الأيام على قديم الدهر وغابره أيضا إنما جعلها دولا بين البشر ، أي : فلا تنكروا أن يدال عليكم الكفّار.
وقوله تعالى (١) : (وَلِيَعْلَمَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا) ، تقديره : وليعلم الله الذين آمنوا فعل ذلك ، والمعنى : ليظهر في الوجود إيمان الذين قد علم الله أزلا ؛ أنهم يؤمنون وإلّا فقد علمهم في الأزل ، (وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ) : معناه أهل فوز في سبيله ، حسبما ورد في فضائل الشهداء ، وذهب كثير من العلماء إلى التّعبير عن إدالة المؤمنين بالنّصر ، وعن إدالة الكفّار بالإدالة ، وروي عن النبيّ صلىاللهعليهوسلم في ذلك حديث ؛ «أنّهم يدالون ؛ كما تنصرون» والتمحيص : التنقية ، قال الخليل : التّمحيص : التخليص من العيب ، فتمحيص المؤمنين / هو تنقيتهم من الذّنوب ، والمحق : الإذهاب شيئا فشيئا ؛ ومنه : محاق القمر ، وقوله سبحانه : (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ ...) الآية : حسبتم : معناه : ظننتم ، وهذه الآية وما بعدها عتب وتقريع لطوائف من المؤمنين الّذين وقعت منهم الهنوات المشهورة في يوم أحد ، ثم خاطب الله سبحانه المؤمنين بقوله : (وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ) ، والسبب في ذلك أنّ النبيّ صلىاللهعليهوسلم خرج في غزوة بدر ، يريد عير قريش مبادرا ، فلم يوعب النّاس معه ؛ إذ كان الظنّ أنه لا يلقى حربا ، فلمّا قضى الله ببدر ما قضى ، وفاز حاضروها بالمنزلة الرّفيعة ، كان المتخلّفون من المؤمنين عنها يتمنّون حضور قتال الكفّار ؛ ليكون منهم في ذلك غناء يلحقهم عند ربّهم ونبيّهم بمنزلة أهل بدر ، فلمّا جاء أمر أحد ، لم يصدق كلّ المؤمنين ، فعاتبهم الله بهذه الآية ، وألزمهم تمنّي الموت ؛ من حيث تمنّوا أسبابه ، وهو لقاء العدوّ ومضاربتهم ، وإلّا فنفس قتل المشرك للمسلم لا يجوز أن يتمنّى ؛ من حيث هو قتل ، وإنما تتمنّى لواحقه من الشهادة والتّنعيم ، قلت :
وفي كلام ع (٢) : بعض إجمال ، وقد ترجم البخاريّ تمنّي الشهادة ، ثم أسند عن أبي هريرة ، قال : سمعت النّبيّ صلىاللهعليهوسلم يقول : «والّذي نفسي بيده ، لو لا أنّ رجالا من المؤمنين لا تطيب أنفسهم ؛ أن يتخلّفوا عنّي ، ولا أجد ما أحملهم عليه ، ما تخلّفت عن سريّة تغزو في سبيل الله ، والذي نفسي بيده ، لوددتّ أنّي أقتل في سبيل الله ، ثمّ أحيا ثمّ أقتل ، ثمّ أحيا ثمّ أقتل ، ثمّ أحيا ثمّ أقتل» وخرّجه أيضا مسلم (٣) ، وخرّج البخاريّ ومسلم من حديث
__________________
(١) في أ : سبحانه.
(٢) ينظر : «المحرر الوجيز» (١ / ٥١٥)
(٣) أخرجه البخاري (٦ / ١٤٤) ، كتاب «الجهاد» ، باب الجعائل والحملان في السبيل ، حديث (٢٩٧٢) ـ