروح النفس بأن تكف هيمنتها على القلب ، وذلك بظهور نور الروح النفسي الذي يزيح صوت النفس جانبا ، ويهتك سرها ، وهو كونها زوج الروح وقطعة منها وشطرا مثل دور المقابلة ، ومثل دور الفعل بكونه واسطة. وقال عبد الكريم الجيلي : النفس تسمى في الإصطلاح على خمسة أضرب : حيوانية ، أمارة ، ملهمة ، لوامة ، مطمئنة ، وكلها أسماء الروح ، إذ ليس حقيقة النفس إلا الروح ، وليس حقيقة الروح إلا الحق.
٣٠ ـ (وَقالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُراوِدُ فَتاها عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَها حُبًّا إِنَّا لَنَراها فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٣٠))
[يوسف : ٣٠]
النسوة الأسماء ، وقد سبق وغارت هذه الأسماء التي مثلت بإخوة يوسف في بداية القصة ، فعادت هذه الأسماء لتمثيل دور الغيرة من زليخا النفس المتعلقة بالقلب ، والتي تحاول أن يكون لها فيه حصة حتى بعد ظهور نور الروح.
٣١ ـ (فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ واحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً وَقالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حاشَ لِلَّهِ ما هذا بَشَراً إِنْ هذا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ (٣١))
[يوسف : ٣١]