الواضح على سفاهة عقولهم ، ودناءة أفهامهم ، وأفكارهم. ونحن نتحداهم
بالدليل القاطع ، وبأن يأتوا بالدليل العابر على انحطاط هذا القرآن ، وبقسميه
المكي ، والمدني ـ وأهل مكة اتصفوا بصعوبة المراس ، وشدة العناد ، والرغبة عن
الانقياد لما ينقذهم من شفا جرف انهار بهم في جهنم ـ فجاء القرآن مناسبا لمثل هذا
الوسط العنيد شديد المراس. وهل يطمعون أن يأتي قرآن سماته الليونة ، والتعطف في
المخاطبة ، والرجاء في الانقياد؟ فهذا ، والله ، ليس بالصالح لهم. وبذلك خاطبهم
بالحكمة الجادة ، والموعظة الصادقة لعلهم يؤمنون ، ولم يؤمنوا. فالله تعالى يقول :
(ادْعُ إِلى سَبِيلِ
رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ) سورة النحل آية ١٢٥. وهذه سمة القرآن الكريم في أسلوب
التقريع ، وبقسميه المكي ، والمدني ، وليس بالمكي فقط. فالله تعالى يقول في سورة
البقرة ، وهي مدنية : (إِنَّ الَّذِينَ
كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا
يُؤْمِنُونَ) آية ٦.
الثاني : إن
تفسير الانحطاط بقصر الآيات والسور ، أو الخلو من التشريع ، والتفصيل ، أمر لا
يمكن أن يخطر للعقول السليمة ، ولا يمكن أن يكون دليلا على الانحطاط المزعوم.
فالقصر هو مظهر الإيجاز ، وهو مظهر للرقي البلاغي ، والبياني في التخاطب. وقديما
قيل : خير الكلام ما قل ، ودل. ولنا القول المفعم بالثقة : إن قصر القرآن المكي
قصر رقي ، وليس قصر انحطاط. وهو قصر جاء في محله ، ووسطه ، وقديما قيل : لكل مقام
مقال ، وهو قصر جاء بمعناه ، ودلالته ، وخير الكلام ما كانت دلالته على معناه ،
فكان قصر بلاغة ، وفصاحة ، وبيان مناسبا لوسط أهل مكة المعروفين بالبلاغة ،
والفصاحة ، والبيان ، فأين الانحطاط ، وأين التسيب في القول أو الدلالة؟ وأين
الاختلال في الأداء ، والشرح ، والمعنى؟! وكذلك بالنسبة لخلو المكي من التشريع :
فكيف يفسر بالانحطاط ، وهو لم يخل من التشريع؟!! وكيف يفسر القرآن المكي بالانحطاط
، وقد أجاد التنقل في المخاطبة من وسط إلى وسط. وهل يعقل أن يبدأ القرآن في مكة
بتفصيل الأحكام ، وبيان التشريع ، وقبل أن يخاطب العقول ، ويطهرها من عقائد
الوثنية ، والكفر ، والشرك؟!!