وإما بأن يكون بسماع كلام من وراء ستار أو حجاب ، أي من خفاء عن المكلّم ، لا يستطيع تحديده أو تصوره بذهنه ، ومن غير واسطة ، متيقنا أنه كلام الله من حيث لا يرى ، كما كلم الله موسى عليهالسلام من وراء الشجرة المباركة ، وكان موسى قد طلب رؤية الله بعد التكليم ، فحجب عنها. وإما بأن يكون بوساطة إرسال رسول من الملائكة إما جبريل أو غيره ، فيوحي ذلك الملك إلى الرسول من البشر بأمر الله وتيسيره ما يشاء أن يوحي إليه ، وهذا دليل على أن الرسالة من أنواع التكليم.
ثم أوضح الله تعالى تشابه الوحي بين النبي محمد وبين من تقدمه من الأنبياء عليهم الصلاة والسّلام ، وهو أنه مثلما أوحينا إلى سائر الأنبياء. أوحينا إليك يا محمد هذا القرآن الذي هو من أمر الله عزوجل ، وهو بمثابة الروح حياة للأنفس وإنارتها بعد ظلامها وجهالتها ، ومبدأ للحضارة والعلم والتقدم ، والحد الفاصل بين عهدين : عهد الأمية والجهالة والفوضى ، وعهد العلم والمعرفة والنظام ، فالروح في هذه الآية : هو القرآن الكريم وهدى الشريعة ، سمّاه الله روحا ، لأنه يحيي به البشر والعالم ، كما يحيي الجسد بالروح ، فهذا على جهة التشبيه. وقوله : (مِنْ أَمْرِنا) أي واحد من أمورنا أو كلامنا.
وإنزال القرآن على قلب النبي صلىاللهعليهوسلم دليل على مقدار النعمة ، فأنت أيها النبي رجل أمي لا تقرأ ولا تكتب ، ولم تكن قبل القرآن المنزل عليك تعرف ما القرآن ، وما معنى الإيمان ، ولا تفاصيل الشرائع ، ولكن جعلنا هذا القرآن الذي أوحيناه إليك ضياء ونورا ، نهدي به من نشاء هدايته ، أي نرشد ، لأنه النور الذي يهتدي به الناس في ظلمات الحياة ، كما جاء في آية أخرى : (إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً (٩)) [الإسراء : ١٧ / ٩]. والضمير في جعلناه : عائد على القرآن.