لقد استغل إبراهيم عليهالسلام موضع الحجة حينما قالوا : إن الأصنام لا تنطق ، فكلمهم موبخا على عبادتهم تماثيل لا تنفع بذاتها ولا تضر ، ثم حقّر شأنها ، وأزرى بها حين قال : (أُفٍّ لَكُمْ). وهذه لفظة تقال عند المستقذرات من الأشياء ، فيستعار ذلك للمكروه من المعاني ، كهذا وغيره.
ولما تفوق إبراهيم عليهالسلام بحجته الدامغة على قومه ، وظهر الحق ، وبان زيف الباطل ، لجؤوا إلى الإيذاء والإضرار ، والتخلص من إبراهيم جسديا ، فقال بعضهم لبعض ، والقائل هو نمروذ بن كنعان ، أو رجل من أتباعه : احرقوا إبراهيم بالنار ، وانصروا آلهتكم إن كنتم ناصريها حقا ، فجمعوا حطبا كثيرا ، ورموا إبراهيم من أعلى منجنيق ، بعد أن شدّ برباط ، ووضع في كفة المنجنيق ، ثم ألقي في النار.
ولكن الله غالب على أمره ، وقاهر كل شيء ، وحافظ رسوله ونبيه ، فحماه وعصمه من أذى النار ، وسلب تأثير النار فيه ، وقال : (يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ) أي كوني بردا غير ضار ، فكانت النار وسطا لا حامية ولا باردة ، ولو قال : «كوني بردا» فقط ، ولم يقل : «وسلاما» لكان بردها أشد عليه من حرها. وبرودتها حدثت بنزع الله عنها طبعها من الحر والإحراق ، بعد أن احترق الحبل الذي ربط به إبراهيم فقط ، وبقيت إضاءة النار وإشراقتها واشتعالها كما كانت ، والله على كل شيء قدير. قال بعض العلماء : إن الله تعالى لو لم يقل : «وسلاما» لهلك إبراهيم من برد النار.
روى البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما : أن إبراهيم لما ألقوه في النار ، قال : «حسبي الله ونعم الوكيل» وقالها محمد عليهماالسلام حين قالوا (أي المشركون): (إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً وَقالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ) [آل عمران : ٣ / ١٧٣].