واختلف العلماء في المراد بقوله : (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ).
فقالت جماعة : المراد : اليهود بالكافرين والظّالمين والفاسقين ؛ وروي في هذا حديث عن النبيّصلىاللهعليهوسلم من طريق البراء بن عازب ؛ قال الفخر (١) : وتمسّكت الخوارج بهذه الآية في التكفير بالذّنب ، وأجيب بأنّ الآية نزلت في اليهود ، فتكون مختصّة بهم ، قال الفخر : وهذا (٢) ضعيف ؛ لأن الاعتبار بعموم اللفظ ، لا بخصوص السبب.
قلت : وهذه مسألة خلاف في العامّ الوارد على سبب ، هل يبقى على عمومه ، أو يقصر على سببه (٣)؟ انتهى.
وقالت جماعة عظيمة من أهل العلم : الآية متناولة كلّ من لم يحكم بما أنزل الله ، ولكنّها في أمراء هذه الأمّة ـ كفر معصية ؛ لا يخرجهم عن الإيمان (٤) ، وهذا تأويل حسن ،
__________________
(١) ينظر : «مفاتيح الغيب» (١٢ / ٦)
(٢) ينظر : «مفاتيح الغيب» (١٢ / ٦)
(٣) ينظر : «تفعيل مذاهب علماء الأصول في البحر المحيط» (٣ / ٢١٢)
(٤) قد ورد في القرآن آيات يؤخذ منها حكم ترك العلم بما أنزله الله تعالى من الأحكام. ومن تلك الآيات قوله تعالى : (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ) [المائدة : ٤٤]. وقوله تعالى : (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) [المائدة : ٤٥]. وقوله : (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ) [المائدة : ٤٧]. وقوله : (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً) [النساء : ٦٥].
ففي الآيات الأول وصف الله ـ تعالى ـ من لم يحكم بما أنزله بالكفر ، والظلم والفسق ، وفي الآية الأخيرة أقسم أنه لا يوجد الإيمان إلا إذا حكم الرسول في الشجار ، ولم يوجد في النفوس حرج من حكمه ، وسلم له كل التسليم. وذلك لأن الرسول لا يحكم إلا بما يشرعه الله له. فمن لم يرض بحكمه ، فهو غير راض بشرعه ، تعالى ، وذلك يقتضي عدم الإيمان. ثم إن الكفر ، والظلم والفسق التي وصف الله تعالى بما من لم يحكم بما أنزله واردة في تلك الآيات بمعناها اللغوي. وهي في اللغة تصدق على كل معصية ، سواء كانت كفرا أو غيره ، فمن فعل معصية دون الكفر صدق عليه لغة أنه كافر ، وظالم ، وفاسق. وكذلك من كفر بالله تعالى يصدق عليه في اللغة أنه كافر وظالم وفاسق. وعلى هذا فهذه الآيات محتملة لأن يراد منها الكفر الاصطلاحي وهو الخروج من الملة ، ولأن يراد منها ما دون ذلك من المعاصي. ولهذا اختلفت أقوال المفسرين فيها ؛ فمنهم : من حمل الكفر وغيره فيها على الاصطلاحي وقال : إنها خاصة بأهل الكتاب. ومنهم من قال : المراد من هذه الأوصاف ما دون الكفر الاصطلاحي من المعاصي الكبيرة ، ومن هؤلاء ابن عباس ، وعلي بن الحسين ؛ فقد نقل عنهما أنهما قالا فيها : كفر ليس ككفر الشرك ، وظلم ليس كظلم الشرك ، وفسق ليس كفسق الشرك. والمراد : أن عدم الحكم بما أنزل الله ، وتركه إلى غيره ليس كفرا بمعنى الخروج من الدين ، ولكنه من أكبر الذنوب. ـ