قوله : (إِنَّ اللهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ) يعني كونه سبحانه متصفا بالحق والكمال والجمال ، وجمع أفلوطين هذه الصفات كلها في صفة واحدة هي الخير ، فالجمال مثلا ناجم عن كونه تعالى خيرا ، ثم عن كونه حقا ، أما الصوفية فلقد رفعوا شعارا آخر هو كونه تعالى الحي ، القيوم ، فحتى صفة الخير هي نتيجة من كونه تعالى الحي ، وكل ذي حياة بضع منه وفرع وصدور ، وما دام سبحانه الحي فلا وجود للفحشاء بوجوده ، وما الفحشاء حتى تقرن بوجود الحياة؟ وما الفحشاء إلا خروج على الصراط تحقيقا لأهداف الصراط نفسه ، ولهذا أجمعت الفلاسفة الموحدون أمثال لا يبنتز واسبينوزا وأفلاطون ، ومعهم الصوفيون على أن لا وجود للشر بذاته ، أي كونه قائما بذاته ، أي موجودا بوجوده وحده ، وإنما الشر نتيجة عملية الانشطار الوجودية التي قصدها ومآلها ظهور الجمال الإلهي ، فالشر إذن محرك وباعث ، فهو بهذا القصد البعيد خير أيضا ، وإن بدا في أثواب سود.
٢٩ ـ (قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ (٢٩))
[الأعراف : ٢٩]
القسط العدل ، والكون كله مخلوق على عدل وجودي بدأ العلماء المحدثون يكتشفون قوانينه وأسراره وآثاره في الطبيعة ، فسموه التناغم ، وسموه التوافق ، وسموه التوازن البيئي ، وتوصل علماء الطبيعة ، بعد دراسة للأنهار التي من المعروف أنها تغير مجراها على الدوام ، إلى نتيجة مفادها أن للنهر حكمة في تغيير مجراه ، وأنهم لم يعرفوا بعد كل أبعاد هذه الحكمة ، ففي كل ما يظهر من تناقض كوني وجودي كوجود الآكل والمأكول والقوي والضعيف والوحشي والأليف هناك عدل وجودي هو أساس بناء الوجود العياني.
وقوله : (وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ) يعني إجعلوا وجوهكم أي ذواتكم وقلوبكم عند المسجد الذي هو جامع ، أو هو ممثل العين الجامعة ، والمعنى يؤكد تأويلنا الشطر الأول من الآية وهو أن ينظر المرء إلى التناقضات الوجودية بعين التوحيد ، وسمى سبحانه هذه النظرة التوحيدية الإخلاص في الدين.
٣٠ ـ (فَرِيقاً هَدى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ اللهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (٣٠))
[الأعراف : ٣٠]
سبق أن تكلمنا عن الهداية والضلالة وكلاهما من الله قالت عائشة رضي الله عنها : (أتي النبي صلىاللهعليهوسلم بصبي من الأنصار يصلي عليه ، قالت : قلت يا رسول الله طوبى لهذا لم يعمل شرا ولم يدر به ، قال : أو غير ذلك يا عائشة ، إن الله خلق الجنة وخلق لها أهلا ، وخلقها لهم وهم في أصلاب