ومن الناس من يحتجّ بقوله : (فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ) في إيجاب الفرقة بين المعسر العاجز عن النفقة وبين امرأته ؛ لأنّ الله خيّرهم بين أحد شيئين ؛ فإذا عجز عن أحدهما تعيّن عليه الثاني. قلت : هذا الاحتجاج بعيد من الآية ؛ لأن العاجز عن نفقة المرأة ممسك بالمعروف إذ لم يكلّف الإنفاق في هذه الحالة ، قال الله تعالى : (وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللهُ لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا ما آتاها)(١) وغير جائز أن يقال للمعسر : غير ممسك بالمعروف ؛ إذ ترك الإمساك بالمعروف ذمّ ؛ والعاجز غير مذموم.
قوله عزوجل : (وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ إِذا تَراضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ؛) قال الحسن وقتادة : (نزلت هذه الآية في معقل بن يسار ، كانت أخته جميل (٢) تحت أبي البدّاح طلّقها تطليقة واحدة ثمّ تركها حتّى انقضت عدّتها ، ثمّ ندم على طلاقه إيّاها ؛ فخطبها فرضيت المرأة بذلك وأحبّت أن تراجعه ، وأبى أخوها معقل وقال لها : إنّي اخترته على أشراف قومي فطلّقك ، ثمّ تريدين أن تراجعيه؟! وجهي من وجهك حرام أبدا لأن تزوّجتيه. فأنزل الله هذه الآية ينهى معقلا عمّا صنع) (٣).
وروي أنّ أبا البدّاح لمّا طلّقها وتركها حتّى انقضت عدّتها جاء يخطبها وأراد مراجعتها ، وكانت المرأة تحبّ مراجعته ، قال له أخوها : أفرشتك كريمتي وآثرتك على قومي فطلقتها ولم تراجعها حتّى انقضت عدّتها ، وجئت تخطبها؟! والله لا أنكحها أبدا. فأنزل الله هذه الآية (٤).
ومعناها : (وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ) واحدة أو اثنتين ، (فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ) يعني انقضت عدّتهن ، وأراد ببلوغ الأجل في هذه الآية حقيقة البلوغ بانقضاء العدّة ، (فَلا
__________________
(١) الطلاق / ٧.
(٢) في الاستيعاب في معرفة الأصحاب : ج ٤ ص ٣٦٤ : الترجمة (٣٣١٠) ؛ قال ابن عبد البر : «جميل بنت يسار أخت معقل ، سمّاها الكلبيّ في تفسيره».
(٣) أخرجه الطبري بأسانيد في جامع البيان : الحديث (٣٨٩٥ و ٣٨٩٠ ـ ٣٨٩٤).
(٤) أخرجه الطبري في جامع البيان : الحديث (٣٨٩٣).