سبق أن تكلمنا عن مقام الإحسان الذي هو كما عرفه النبي صلىاللهعليهوسلم : (أن تعبد الله كأنك تراه ، فإنك إن لم تكن تراه فإنه يراك) ، ولما سئل النبي صلىاللهعليهوسلم عما إذا كان يرى ربه فقال : (نورا إني أراه) ، وفسر ابن عربي هذا الجواب على أساس أنه سؤال بدوره حيث يصبح جواب النبي كالتالي : نورا إني أراه؟ أو كالتالي نورانيا أراه؟ أي إذا كان الله نورا فكيف يرى؟
والمهم القول إن المحسن يعبد ربه وكأنه يراه ، وهو يراه بظواهر كما قال البسطامي : إذا رآه العارفون أول مرة جعل لهم سوقا ما فيه بيع ولا شراء إلا الصور من الرجال والنساء ، فإذا دخل أحدهم السوق لم يرجع إلى زيارة الله أبدا ، فالمحسن لهذا عارف ، ولهذا فهو مرحوم ، أي أتته رحمة الله وهي العلم اللدني المتفجر من عين البصيرة.
٥٧ ـ (وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ سَحاباً ثِقالاً سُقْناهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنا بِهِ الْماءَ فَأَخْرَجْنا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ كَذلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (٥٧))
[الأعراف : ٥٧]
تؤكد الآية تأويلنا الآية السابقة إذ تحدثت عن الريح التي هي بشرى بين يدي رحمته الله فالريح ريح الهداية ، والسحاب مطالع العلم اللدني الظاهر بصور الأسماء ، والبلد الميت القلب الذي هو بمثابة الميت لحرمانه من معرفة الله ، والماء تفاصيل العلم الإلهي نفسه ، والثمرات ثمار هذا العلم الذي ما تزال آثاره تثير دهشة العالم وإعجابه ، وما قولك في أعمال خالدة كالتي دبجتها يراعة حجة الإسلام الإمام الغزالي «إحياء علوم الدين» ، ويراعة فريد الدين العطار «منطق الطير» ، ويراعة جلال الدين الرومي «المثنوي» ويراعة ابن سبعين «بد العارف» وغير ذلك من المؤلفات الخالدة ، وقال الغزالي في وصف هؤلاء الأعلام : ما جعل لغيرهم وعدا جعل لهم نقدا وما جعل لغيرهم غيبا شاهدوه عيانا ، فهم في زواياهم وعلى سجاداتهم ، وهم في الشرق وهم في الغرب ، وهم في الفرش وهم في العرش ، وهم وإن لم يعرجوا بأشباحهم فقد عرجوا بأرواحهم ، وإن لم يشاهدوا الحق بأبصارهم فقد شاهدوه بأسرارهم ، فهم صفوة الحق ومقصود الكون من الخلق ، بهم يرزقون وبهم ينصرون ، أخلصوا لله في العبودية والتوحيد ، وصدقوا في الإرادة والتجريد ، فطوبى لهم بل طوبى لمن آمن بهم.
وقال ابن سبعين في الغزالي : هذا الرجل أفهم فلاسفة الإسلام ، وأذكرهم للعلوم القديمة ، وهو الفيلسوف فيها لا غير ، وقال ماسينيون : ما أنجب الفكر الإسلامي مفكرا مثل الغزالي ، وقال القشيري : العلم اللدني هو الذي ينفتح في بيت القلب من غير سبب مألوف من الخارج ، وللقلب بابان باب إلى الخارج يأخذ العلم من الحواس ، وباب إلى الداخل يأخذ العلم بالإلهام ، فمثل القلب كمثل الحوض الذي تجري فيه أنهار خمسة ، فلا يخلو ماؤه عن كدورة