فما الطبيعة أولا ، وما الخلق ثانيا؟ ونحن قد شرحنا وبيّنا في كتبنا «فتح الوجود» و «الإنسان الكامل» و «النصوص في مصطلحات التصوف» معتمدين أحدث النظريات العلمية تفسيرا ذريا للوجود ، كيف أن الوجود الظاهري يرد بعد التحليل إلى مجرد ذرات ، ذرات سالبة وذرات موجبة ، وأن هذا السالب وهذا الموجب هما قطبا الألوهية ، لأن هذه الذرات ذات أصل هو السديم الأول الذي هو ذر لطيف تكثف فكون عالم الأجرام.
وفي كتابنا «الإنسان الكبير» بيّنا وشرحنا كيف يكون الله أساس الوجود وباطنه ، كما شرحنا كيف يحرك الله عالم الذر أولا ، ثم عالم الخلق على جميع المستويات ، وأنه هو روح الجماد وروح النبات وروح الحيوان ، ثم هو أخيرا الروح اللطيف الساري في الإنسان ، وأنه هو حقيقة الإنسان.
فمعنى التوحيد شرح معنى لا إله إلا الله ، أي لا وجود ولا موجود إلا الله ، وهذه الحقيقة هي ما أشارت إليها الحروف الثلاثة التي ابتدأت بها سورة هود.
والنبي صلىاللهعليهوسلم رأى كشفا هذه المكاشفات التي أطلعته علما على سر الوجود وحقيقته ، وهو القائل : (لي وقت لا يسعني فيه إلا ربي) ، أي أنه في حال لا يجد فيه من هذا الوجود إلا ربه ، لأن فعل وسع من السعة ، والسعة للوجود ... كما تذكر عائشة رضي الله عنها أنها دخلت على النبي صلىاللهعليهوسلم يوما فوجدته ذاهلا ، نظر إليها وسألها : (من أنت؟ قالت : عائشة ، قال : ومن عائشة؟ قالت : زوجة محمد ، فقال : ومن محمد؟) فهو عليه الصلاة والسّلام عاش الفناء الذاتي لما قال لعائشة ما قال وهو في حال انتفى فيه كل شيء من حوله حتى وجوده هو نفسه.
هذه الحقيقة العرفانية هي ما يصل إليها المكاشفون المحققون بعد أن يبلغوا درجة القرب الإلهي ، وهو قرب بلا قرب ، لأنه لا يعود هناك عبد ورب ، بل رب واحد أحد يقول لعبده الذي هو نفسه ، ونفسه مرآته سبحانه ، يقول له ها أنذا ... ولهذا قال صلىاللهعليهوسلم : (شيّبتني هود وأخواتها) ، لأن في سورة هود الإشارات إلى الحقيقة الكاشفة ذوقا وعرفانا معنى لا إله إلا الله.
٥ ـ (أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيابَهُمْ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٥))
[هود : ٥]
الثياب الصفات ، والتغطي بالثياب الظهور بالصفات باعتبارها إنسانية ، وما للإنسان دور في هذا المجال ، فالكريم يولد كريما ، والشجاع كذلك ، قال عثمان رضي الله عنه لما طلب إليه النزول عن الحكم : (لا أنزع سربالا سربلنيه الله).
وقوله : (يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ) يعني كون السريرة من مجاله تعالى ، وسبق أن قلنا :